يكتبُ الكثيرُ من العاملين في مجال الإشراف على أداء آخرين تقارير وملاحظات تُطلَبُ منهم أو تكونُ هي صميمُ العمل الذي يقومون به،وتُسجّلُ البرامج الإلكترونية الحديثة بصناعةٍ متطورة ملاحظاتها بطريقتها الخاصة على أداء الأجهزة أو المواقع أو حتى الأشخاص أو مكوّناتِ أجسادهم في أحيانٍ معيّنة،والواضحُ عند الجميع بأنّ نفوسَ البشر تسعى جاهدة لمعرفةِ ما كُتِبَ عنها وما دُوَّنَ في الأوراق عن أدائها ..
لكنّ العادة جرَتْ في أيامِ حياتنا التي عِشْنِاها والممتدّة حتى هذه اللحظة بأنّ إبداءَ تلك السطور المكتوبة والإفصاحَ عن تلك الملاحظات المُسجّلة دونَهُ خَرْطُ القَتاد،وربما دونَهُ بحورٌ وجبالٌ وصحاري،فيلجأُ القلبُ المملوك من الفضول وحُبّ الاستطلاع والنّفسُ المسجونة داخلَ المعرفة والشغف بالإحاطة لطرق وأساليب لا يتّفقُ أغلبُها معَ الأخلاق ولا مع الديانات ولا حتى مع مهنيّة الأعمال وموضوعيّة الوظائف ..
أمّا اللومُ والسّببُ فهوَ على مَنْ جعلَ من المُتاحِ ممنوعاً ومن الحقّ المُستحقّ تعطُّفاً وإحساناً ومن تافهِ القول وسخيفِ المُلاحظات قضيّة حياةٍ أو مَوْت،وقد قيلَ بأنّ الشعورَ بالنّقص في مجال الاهتمام والوضع الاجتماعيّ يرمي بشرره في اتّجاهات المُشرفين نحو الأخذِ بهذه الطريقة السهلة في التنفيذ لتكونَ خيوطُ الحَبْكَةِ في أدراج مكاتبهم ..
يظلّ "السرُّ" طيَّ الكِتمان عمّن يخصّه وطريحَ الصّوتِ المُنخَفِض عن البعض الآخر معَ أنّه مُشاعٌ يتداولُه بوّابُ الدائرة مع سائق المدير وعُمّال النظافة وهم يشربون القهوة صباحَ كلّ يوم،وكأنّ على عَيْني المعني بالتقرير "السّري" غشاوَة ووفي أذنيه نسبةٌ عالية من شمع لاصقٍ تمنعه من الإنصاتِ لما يُقالُ عنه ..
فلسفةُ "الأسرار" في إدارتنا العربية عامّة ودوائرنا الخليجيّة خاصّة هي "القُبّعة السابعة" التي يرتديها كلّ رئيس أو مدير أو مشرف عندما يُدرِكُ بأنّه خالِ الوِفاض من التفكير بطريقة "القُبّعات السّتّ" الملوّنة،فيُسْرِعُ إلى الظّهور "بالقُبّعة" التي لا لونَ لها ولا رائحة ولا طعم وكأنّها "طاقيّة الإخفاء" في أحد الأفلام المصريّة القديمة ..
ويُحيطُ هذا العزيزُ الكريمُ نفسّه بهالةٍ إعلاميّة كبيرة أنّه "أبو الأسرار" ولا يُمكنُ لمن يتحاورُ معه من العامّة أن يُنقَصَهُ من كمّية الأسرار في عقله الثّخين وقلبه الغليظ،وإنّما سيزيدُه انطباعاً بأنّ في الأمرِ "أسرارٌ" أكثرُ من المتوقّع وأعظمُ من المنتظر،وفي آخر أيّ مقابلةٍ لكادحٍ مع مسئول سيُفتيه الأخير بأنّ عليه انتظار الرّد ..
بدَتْ لي هذه العلاقة المُشوّهة بين القائد وجنوده وكأنّها خُدَعٌ بصريّة أو لعبٌ بالنّار رغمَ أنّ الهدَف الذي يصرّحُ به القادة دوماً "أنّهم شفّافونَ وشَفَافيّون وشَفَهيّون" ويستطيعُ أيُّ واحدٍ منّا أن يُقسمَ بأنّ تلك الشّفاهُ لم يصدُرُ عنها إلا ما يجعلّها على شَفا حُفرةٍ من البَكَم والعِيّ،أو أنّ "للشفافيّة" معنى آخر هو أيضاً "سرٌّ من الأسرار" ..
يأخُذُكَ رئيسك في العمل على حينِ غرّة بخطابٍ يأتيك أو استدعاءٍ من مديركما الأكبر وتنهالُ عليك كلمات العتاب واللوم ومن ثمّ تُخبرُ بأنّك منقولٌ لجهةٍ أخرى نتيجةَ ما تفضّل به الاثنان عنك،وحينَ تُحاولُ السؤال أو الاستفصال سيصفعُكَ "أبو الأسرار" بأن كلّ الأمور مسجّلة وكلذ التقارير التي كانت تُكتب عنك واضحة وشفافة ودقيقة وأنّه صابرٌ عليك ومُحتسبٌ أجره على الله منذ فترة لعلّكَ تتنبّه من تلقاء نفسك وتعودُ عن غِيّكَ وطغيانك وفسادك الإداري والمالي وعدم انضباطك،حتى قامتُ قيامُتُكَ ووَجبَ حسابك فاقرأ كتباك كفى بنفسك اليومَ عليكَ حسيباً ..
لا بدّ لنا فعلاً بأن نقتنعَ بأنّ العملَ ضمنَ فلسفة "السّرّ" هو المُجدي في مجتمعاتنا ومنطقتنا ولو لم يكنْ في الأمر ما يدعو للسرّ بل وحتّى لو لم يكنْ هناكَ سرٌّ أصلاً فبإمكانِ من انخفضَ رصيدُه من الأسرار أن يستدينَ من مُتقاعدٍ خاضَ غِمارَ الأسرار وعرَفَ منها الكثير فيُتحَفَهُ بحيلةٍ أو مكيدةٍ لا تُقدّرُ بثمن في سرّيةٍ تامّة ..
كما أنّ كلّ موظّفٍ جديد كانَ لِزاماً عليه أن يعلمَ بأنّ كلّ سجلّ الحضور والغياب سرّ وتقويم الفترة التجريبيّة سرّ وكشفُ راتبه سرّ والمهام التي يؤدّيها زميله في نفس الوظيفة سرّ ولائحة العمل سرّ والقرارات الصادرة من المدير العام سرّ ونتيجةَ الطلب الذي قدّمه منذ شهرٍ للحصول على ترقيةٍ سرّ،وبالتّالي يجبُ عليه أن لا يسألَ عن شيءٍ ليسَ من تخصّصه وعليه أن يؤدّي عمله في غايةِ السرّية ..
وليأخْذ كلّ مستجدّ في دائرة "أبو الأسرار" عبرةً من السيدّ مُنير الذي سألَ زميلَه في الحُجرة المجاورة عن خطّة التشغيل للعام القادم حتى يستعدّ لها فما كانَ من زميلِه إلا أن وَشَى بهِ لدى مُشرف الفترة الذي نقَلها مباشرة للمدير العام فأصدرَ قراراً عاجلاً وسرّياً بأن يتمّ التحقيق السرّي مع مُنير ويكتَبْ عنه تقرير سرّي يرفع بسرّية فائقة له ليتمّ توجيهُ لفتِ نظرٍ "علنيّ" لمنير ليكونَ عبرةً للموظفين ..
أعرفُ مُديراً نُقلَ من وظيفتِه على عجَلْ وعلى أعينِ النّاس إلى وظيفةٍ أقلُّ بدرجات في نفس المدرسة التي كانَ يعملُ بها لأنّه أَطلَعَ ولي أمر طالبٍ من الطلاب على ورقة إجابة ابنه في مادّة من المواد بعدَ أن صحَّحها المعلّم،فاكتشفَ المدير بمعونة ولي الأمر خطأ في رصد الدرجات وفي الوقت الذي أرادَ المدير علاجَ الوضع بالطّرق السرّية النظاميّة وصلَ الأمر لأحد "آباءِ الأسرار" فعاقبَه تلك العقوبة ..
ولمثلِ هذه الحالات وهذه الأنماط أجدُني لا أستغربُ أن يقولَ بعض المفكّرين الغرب عن العرب بأنّهم أٌقدرُ الكفاءات على إدارة ما يُسمّى "بمؤسسات الاستخبارات" فالتلَصّصُ للأخبار وإضفاء السّحنة السرّية على كلّ شيء وزرعِ الخوف في نفوس البشر من كلّ معلومة أو نصفها يجعلُ من الشّمسِ في وضحِ النهار أكبرُ سرٍّ إنْ أرادت الجهاتُ الحكوميّة ذلك ..
وما أذكى أهلُ الدعاية والإعلان في عالمنا العربي حينَ يصرّونَ على أن يكونَ لفظ "السرّ" هو سرّ نجاح الحملات الإعلاميّة لكلّ شيء ابتداءً بأسرار الحياة الزوجيّة وأسرار المشاهير وأهل الفنّ،ومروراً بسرّ في الزئبق الأحمر وسرّ آخر في زيت الجرجير وسرّ ثالث في أرجل الضّفدع الخلفيّة،وانتهاءً ببرامج مثل سرّي للغاية وصناعة الموت وأحمر بالخطّ العريض ..
ولم يكذب المغنّي العربي حينَ غنّى "الليل أبو الأسرار" لكنّه لم يعلم بأنّ للسيّدة الفاضلة "أسرار" أبٌ آخر غيرَ الليل هو "المدير العربي" ..
التعليقات (0)