رحمه الله ، قالت جدتي ، لقد مات أبو صالح . كان الوقت صباحا ، وكنت نصف نائم ، سمعت الخبر فمر علي وكأنني في حلم وبقيت نائما .
أبو صالح حبيب ألأطفال، ليس له أبناء، وهو لم يتزوج أصلا، وعلى ما أعتقد لم يفكر يوما في الزواج، حيث لم يكن له بيت ، كان يعتبر كل بيت في القرية بيته وكل طفل في القرية ابنه .
كان يعيش في الصيف في ظل شجرة زيتون يضع تحتها فراشه وعدة الشاي وبعض المقتنيات الخاصة به في صندوق من الصفيح، لم يكن يدخر طعاما ، كان يدخل أي بيت في القرية فيقدم له الناس الطعام عن طيب خاطر، يأكل القليل منه ويستأذن بأخذ الباقي ملفوفا برغيف من الخبز البلدي، ويخرج إلى الطريق وأول طفل يراه يناديه، ولم يكن ينادي طفلا باسمه ،كان يطلق أسماء محببـة على ألأطفال فـمـحمـد ( حمودة ) ،وحسن ( حسون )، وبلال ( بلبل ) وهكذا . ثم يعطي الطفل ما يحمل من طعام أو فاكهة أو ثمر لوز أو جوز أو زعرور ، لم يشعر يوما أنه بحاجة لادخار شئ فالرزق على الله .
في أيام الصيف كان يجمع ثمار الصبر والتين والعنب من أرض جبل وهبه إياه أحد المحسنين ،وأشعره أنه ليس صدقة ،وإنما ذلك واجب لأنه هو أقدر على تعمير الجبل من غيره ،والخير كثير، وفعلا قام بتعمير الجبل وزرع فيه شجر اللوز والتين والصبر، ومن ثم يقوم بجمع الثمار وإهدائها للبيوت المجاورة لمكان سكناه.
لم يكن أحد يعلم ما بقلبه ،ولكن كان وجوده مرتبطا بأفراح القرية حيث كان يعمل زمارا على اليرغول ( المجوز )- هذه آلة النفخ المعروفة في بلادنا - كان يشارك في كل فرح في القرية في ألأعراس وعند عقد البناء وعند عودة أبناء القرية من الغربة وعند طهور ألأطفال وعقب الموالد، كان يزمر ويزمر ولا أحد يطلب منه أن يتوقف، ويحس بسعادة غامرة عندما يشاركه أهل القرية الغناء والدبكة ، وبعد انتهاء السهرة كان ينسل بهدوء لا يقبل أجرا من أحد ،ولا حتى هدية أو هبة ليرجع في اليوم الثاني للمشاركة في زفة العريس.
في ليالي الصيف المقمرة كنت أسمع وأنا طفل صوت عزفه حيث يعزف في جبله لوقت متأخر من الليل، وكنت على صغر سني أتصور أن طيورا تطير في هدأه الليل ترجع صدى عزفه، ووحوش الجبل تصطف على شكل حلقة حوله مادة رقابها خاشعة، وكأنها مخدرة فأشعر بثقل لذيذ في رأسي وأغفو وأحلم بأعراس الغد وفرحة ألأعياد وبكل ما هو جميل .
في فصل الشتاء كان ينزل في غرفة لجيراننا يتركها أصحابها طول فصل الشتاء ،وبعد انتهاء ثمار الصيف ويرحلون إلى بيت لهم داخل القرية، فيقضي الشتاء في جيرتنا ونسر كثيرا نحن بذلك كأطفال ،لأنه كان له كلبتان فيسمح لنا أن نلعب ونلهو بهما، لم تعتديا يوما على أحد كانتا تذهبان حيث يذهب ، تشاركانه رحلات صيده، وعندما يدخل إلى أي بيت تربضان أمام البيت حتى يخرج وعندما يسافر إلى المدينة المجاورة كانتا تبقيان حيث فراشه.
كان الفصل شتاء وقالت جدتي أن أبو صالح مريض وكان الوقت صباحا، تطوع أحد جيراننا وكان يملك مركبة ورجل آخر أن يأخذا أبا صالح إلى الطبيب في المدينة، وأخذاه وأعطاه الطبيب دواء، كان يضحك ويقول: أنا لم أستعمل في حياتي أي دواء وأخذ الدواء وهو على يقين أنه سيكون سبب موته، وفعلا ساءت حالته فقام الجار بنقله إلى بيته حتى يتمكن من العناية به ، بقي بعدها يومان وفي صباح اليوم الثالث سمعت جدتي تعلن الخبر.
تمنيت أن لا افتح عيناي ذلك الصباح ، ولكن أبناء جيراننا أخذوا يدقون بابنا ليعلمونا بالخبر المحزن، فقمت من نومي وذهبنا على حيث مات أبو صالح ، لم يسمحوا لنا بالدخول وبقينا في الساحة ، بدأ أهل القرية بالتجمع لم يغب من القرية أحد حتى المدرسة سمح المدير للطلاب بعد الحصة الرابعة بالرجوع إلى بيوتهم، من أجل المشاركة في الجنازة، لم يبك على أبو صالح أحد ولكن جميع الحضور كان الحزن باديا عليهم، وحمل الجثمان إلى المسجد وصلي عليه ومن ثم إلى المقبرة وأودع التراب، وأخذ الناس يعزي بعضهم بعضا، ورجع الجميع إلى بيوتهم .
مررت بقرب المقبرة عند المساء كان يربض على تراب القبر الكلبتين، ولم تتركا القبر لعدة أيام رآهما على هذه الحال معظم أهل القرية ، حاول بعض ألأولاد أن يأخذوا لهما طعاما، ولكنهما كانتا تنبحان بشراسة على أي أحد يقترب من القبر.
مع ألأيام نسي الناس أمر القبر والكلبتان ،ومرت السنين وكبرنا واليوم أكاد أجزم أنني في ليالي الصيف المقمرة وعندما أنظر إلى الجبل ( جبل أبو صالح ) أتخيل أني لأسمع صوت مزماره المجوز يتردد في هدأه الليل وروح أبو صالح ترفرف بجناحاها على الجبل .
التعليقات (0)