"لا خير في أمة عارية تكتم فقرها ولا خير في شعب جائع يظهر الشبع وشر من كل ذلك أمة تقتني أثوابها من مغاور الموت ثم تخرج في نور النهار متبجحة بما تلبس من أكفان الموتى وأكسية القبور."
كثر الحديث هذه الأيام عن الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي في ذكرى مرور قرن على ولادته وتجادل الناس حول منزلته وآثاره ومخلفاته وما أحدثه من تأثير في الثقافة العربية. وقد ألف في الغرض عدة كتب ونظمت عدة مسابقات وتوج بالمناسبة عدة نقاد وباحثين. ودار الكلام حول الشعر والنثر والعقل العربي والهوية والأمة والملة من جهة التكوين والبنية والطباع والمقومات والمؤثرات والمنتجات. وقد تعددت المقاربات والمشاريع والدراسات التي تشرح أنظمة خلايا الدماغ العربي من جهة المعرفة إلى برهان وبيان وعرفان ومن جهة الوجود إلى أعيان وأذهان وأسماء ومن جهة السياسة إلى عقيدة وغنيمة وقبيلة ومن جهة الأخلاق إلى طاعة وسعادة ومروءة. ولقد نادي بعض المفكرين بإحداث قطيعة معرفية وتحول أنطولوجي من أجل الشروع في التحديث والعصرنة ونادي كتاب آخرون بالحداثة الشعرية والعولمة الثقافية واكتفى قلة من الساسة بالمطالبة بالإصلاح السياسي والدخول في المنعطف الديمقراطي.
غير أن الحيرة المقضة تداهم الفكر والاستغراب يخامره ويتيه في فوضى المفاهيم ونقد النقد ويغطس الفهم في طبقات التفاسير وسجال التآويل وتغيب عنه استراتيجية التسمية ويغفل عن دروب التعقل والحكمة. لكنه ينتبه إلى أن البحث عن الإصلاح بالشعر والتلويح بالثورة بالكلمة والتحريض على الحياة بالقصيدة لم يكن وليد اللحظة الراهنة فحسب وشغل كتاب هذا الزمان المعولم بل تضرب جذوره في الماضي القريب وكان من اهتمام الشعراء والأدباء الذين ارتبطت تجاربهم وملحماتهم بمقاومة الاستعمار ومحاربة الجهل.
لعل أبو القاسم الشابي ( 1909-1934) هو واحد من هؤلاء المبدعين الذين شاؤوا ألا ينصرفوا من الحياة دون أن يخلدوا بأعمالهم البطولية ودون أن يذكرهم التاريخ. لقد أصبح شاعر الجريد والخضراء أحد القمم الشعرية العربية التي بحثت في الروح العربية من جهة طبيعتها الخاصة ومؤثراتها ومنتجاتها ودرس الذهن العربي والمزاج العربي والعقل العربي والنفسية العربية.
إن الأمر لم يقتصر على تضمين ذلك في قصائده وأشعاره وخاصة أغاني الحياة بل في مؤلفه البديع : "الخيال الشعري عند العرب" الذي ألقي في شكل محاضرة بقاعة الخلدونية عام 1929 والذي مازال في حاجة أكيدة إلى المزيد من التمحيص والتنقيب والبحث قصد استخراج درره اللماعة وكنوزه المخفية.
إن رهان الشابي الأول في هذا النص ليس مجرد الجمع بين الانتماء للوطن والدفاع عن الأمة وذلك بضبط العلاقة بين الشعر والسياسة ولا التنظير لفلسفة الثعبان المقدس بل الوصول بالشعرية إلى أعلى درجات التنظير بالشرح والبيان والتعليل حتى تترسخ القيم البطولية في النفوس وتدخل إلى قلوب الشباب الناهضة وتحقق الاستنارة في العقول وتخاطب فيهم روح الفتوة والحماسة ويسلك بهم سبيل إرادة الحياة.
لقد عبر الشابي عن هذا الإصرار على النهوض في نشيد الجبار أو هكذا غنى بروميثيوس بقوله:
سأعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشماء
أرنو إلى الشمس المضيئة...، هازئا بالسحب والأمصار والأنواء...
وأقول للجمع الذين تجشموا هدمي وودوا لو يخر بنائي...
إن المعاول لا تهد مناكبي والنار لا تأتي على أعضائي
فارمو إلى النار الحشائش والعبوا يا معشر الأطفال تحت سمائي.
تضطرم نار الثورة في قلب الشاعر الشاب وتنبثق فصول الملحمة الوطنية بقوله في هذا الإطار:"لقد أصبحنا نتطلب حياة قوية مشرقة ملؤها العزم والشباب، ومن يتطلب الحياة فليعبد غده الذي في قلب الحياة...أما من يعبد أمسه وينسى غده فهو من أبناء الموت وأنضاء القبور الساخرة."
وواضح هنا أن الشابي يحسم أمره بشأن الصراع بين أنصار التقليد واستنساخ الماضي وتقديس الميراث من جهة وأنصار التجديد واستشراف المستقبل وينتصر إلى المعسكر الثاني على حساب المعسكر الأول. ويفسر الشابي وقوع العرب بين براثن التقليد بعوامل الوراثة وهيمنة الفكرة الدينية في فهم الأدب وعدم اطلاع العرب في العصور الماضية على آداب الأمم الأخرى ولتجاوز هذه الحالة من الانحطاط يعترف بأن العرب قد خاضوا غمار الخلق والإبداع وبلغوا الآفاق في المجالات الثلاثة التالية وهي الشعر القصصي والشعر السياسي والشعر الطبيعي ويذكر الأسلوب الأندلسي على سبيل المثال.
لئن اهتم الشابي بالخيال من جهة النشأة والمعنى وبحث في ظروف انقسامه وأنواعه وربط بين الخيال الفني والصناعي من ناحية والخيال الشعري والرمز من ناحية أخرى فإنه اهتدى ببراعة إلى الأيقونات الأربعة وهي الأسطورة والطبيعة والمرأة والقصص وعدها المكونات المضمونية للخيال الشعري عند العرب وحدد الروح العربية بثلاثة خصائص مميزة وهي: الخطابة من جهة الطابع وشيوع النزعة المادية من جهة العوامل والإكثار من الترحال من جهة المؤثرات ، وأكد أن الأدب العربي ينفرد بأسلوبه وروحه ومعناه عن آداب الأمم الأخرى.
اللافت للنظر أن الشابي يؤرخ لأربعة أدوار للأدب العربي وهي الدور الجاهلي والدور الأموي والدور العباسي والدور الأندلسي ويميز الدورين الأخيرين ببروز الشعر الطبيعي ولكنه يحرص على تحديد مفهوم الأدب على النحو التالي:
1- الأدب هو صوت الحياة الذي يهب الإنسانية العزاء والأمل ويرافقها في رحلتها المضنية المتعسفة في صحراء الزمن.
2- الأدب هو المعزف الحساس الذي توقع عليه البشرية مراثيها الباكية في ظلمة الليل وأناشيدها الفرحة في نور النهار.
من هذا المنطلق نراه يستشهد بديك ونسي القائل:"ان الأدب الذي لا يعب من غيره لابد أن يدركه الهلك ويفنى". كما أنه يعتبر شعراء العربية" لهم روح قوية مضطرمة شاعرة تنظر إلى الطبيعة كلها ككائن حي يترنم بوحي السماء فيثير في حنايا النفوس ما تثيره آنات القيثارة في يد الفنان الماهر من هواجع الفكر وسواجي الشعور، هذه الروح اليقظة التي تحس بما في فلب الطبيعة من نبض خافق وحياة زاخرة تفيض على مظاهر الكون هذا الجمال الإلهي المضيء فإذا الحياة بأسرها صورة من صور الحق وإذا العالم كله معبد لهذه الحياة."
هكذا يكون الشاعر عند الشابي ذلك الثائر على الأوضاع المتردية الباحث عن الخلق والإبداع والذي يريد الحياة ويحمل على الظلم وليس مجرد خطيب أو متقول كلام وفي ذلك يصفه بأنه:"رسول الحياة لأبنائها الضائعين بين مسالك الدهر وليس خطيبا ينظم ما يقول."
لكن الإشكال الذي يظل قائما هو كيف نستعيد روح الشابي وفكره دون السقوط في التصور الموميائي المحنط للشخصيات ودون البقاء حيث بارح موضعه فتيا؟ وكيف نجمع بين الولاء للوطن دون افراط والوفاء للأمة دون تفريط؟
المرجع:
أبو القاسم الشابي ، الأعمال الكاملة، الدار التونسية للنشر، الطبعة الأولى 1984
التعليقات (0)