ولد أبو جعفر بن عطية بمراكش سنة 517ه، واسمه كما في «الحلة السيراء»، أبو جعفر أحمد بن الكاتب أبي جعفر بن محمد بن عطية القضاعي، وذكر ابن الخطيب أنه أخذ عن والده وعن طائفة من شيوخ مراكش وعلمائها، كان والده كاتبا لأمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ثم كاتبا لولده تاشفين، فلما حاصر عبد المؤمن بن علي - خليفة المهدي بن تومرت الموحدي - فاس سنة 540 ه قتله،
ومعلوم أن الموحدين قد أعملوا السيف في فلول المرابطين لاستئصال شأفتهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا. في هذه الظروف نشأ أبو جعفر فتغير حاله من الرخاء إلى الشدة، كان نبوغه مبكرا إذ ألحق بديوان علي بن يوسف ولما يبلغ العشرين من عمره، لكن الدهر قلب له ظهر المجن، فخرج متخفيا بعد مقتل والده والتحق بالجندية وكان محسنا للرمي فكان إلى جوار أبي حفص عمر الهنتاتي، وفي بعض حروب أبي حفص على ثوار سوس طلب من أبي جعفر أن يرسل إلى عبد المؤمن يعلمه بالنصر، فظهرت لعبد المؤمن براعة أبي جعفر في الكتابة فقربه، وكانت دولته أحوج ما تكون إلى شاعر كاتب جهبذ مثله، وحسبنا من الأدلة على شاعريته في هذا المقام أن نشير إلى المساجلة التي حدثت بينه وبين عبد المؤمن بن علي ففيها نلمس علو كعب الرجل في القريض وسرعة بديهته، فقد حدث أنهما مرا بجارية بديعة الجمال ببعض طرق مراكش فقال عبد المؤمن :
قدت فؤادي من الشباك إذ نظرت
فأجاز أبو جعفر:
حوراء ترنو إلى العشاق بالمقل
فقال عبد المؤمن :
كأنما لحظها في قلب عاشقها
فأجاز أبو جعفر :
سيف المؤيد عبد المؤمن بن علي
ولا يتيسر هذا إلا لمتمكن، فعلى علو قدر أبي بكر بن عمار صاحب المعتمد في الشعر إلا أنه تعذر عليه أن يجيزه حين طلب منه المعتمد ذلك قرب ساقية للماء بعد أن قال: «صنع الريح على الماء زرد»، فصمت ابن عمار واحتبس الشعر على لسانه وأجابته اعتماد جارية الرميك بقولها : «أي درع لقتال لو جمد»، وكان ما هو معلوم من قصة زواجه بها، والشاهد عندنا في هذه القصة أن من ينظم الشعر من المهتمين بالأدب قلة ومن يرتجله من تلك القلة هم خاصة الشعراء وأئمتهم ولا بد أن ابن عطية كان منهم، فهذا شيخ الشعراء ومقدمهم أبو الطيب المتنبي لم يطاوله في القريض في عصره غير النامي، وكان النامي يقضي شهورا طويلة قبل أن يخلص إلى كتابة القصيدة الواحدة ولهذا لم يكن صاحب نفح الطيب مجانبا للصواب حين قال معلقا على هذه المساجلة الجميلة «ولا خفاء أن هذه طبقة عالية».
إن مقولة كل ذي نعمة محسود تتجلى واضحة في سيرة أبي جعفر، فهو لم يصطنع خصومه بأثرة عرفت عنه، أو بغلظة في طباعه، لكن المواهب كثيرا ما تجلب على أصحابها من النقم أضعاف ما تجلب لهم من النعم، فالشاعر ابن حبوس الذي غمره ابن عطية بكرمه ورد عنه خصومه وقربه منه فكان من مدائحه فيه أيام مجد أبي جعفر وصولته :
وزير العلا عندي من القول فضلة
رويتها في مدحكم وارتجالها
وما كنت أخشى مدة الدهر أن أرى
تميد بي الدنيا وأنتم رجالها
لم يلبث أن انقلب عليه فيمن انقلب من الناس فقال فيه :
أندلسي ليس من البربر
يختلس الملك من البربر
ومروان ابن عبد العزيز يبذل وسعه في الدس عليه لدى الأمير فيتهمه صراحة بالتآمر على الموحدين في قصيدة ألقاها بين يدي عبد المؤمن :
قل للإمام أطال الله منته
قولا تبين لذي لب حقائقه
أن الزراجين قوم قد وترتهم
وطالب الثأر لم تؤمن بوائقه
وللوزير إلى آرائهم ميل
لذلك ما كثرت فيهم علائقه
هم العدو ومن والاهم كلهم
فاحذر عدوك واحذر من يصادقه
كان مروان صنيعة من صنائع ابن عطية، وقديما قيل «من مأمنه يؤتى الحذر» فمروان تتبع عورات ابن عطية وجدّ في تحصيل تفاصيلها، وكان ابن عطية قد تزوج بنت يحيى الحمار، وهو واحد من أمراء المرابطين وأخوها يحيى ابن الصحراوية فارس المرابطين المشهور الذي قدم إلى المغرب من إفريقية مع القاضي عياض بعد بيعته لابن علي، وكان من أمر يحيى هذا أن انهزم فأبقى عليه عبد المؤمن لشجاعته وأمَّره على اللمتونيين ليأمن مكرهم، فاتفق أن قرب ابن عطية من خامليهم وموتوريهم جمعا من الناس، فأوغر عليه ذلك صدور الموحدين وسعوا لاستئصاله، وقدموا مروان لنبوغه في الشعر ليثير كوامن الحقد في قلب عبد المؤمن، ولم يكن ابن عطية أول مستهدف في جماعة اللمتونيين التي بدأت تتقوى شيئا فشيئا، فالأولى أن يقصد عبد المؤمن الذراع العسكري لهذه العصبة، ولا تقدم المصادر التاريخية شيئا ذا نفع حول هذه المسألة، فهل كان في نية أبي جعفر أن يثأر لأبيه حقا أم أنها أوهام خصومه خلعت عليه كسوة الثائر المتمرد؟ غير أن تتبع الأشعار التي نظمت في التحريض عليه، والتي نظمها هو نفسه عندما راح يستعطف عبد المؤمن تدل على أن جرمه كان عظيما، وهو لم يشر قط إلى دور الحاسدين في الإيقاع به بل اعترف بذنبه وطلب الصفح.
وقد عزا عبد الله كنون سبب قتله إلى إفشائه سر عبد المؤمن حين هم بالبطش بابن الصحراوية، إذ إن عبد المؤمن حين عزم على تصفية فارس المرابطين أفضى لابن عطية بذلك، فحذر ابن عطية صهره عن طريق أخته وطلب منه أن يتظاهر بالمرض إذا طلبه الأمير إلى مجلسه وأن يغادر البلاد، وخطأ فعل ابن الصحراوية حين كشف مصدر تحذيره لبعض خاصته، فعلم الأمير من أصحاب ابن الصحراوية أن ابن عطية أفشى سره فأمر باعتقاله، وزاد على ذلك فاعتقل أخاه أباعقيل.
ويستغرب عبد الله كنون قتل ابن عطية وأخيه والإبقاء على ابن الصحراوية في السجن، وهذا الاستغراب مدعاة للشك حقا في أن يكون سبب قتل ابن عطية هو مجرد إفشاء سر عبد المؤمن، لأنه ليس من المستساغ أن يقتل أبو جعفر في هذه الحالة وأن ينجو ابن الصحراوية، صحيح أن الغرم على قدر الغنم ومكانة ابن عطية في الدولة كانت أعظم من مكانة فارس المرابطين ولكن قتل أخيه بمعيته دون جريرة اقترفها يدفعنا للظن أن طموح أبي جعفر أورده موارد الهلاك، وأن تقريبه للمتونيين وزواجه من أخت الفارس المرابطي كان لغاية يدبرها في نفسه، وأن ذكرى والده الذي ضحى بحياته في سبيل إخلاصه للمرابطين ظلت ماثلة أمام ناظريه، وأنه كان يتحين الفرص للانقضاض على ابن تومرت.
بعد اعتقاله أخذه عبد المؤمن لتينمل حيث دفن المهدي، فحاول أبو جعفر استعطافه حتى جاوز القصد وغالى في عبد المؤمن غلوا كبيرا فما أن استيقن الهلاك حتى تشفع إليه بكل الوسائل فتارة يلوذ بحضرة المهدي المعصوم فيرسل إليه:
«تالله لو أحاطت بي خطيئة، ولم تنفك نفسي عن الخيرات بطيئة، حتى سخرت بمن في الوجود، وأنفت لآدم من السجود، وقلت إن الله لم يوح في الفلك لنوح، وبريت لقرار ثمود نبلا، وأبرمت لحطب نار الخليل حبلا، وحططت عن يونس شجرة اليقطين، وأوقدت مع هامان على الطين، وقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها، وافتريت على العذراء البتول فقذفتها، وكتبت صحيفة القطيعة بدار الندوة، وظاهرت الأحزاب بالقصوى من العدوة، وذممت كل قرشي، وأكرمت لأجل وحشي كل حبشي، ثم أتيت حضرة المعصوم لائذا، وبقبر الإمام المهدي عائذا لقد آن لمقالتي أن تسمع، وأن تغفر لي هذه الخطيئات أجمع».
ثم يلوذ به ويرى في عطفه غاية ما تنتهي إليه أمانيه فينشد :
عطفا علينا أمير المؤمنين فقد
بان العزاء لفرط البث والحزن
فقد أغرتنا ذنوب كلها لحج
وعطفة منكم أنجى من السفن
وصادفتنا سهام كلها غرض لها
ورحمتكم أوقى من الجنن
هيهات للخطب أن تسطو حوادث
بمن أجازته رحماكم من المحن
ويثير كوامن الشفقة بداخله فيذكره بأن مصير أطفاله إلى الهلاك إذا أصابه مكروه
ثم يرسل بهذه الأبيات مع ابنه :
وصبية كفراخ الورق من صغر
لم يألفوا النوم في فرع ولا فنن
قد أوجدتهم أياد منك سابغة
والكل لولاك لم يوجد ولو يكن
ثم تسيطر الحيرة على نفسه فلا يدري ما يكون مصيره فيقول مترددا بين اليأس والرجاء:
أنوح على نفسي أم أنتظر الصفحا
فقد آن أن تنسى الذنوب وأن تمحى
فها أنا في الليل من السخط حائر
و لا أهتدي حتى أرى الرضى صبحا
لكن ذلك لم يجد صدى في نفس عبد المؤمن الذي أراق قبله دماء كثيرة، ففي سبيل مجده ذبح إمام عصره «عياض» وفي سبيل دعوته أحرق مدنا بكاملها فكيف يلقى ذلك الشعر الذي يفتت الصخر استجابة لدى من كان قلبه أقسى من الصخر، وفي سنة 553ه أمر عبد المؤمن بقتل أبي جعفر وأخيه فنفذ فيهما أمره بتقمرت بالقرب من مراكش.
ولم يمنع ذلك عبد المؤمن من الإشادة به إذ كان صاحب موهبة فذة، ويقال إن عبد المؤمن امتحن الشعراء في هجاء ابن عطية فلم يستسغ هجاءهم وقال: «ذهب ابن عطية وذهب الأدب» . .
التعليقات (0)