التأم مساء يوم الجمعة بالقاعة الكبرى لعمالة سلا رجال التربية والفكر والسياسة والفن لتكريم علم من أعلام حاضرة سـلا البررة المجاهد الكبير أبو بكر القادري، من الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944م، ومن القادة المؤسسين لكتلة العمل الوطني وللحزب الوطني ولحزب الاستقلال والذي لا يزال يزاول مهامه إلى اليوم عضوا في مجلس الرئاسة.
في بداية هذا الحفل التكريمي الذي نظمته نيابة وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي بعمالة سلا بتعاون مع المندوبية السامية لقدماء المقاومة وأعضاء جيش التحرير والسلطات المحلية والهيئات المنتخبة وفعاليات المجتمع المدني بمناسبة تخليد ذكرى انتفاضة 29 يناير 1944، تمت إزاحة الستار عن اللوحة التذكارية، وتم افتتاح معرض لمؤلفات وكتب أبي بكر القادري التي تصل إلى 50 إصدارا، ومنشورات عن المقاومة وجيش التحرير.
وأجمعت كل الشهادات التي ألقيت في حق المجاهد أبي بكر القادري أن المجاهد بحر امتدت أمواج نضاله وفكره إلى شواطئ بعيدة، وإسم مرجعي في المشهد التربوي والسياسي، وذاكرة جماعية في الوطنية والمقاومة.
وتميز هذا الحفل الذي حضره وزير العدل السيد محمد الناصري، وعامل عمالة سلا السيد العلمي الزبادي وعدد من الشخصيات السياسية والفكرية والثقافية، بتقديم شهادة كاتبة الدولة المكلفة بالتعليم المدرسي السيدة لطيفة العابدة، والمندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير السيد مصطفى الكثيري، وعدد من الباحثين والأكاديميين.
وفي الكلمة التقديمية للدكتورة نجاة المريني قالت: "أن الأستاذ أبي بكر القادري رجل تشد إليه الرحال لاغتراف الحكمة والدروس في الوطنية الصادقة،... أنشأ المكتب الإسلامي وثانوية النهضة، فنال فضل من علِمَ وعلَّمَ، وأسس جمعية المحافظة على القرآن الكريم وجمعية شباب النهضة الإسلامية لتنمية العلاقات بين شباب العالم الإسلامي".
وتوقفت جل الشهادات على المحطات التاريخية المشرقة التي ميزت المسار السياسي والفكري والتربوي للمجاهد أبو بكر القادري، وأشادت بالدور الطلائعي الذي لعبه مربي الأجيال أحد أبناء سلا البررة في الحركة الوطنية، والذي استوعب خطورة السياسة الفرنسية التعليمية آنذاك التي كانت تسعى إلى تهميش اللغة العربية تهميشا كليا والعمل على عدم جعل المدرسة آلية للتغيير، وللدفاع عن قيم الهوية الوطنية.
رجل تفتقت عبقريته على الوعي بأهمية الاستثمار في القضايا التربوية، فاستوعب تربية السياسة وسياسة التربية، فجعل من مدرسة النهضة حصنا من حصون مقاومة سياسة التغريب، وتحصين الذات الثقافية والهوية المغربية، فكانت رباطا قيميا يتآلف فيه المغاربة من مختلف الانتماءات الطبقية والإقليمية والسياسية، من إيمانه العميق بغاية تقوية قيم الوطنية العربية الإسلامية، والتهيئ لبناء مغرب ما بعد الاستعمار.
في كلمة مطولة لكاتبة الدولة المكلفة بالتعليم المدرسي السيدة لطيفة العابدة أكدت أن الأستاذ القادري "بوأ العمل التربوي مكانة بارزة في سلم جهاده اليومي والمضني، فتآخت في أعماله السياسة والتربية في تلاقح مثمر، وامتزجت في شخصه التركيبة الساحرة بين السياسي والمربي في تلازم وتوادد عميقين".
وأضافت أن أبي بكر القادر يعد أحد رجالات الأدب والفكر والسياسة والوطنية الصادقة ومناضل تربوي جعل من التربية والتثقيف والتعليم منطلقا أساسيا لبلورة المواقف ولاسيما على المستويين الاجتماعي والسياسي، خاض معركة المطالبة باستقلال المغرب مسلحا بالتصور التنويري لدور التربية في بناء مغرب المستقبل فكان له الفضل في زرع بذور مدرسة مغربية واعية بأدوارها الوطنية تمتلك القوة المحركة لرهان الاستقلال والتقدم.
وركزت كلمت كاتبة الدولة المكلفة بالتعليم المدرسي على البعد التربوي الذي اعتبر أحد أبرز انشغالات المجاهد أبي بكر القادري، حيث اقتنع بأهمية المؤسسات التعليمية في صون وحماية القيم الوطنية العربية والإسلامية، فكان التعليم بالنسبة إليه قبل استقلال المغرب وبعده حاجة مجتمعية وأداة فعالة للتحرر والنهوض والتنوير"، وقد برز ذلك باشتغاله في مجال التعليم قرابة 48 سنة، حيث أسس مدرسة "النهضة" بسلا التي جعل منها حصنا من حصون المقاومة ومنبعا لسياسة التحرير، وقلعة تجاوبت بين أحضانها أجيال من مختلف مناطق المغرب ومن مختلف المشارب السياسية والفئات والطبقات الاجتماعية.
من جهته أكد المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير السيد مصطفى الكثيري في شهادته أن المجاهد أبي بكر القادري "مقاوم جسور ورمز مشع وقطب لامع كرس حياته لراية الوطن وخدمة الأجيال وتأهيلها للانغمار الواعي والفعال في ملاحم العزة والكرامة.
وأبرز مصطفى الكثيري الجوانب المشرقة في المسيرة النضالية للمجاهد أبي بكر القادري في الحركة الوطنية والمقاومة، وخاصة انخراطه المبكر في العمل الوطني؛ وهو ابن السادسة عشرة.
وأضاف الكثيري أن عطاءات أبي بكر القادري في مجال الوطنية تنوعت بين العمل التربوي من خلال الاشتغال في ميدان التربية والتكوين، والاهتمام التوعوي والإعلامي بالقضايا الوطنية من خلال اهتماماته الصحفية حيث أسس الأستاذ أبي بكر القادري مجلتي "الإيمان" و"الرسالة الأسبوعية". إضافة إلى الإصدارات العلمية والتاريخية التي ربت عن 50 مؤلفا، ضمت كتبا حول شخصيات وطنية ونضالية طبعت تاريخ المغرب، بالإضافة إلى الرحلات التي كان يقوم بها سواء في إطار مهمات وطنية أو سياسية أو دينية.
وعبر السيد الكثيري في ختام شهادته بمناسبة ذكرى 29 يناير 1944 التي جسدت محطة وازنة ومنعطفا حاسما في مسيرة العمل الوطني والكفاح التحرري لنيل الحرية والاستقلال وتحقيق الوحدة الوطنية، مؤكدا على ضرورة صيانة هذه الذكرى التي أسفرت عن استشهاد العديد من الوطنيين الشباب في سبيل الوطن، والعمل على الاحتفاء بها كعربون وفاء لأولئك السباقين للعمل الوطني وللحركة التحريرية.
"العربي واحي" أستاذ التعليم العالي بالمحمدية في مداخلته حول الجانب السياسي للمجاهد أبي بكر القادري، كشف ولأول مرة عن وثائق جد هامة منها محاضر استنطاق سلطات الحماية الفرنسية لأبي بكر القادري، يقع في 10 صفحات حول استنطاق أبي بكر القادري بتاريخ 1944، إضافة إلى وثائق أخرى تؤرخ لمراحل اعتقاله ما بين 1934 إلى سنة 1944. وأضاف أن هذه المحاضر تصف تحركات المجاهد خلال يوم انتفاضة 29 يناير وفترات اعتقاله من سنة 1936 وسنة 1937.
وأعلن "العربي واحي" أن هذه الوثائق موجودة بوزارة الخارجية الفرنسية، ومن ضمنها عدة محاضر أخرى تتضمن معلومات هامة حول الحركة الوطنية، يمكن اعتمادها لإعادة كتابة السيرة الذاتية لرواد الحركة الوطنية في النضال الوطني.
في مداخلة "محمد السعديين" حول الجانب التربوي لمربي الأجيال أبي بكر القادري، فقد أشارت إلى الإحساس بالبعد التربوي في المقاومة الوطنية، احساس تميز به المجاهد أبي بكر القادري، حيث اشتغل قرابة نصف قرن من الزمن في مجال التعليم والتربية، لإدراكه إلى جانب رواد الحركة الوطنية بخطورة السياسة التعليمية الاستعمارية التي كانت تسعى إلى تهميش اللغة العربية، وانتباهه إلى أن مناهج التعليم الفرنسية هي بالضرورة تخدم السياسة الاستعمارية ومصالح فرنسا.
في مداخلة الدكتور "عز المغرب معنينو" حول "المقاومة والتعليم الحر"، فتطرقت إلى خصوصية حاضرة سلا ودعا إلى تحديث الصور ة التاريخية للهوية السلوية، وأضاف أن الهوية السلوية تكمن في المحافظة، دون أن يعني ذلك الانغلاق والانطواء بل البحث عن الشخصية الوطنية الأصيلة.
وفي السياق ذاته أبرز معنينو التاريخ النضالي لحاضرة سلا المجاهدة من أجل الاستقلال، وأكد أن خصوصية الهوية السلوية تتركز في موقعها الجغرافي، فرغم حجمها السكاني والجغرافي الصغير، فإنها اضطلعت بدور طلائعي في مسار التاريخ الوطني، حيث ساهم أبناؤها يتقدمهم المجاهد أبي بكر القادري في اندلاع انتفاضة عارمة في 29 يناير 1944 لمواجهة الغطرسة الاستعمارية، وتأييد مضمون وثيقة المطالبة بالاستقلال ودفاعا عن مقدسات الوطن.
في تصريح لجريدة العلم قال المجاهد أبي بكر القادري إن هذا التكريم ليس تكريما لشخصه وإنما هو تكريم للذاكرة الجماعية المغربية في المقاومة والنضال من أجل التحرر من قبضة المستعمر، وفرصة لتذكير الشباب المغرب بتضحيات الأجداد لنيل الاستقلال.
وفي كلمته التي ألقاه في حشد كبير عقب اختتام الشهادات التي قدمت في حقه وحول المقامة المغربية قال المجاهد إن "هذا المجمع العلمي إنما هو احتفاء وتكريم للذاكرة الوطنية، دعيا إلى مزيد من الاهتمام لوصل الحاضر بالماضي".
وأكد أن الشبيبة المغربية اليوم هي في حاجة ماسة إلى التعريف بالذاكرة الوطنية وما قام به رموزها، حتى تنير الطريق أمامهم، وتوجه إلى الشباب التي امتلأت بهم القاعة الكبرى لعمالة سلا أن الشباب الوطني عاش مرحلة جد قاسية في مختلف المجالات التربوية والسياسة والثقافة.
وقبل دعوته إلى المحافظة على المقومات الأساسية التي تنطلق من غيرتنا ومغربيتنا وطموحاتنا في بناء المستقبل، أوضح أبو بكر القادري أن الشبيبة الوطنية ظلت تقاوم بقوة لوقف التحدي الاستعماري، وخاصة المشروع الفرنسي القاضي بدمج الشعب المغربي في لغتها وثقافتها وفي محيطها الدولي. لكن الشباب الوطني ما انفك أن أعلن مواجهته القوية ضد المشروع الاستعماري الذي أراد تهميش اللغة العربية التي عاش بها المغرب 14 قرنا بجرة قلم، وكلفت نضالاته شهداء واعتقالات في صفوفهم.
وقد تم على هامش هذا اللقاء توقيع اتفاقية تعاون وشراكة بين نيابة وزارة التربية الوطنية والمندوبية الإقليمية للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بسلا، تروم تقوية التعاون بين الطرفين في مجال تعريف الناشئة برموز ورجالات الحركة الوطنية والمقاومة والتحرير، وكذا لصيانة الذاكرة الوطنية وإشاعة ثقافة الوطنية وقيم المواطنة الإيجابية في أوساط الناشئة والأجيال الصاعدة.
وتعد الذكرى ال`66 لانتفاضة 29 يناير 1944 التي تشكل استحضارا للصفحات المشرقة من نضال العرش والشعب من أجل الحرية والاستقلال، التي لعب فيها المجاهد أبي بكر القادري دورا رئيسا، لتأكيد مضامين وثيقة المطالبة بالاستقلال، واستنكارا لحملات التقتيل والتنكيل والاعتقالات التي أقدمت عليها قوات الحماية مستهدفة رجال الحركة الوطنية وعموم أبناء الشعب المغربي، إثر تقديم هذه الوثيقة التاريخية المجسدة لإرادة العرش والشعب ونضالهما البطولي في سبيل الحرية والانعتاق.
التعليقات (0)