مواضيع اليوم

أبعاد نظرية البعث في الفكر الإنساني

حسن الزوام

2009-11-24 17:48:29

0

 أبعاد نظرية البعث في الفكر الإنساني

 أبعاد نظرية البعث في الفكر الإنساني

 

الدكتور منيف الرزاز

 

 

حينما تتحول كل مرحلة الى تغيير نوعي يجتاز الفكر البعثي الحواجز النوعية . المعطى الأساس أن تكون صيرورة الذات العربية حركة كلية وليس تراكما عرضيا لأجزاء التحول .

في ماضي المرحلة إكتسب البعث الهوية وإنتقلت الذات الى فاعلية التمييز  أما حضور البعث كحزب ؛ كحركة فإن الأفكار أصبحت منطلقات حيث إنتقل الفكر من مستوى المقولة الى مصاف الوعي بالهوية ( إكتساب شرعية الذات الكلية ) . أي أن قوانين البعث النضالية عرّفت بالدلائل العاقلة الفاعلة .

وبعد /

ماذا يقول  الأمين العام المساعد السابق لحزب البعث العربي الإشتراكي الرفيق الدكتور منيف الرزاز في الحوار الذي اجراه معه الرفيق حميد المطبعي .()

-1- نظرية البعث والمحتوى التاريخي :

دكتور منيف : خلال أحد عشر مؤتمرا قوميا (1947 – 1977 ) كان البعث يؤكد على أنه حركة تاريخية وأنه إستجابة للضرورة التاريخية وقد فهم بعض الكتاب السياسيين  أن هذا لمدلول إطلاقي يصل الى حد التعميم ؛ فما هو المغزى الحضاري الذي يقف وراء نظرية البعث في ضوء معطيات التراث العربي وحركة الثورة العالمية ؟

للإجابة على هذا السؤال لا بد لنا من أن ندرك بادئ ذي بدء أن البعث ليست له نظرية مستعلية على التاريخ وليست له نظرية مستمدة من حوادث التاريخ وإنما هي نظرية مستلهمة  من الإنغماس الكامل في تيار التاريخ  ومن الإلتحام الواعي بمساره إنغماسا وإلتحاما  يتميزان بالتأثر بروح التاريخ وبالتأثير فيه فالبعث من جهة من صنع التاريخ أي أنه إبن الظروف الموضوعية التي تصنع التاريخ  وهو من جهة أخرى يصنع التاريخ  بمعنى أنه حين يمتلك ناصية الوعي الشامل لقوانين التاريخ  ولحركة التاريخ يتجاوز حكم الضرورة الذي يحكم  السائرين في التاريخ دون وعي كامل لحركته ويتمكن من التحكم بإرادة النضال الواعي ة . ومن هنا وصف الرفيق القائد المؤسس في خطابة الذي وجهه بمناسبة الذكرى الثلاثين لتأسيس الحزب إنطلاق الحزب بأنه الإنطلاق من الواقع الحي الذي كان يعني الإنطلاق من الحرية .

ومن أجل ذلك إرتبطت النظرية في الحزب بالنضال إذ يقول الرفيق القائد المؤسس : لقد إمتلك الحزب حسا واقعيا جعله يحرص دوما على أن يكون  حركة ثورية تقوم على الفكر لا مدرسة فكرية تبشر بالثورة والنضال.

ومن هناك فإن البعث ليس نظرية فحسب ولا هو حركة نضالية فحسب وإنما هو محصلة الإلتحام بين الوعي والحركة ومحصلة العلاقة الجدلية المتصاعدة بإستمرار بين النظرية والممارسة كل منهما يغني الآخر في حركة تفاعلية متبادلة نامية دائما متقدمة دائما.

إن ظواهر الإغتراب  التي فرضها الإستعمار على العربي  الإغتراب عن ذاته وعن  وطنه وعن تاريخه وعن إقتصاده وعن آماله وعن حقوقه وعن إنسانيته وظواهر العجز المطلق للحركة الوطنية البورجوازية الليبرالية - التي طرحت نفسها قائدة للنضال الشعبي ضد الإستعمار – عن التعبير تعبيرا كاملا وعميقا عن المحتوى الحقيقي لهذا النضال ؛ هذه الظواهر كانت الدافع الأول لولادة البعث حركة ونظرية وكان طبيعيا أن يكون السؤال الأول الذي يجب أن يتساءله وهو عميق الإلتحام بحركة التاريخ عميق التماس بتياره هو : من أنا؟؟ من أنا الذي أعيش هذا الواقع ؟؟ من أنا الذي أناضل ؟؟ ليأتيه الردّ حاسما في تحديد الهوية : أمة عربية واحدة .

فإذا ما تحددت الهوية كان لا بد أن تحدد المهمة الوظيفة الغاية التي تعمل من أجلها هذه الهوية وأن تتحدد في مواجهة  خصم أو خصوم محددين تاريخيا ولتحقيق أهداف محددة تاريخيا . فأستكمل تحديد الهوية غايته حين طرح البعث أن  ( الأنا) أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة  وأنا الخصم يتمثل في الإستعمار والتجزئة والكبت والإستغلال والتخلف وأن الهدف  يتمثل في وعي الأمة لذاتها وفي تحقيق إستقلالها ووحدتها وفي تحرير وطنها وإنسانها وفي بناء مجتمع إشتراكي لا طبقي ولا إستغلالي  وفي أداء رسالة إنسانية وحضارية .

ثمّ يستكمل البعث  كل نواحيه حين يحدد أسلوب نضاله بأنه أسلوب الثورة والإنقلاب وأن هذا الأسلوب ليس وجها ضد الخصم الخارجي فحسب بل الخصم الذي في أنفسنا في ذاتنا التي ورثناها عن عهود تخلفنا فهو إنقلاب في الذات وعلى الذات ومن جل الذات ليكون طريقا من أجل الثورة على  خصم التحديات الخارجية مؤمنا بأن كل نضال ضد التحدي الخارجي ينمي الإنقلاب الذاتي  وأن كل نمو في الإنقلاب الذاتي هو تصاعد في النضال ضد التحدي الخارجي .

إشتقاق البعث حضاريا :

وهكذا فإن وظيفة تحديد الهوية هي التي تحدد البعد التراثي وهكذا أيضا  يحدد إسم البعث معنى الإستمرار الحضاري في وجود الأمة فالبعث لم يسمي نفسه الحزب الديمقراطي أو الحزب الإشتراكي  أو الحزب القومي  مجتزئا من  التاريخ حضوره الآني وإنما سمّى نفسه بعثا دلالة على إستمرار تراث الماضي في الحاضر وعلى تضمن الحاضر رسالة المستقبل .

إن مجرد طرح سؤال ( من أنا )  لا يمكن إلا أن يتضمن التراث لأن ( أنا) ليست ( أنا) القائمة اليوم فحسب وإنما ( أنا) هي هذا الوجود القائم اليوم مصنوعا في إمتداد التاريخ فكما أن فلانا من الناس لا يمكن إلا أن يتضمن ماضيه في وجوده الآني  حتى ولو ثار على الماضي ولو أنكره أو أنكر بعض معطياته فكذلك الأمة لا تنطلق من فراغ ولا هي تبدأ من نقطة الصفر لا سيما إذا كانت أمة ذات تاريخ عريق ورسالة إنسانية وحضارة غنية .

ولأن البعث  حركة عربية تحررية تقدمية ؛ حددت أهدافها السلبية في القضاء على كل أشكال الإستعباد والإستغلال والكبت والعدوان وحددت أهدافها الإيجابية في خلق المجتمع الحر والإنسان الحر بتحرير الذات القومية والذات الإنسانية من الإغتراب الداخلي والخارجي ومن إستعباد الإستعمار وإستعباد القيود الإجتماعية وإستعباد  الآلة الحديثة فإن رسالته لا تقتصر على أن تكون رسالة خاصة به أو بالأمة العربية وإنما تشع رسالته لتعم الإنسانية كلها .

معنى تميّز الأمة العربية

دكتور منيف : هل ما يميز الأمة العربية هي كونها وجودا فحسب ؟؟ ثم هل رسالة البعث لهذه الأمة وحدها ؟؟

إن الأمة العربية ليست مجرد أمة من الأمم ؛ إن إمتدادها على وجه الأرض وموقعها الجغرافي المتوسط وإتصالها بكافة الحضارات العالمية وتاريخها الحضاري العريق  الذي إمتد من أقاصي العالم القديم  الى أقاصيه كل ذلك يجعلها بالضرورة متأثرة بالتطور الحضاري في العالم ومؤثرة فيه بشكل لا يكاد يتاح لأية أمة أخرى ويؤهلها لأن تؤدي رسالتها التحررية لا في وطنها فحسب ولا في العالم الثالث فحسب بل في العالم كله لأن تحرير الوطن العربي ووحدته يسكون قدوة  ومثالا للعالم الثالث وسوف يفقد الحضارة الغربية طابعها الإستعبادي والإستعلائي والإستغلالي وسيسهم في إنشاء عالم موحد تسوده علاقات تعاون وتكامل ويسوده السلام ويتحرر فيه الإنسان من كل أنواع الإستغلال والإستعباد .

ولأن البعث  حركة ثورية إنقلابية ولأن الوطن العربي بسبب ثروته النفطية وموقعه الإستراتيجي وأثر الأمة العربية الحضاري – أصبح آخر معقل من معاقل الإمبريالية فإن القضاء على الإمبريالية في هذا الجزء من العالم يعني القضاء على الإمبريالية من حيث هي وجود تاريخي ؛ إن كل حركة تحرر في العالم مناهضة للإمبريالية هي حليف للبعث في أداء رسالته والبعث بطبيعة نظرته الشاملة للتحرر العربي والتحرر الإنساني في آن معا حليف طبيعي لكل حركات التحرر في العالم . وإذا كانت الثورة الإشتراكية في روسيا عام 1917 قد وجهت أول ضربة مهمة للإمبريالية في تاريخها فإن الأمة العربية مؤهلة لأن توجه الضربة القاضية .

في المسألة القومية :

دكتور منيف : خاض حزب البعث العربي الإشتراكي صراعا فكريا متشعب الزوايا في المسألة القومية هل نستطيع أن نحدد مراحل هذا الصراع في ضوء جدل المجتمع العربي ومعطيات النضال القومي البعثي ؟؟؟

يجب أن نذكر أولا أن ولادة حزب البعث العربي الإشتراكي كانت في غمرة صراع جبار تخوضه الجماهير الشعبية ضد الإستعمار الإحتلالي في معظم الأقطار العربية ولا سيما في مصر والمشرق العربي وأن هذا الصراع كان قد توصل الى تحقيق معاهدات للإستقلال عقدتها مصر والعراق مع بريطانيا وعقدتها سوريا ولبنان مع فرنسا  ( وألغيت لعدم تصديقهما من البرلمان الفرنسي) .

هذه المعاهدات جاءت بشكل من الإستقلال بعد نضالات شعبية تولت قيادتها وزعامتها طبقة من  وجهاء البلاد أي من الإقطاعيين والملاك الكبار والمثقفين النابعين  في أكثريتهم من أبناء هذه الطبقة ولقد صور هؤلاء القادة  المعاهدات للشعب بأنها بداية الإستقلال وأنها تستجيب لكل طموحاتهم  وتطلعاتهم .

ولكن الواقع الممارس ما لبث أن كشف زيف هذه الصورة وخداعها فالإستعمار بدل أن يرحل ثبت وجوده ومنح نفسه شرعية من زعماء الأمة لم يكن يملكها . وزعماء الأمة إكتفوا بتسنم المناصب وإكتساب المغانم والقفز على كل أماني الشعب وآماله . هذا الكشف بدأ يغذي تيارات من ردود الفعل كانت بدورها موجودة من قبل ولكن لم يكن لها وجود قوي ومحسوس بجانب الحركة الوطنية ؛ بعض ردود الفعل إتجهت الى النازية والفاشية تستلهم منها  الوحي والحلول تؤمن بالقومية العرقية المتعصبة وتجعل من الإنسان عبدا طيعا لمجتمع منظم فوقيا ؛ وبعضها كفرت بالقومية وبالأمة وبالصراع القومي وإتجهت الى الشيوعية الأممية تستلهم مقولاتها حرفا بحرف تقدم الصراع الطبقي الداخلي على الصراع القومي مع الإستعمار وبعضها إتجهت إتجاها دينيا سلفيا تقليديا وبدل أن تستلهم من الرسالة الدينية ثوريتها وتقدميتها وجذرها العربي جعلت من نفسها قوة تقف أمام كل تجديد وتقدم مهما يكن لونه ومحتواه .

مميّزات ولادة البعث :

في هذا الجو ولد حزب البعث ولكنه تميز عن ردود الفعل الأخرى بأنه كان أصيلا بمعنى أنه إستلهم الواقع العربي القائم لا من حيث أنه واقع قائم بذاته ولكن من حيث أنه واقع آني في سلسلة طويلة من مجرى التاريخ يمتد في أعماقه الى لماضي ويمتد في آفاقه الى المستقبل ؛ وتميز بأنه كان عميقا بمعنى أنه بدأ خطوته الأولى بدراسة الذات من يث هي موضوع فطرح سؤال (من أنا) أول ما طرح وحدد الهوية ؛ وتميز بأنه كان ذا نظرة شاملة بمعنى أنه لم يقتصر على ناحية واحدة من نواحي الحياة ولا على تحد واحد من التحديات التي واجهتها الأمة ولا على هدف واحد إستفرده من بين أهداف النضال وإنما واجه هذه جميعا من حيث أنها وجوه متعددة من حياة شاملة واحدة .

التعامل مع مفردات الواقع الفكري :

لكن دكتور منيف : كيف تعامل البعث مع القوى الفكرية ؟؟ ومن أيّ عامل حضاري ؟؟؟

لقد تمكن البعث لا من إستيعاب ردود الفعل الأخرى فحسب بل من تجاوزها تجاوزا نوعيا فآمن بالقومية ولم يؤمن بالتعصب القومي والعرقي وآمن بالقومية لتحررية طريقا الى الإنسانية والأممية الحقة وآمن بالقومية المتبنية لتراثها الإسلامي  الثوري .

إنطلق بعد ذلك  في ثقة من نفسه ومن منطلقه لا ينغلق على أي مصدر من مصادر الفكر قديمه وحديثه شرقيه وغربيه عربيه وغريبه دون أن يسمح  في نفس الوقت لأي مصدر من مصادر الفكر بإستعباد حريته . بذلك وجد البعث منطلقه السليم المعبر عن مسار الأمة التاريخي وعن مسار العالم وتمكن من تجاوز النظرة الآنية المحددة في الزمن التي تكتفي بطرح حلول آنية لمشاكل آنية ومن تجاوز النظرة المجتزئة التي تأخذ من لحياة جانبا واحدا فحسب تبني عليه هيكلا كاملا للحياة والتاريخ ومن تجاوز النظرة السلفية المقتصرة على التغني بأمجاد الماضي ومن تجاوز النظرة الإجتماعية التي تجعل من الإنسان عبدا لمجتمعه ولأساطير مجتمعه .

ومع ذلك فلو أن البعث إكتفى بأن طرح نظرية بهذا الشمول لأقتصر على أن يكون مدرسة فكرية رائعة ولكنه حين طرح مناضليه في ميادين النضال وجعل من البعث حركة ثورية نضالية تقوم على الفكر تجاوز عملية تلقي التاريخ الى عملية صنع التاريخ  ؛ ولم يقتصر البعث في صراعه الفكري المتشعب الزوايا بالقوة المنطقية الفكرية المتضمنة فيه بقدر ما إنتصر بقوة تمثله للقوى العاملة في التاريخ وبقدر إحتوائه لروح الأمة ولآمالها ولتطلعاتها وبقدر تعبيره عن ضمير الأمة وروحها وطاقاتها الكامنة . إنتصر لأنه وجد نفسه في الأمة ولأن الأمة وجدت نفسها فيه .

الجدل .. المناهج ومنهجنا :

دكتور منيف : لكل حركة ثورية منهجها الجدلي في تحليل صراع وتاريخ مجتمعها هل تأثر البعث بمنهج معين ؟؟ أم أنه إستقى هذا المنهج من طبيعة التاريخ العربي وإتخذه أساسا في إستقراء وإستنتاج بنى الصراع القومي والصراع الطبقي ؟؟؟

على الرغم من أن المنهج الجدلي التاريخي له بذور في الفكر اليوناني القديم وفي فكر ابن خلدون وابن رشد فإن هذا المنهج فرض نفسه فرضا على الفكر الإنساني حين بدأ التاريخ يتسارع تسارعا كبيرا لا سيما منذ القرن التاسع عشر وحين بدأ الإنسان يتململ من الأنظمة القائمة التي تجاوزت مبررات وجودها وحين بدأت الثورات تتوالى في أشكالها المختلفة لتنفي الواقع وتحل محله وقعا أكثر إنطباقا على معطيات المجتمع  وكان هيغل أول وأعمق من وضع قواعد هذا المنهج ثم تبعه مع تعديلات مختلفة كل مفكر ثوري رافض لواقعه متطلع الى نفيه .

إن المنهج الجدلي التاريخي ليس تصورا  لواقع تاريخي  فحسب وإنما هو كذلك تصور للموقف الإنساني من هذا الواقع ومن أجل ذلك أصبح منهجا للثوريين الرافضين لواقعهم كما ظل مرفوضا من القانعين بمعطيات المجتمع الراضين بواقعه ومن مهنا فإنه مثلما هو منهج علمي هو موقف إنساني وأخلاقي في آن معا .

ولأن البعث إنطلق ثورة علة واقع الأمة العربية يريد أن ينفي هذا الواقع ويريد أن يدفع بالأمة الى حيث تتمكن من العطاء الحضاري الذي تزخر به إمكاناتها ولأنه رأى  أن هذا النفي  وهذا العطاء لا يمكن أن يتحققا من خلال تطور ذي إتجاه مستقيم وإنما يجب أن يتحققا من خلال  إنقلاب  على الذات يتم على مستوى  الإنسان من أجل أن يتم على مستوى الأمة فقد كان عليه أن يتوصل الى المنهج الجدلي التاريخي  من خلال وعيه على هذه الحقيقة وعلى هذه الرسالة .

وطبيعي أن يكون البعث قد إستفاد من كل فكر سبقه وأستوعب المذاهب الجدلية الناشئة من قبله ولكنه بحكم واقعه التاريخي وبحكم صراعه مع الإستعمار التحدي الخارجي للأمة  ومع  التخلف التحدي الداخلي  لها  لم يكن ليكتفي بالوقوف عند الحدود التي وقفت عندها تلك الأفكار والمذاهب فلم يقبل مع هيغل  أن تكون العملية الجدلية عملية فكرية محضة ولم يقبل مع ماركس أن تكون العملية الجدلية صراعا طبقيا محضا مقتصرا على التناقض بين وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاح  وإنما كان عليه أن يتضمن الإثنين معا وأن يتجاوزهما في نظرته الشاملة لكل ميادين الحياة المتداخلة تداخلا شديدا 0

فالإستعمار والتخلف اللذان جعلا من الإنسان العربي إنسانا مغتربا كل الإغتراب عن نفسه وعن أمته لم يكن من الممكن  مواجهتهما بعملية جدلية فكرية فحسب  ولا  بعملية جدلية طبقية فحسب  وإنما بعملية جدلية تتسع  لميادين الحياة كلها وعبر البعث عن فهمه هذا في إسمه : ( البعث ) فهو لا ينظر الى رسالته من حيث هي خلق من عدم وإنما هي نفي لواقع فاسد كان قد نفى بدوره رسالة حضارية فذة كانت قد نفت بدورها جاهلية متخبطة  تدور على نفسها في عملية جدلية تاريخية ممتدة الى الماضي ممتدة الى المستقبل .

أيّ الصراعين أسبق في الفكر البعثي ؟

لاحظنا دكتور منيف أن بعض أدبيات الفكر الإشتراكي  تعطي للصراع القومي بعدا واحدا ذلك الذي يشكل تناقضا رئيسيا مع الإستعمار ثم إن هذه الأدبيات تغالي بمركزية الصراع الطبقي  بل تذهب  أبعد من ذلك الى جعل الصراع القومي  تناقضا جزئيا لمحتوى الصراع الطبقي وفي  أمة كأمتنا  العربية هل يلتقي هذا لتصور مع تصور البعث ؟؟؟

حين عبّر البعث  عن نظرته الجدلية عبر عنها بالصراع القومي ولكنه أعطى هذا الصراع معنى أوسع بكثير من مجرد معنى الصراع ضد الإستعمار الإحتلالي فالصراع القومي عند البعث صراع ضد كل قيد يقيد إنطلاقة الحياة في الإنسان العربي  والأمة العربية سواء كان هذا القيد من صنع الإستعمار أو من صنع التخلف .

بهذا أصبح الصراع القومي متضمنا للصراع الطبقي ولكنه أوسع منه بكثير وحينما طرح الصراع الطبقي نفسه بقوة لا سيما بعد حصول بعض الأقطار العربية على ما سمي بالإستقلال  السياسي لم يطرح نفسه من حيث هو تناقض إجتماعي داخلي فحسب بقدر ما طرح نفسه من حيث هو تناقض طبقي في الموقف من الإستعمار أي في الموقف من الصراع القومي . والهوة التي نشأت بين  الطبقة الحاكمة وبين الجماهير لم تنشأ نتيجة موقف إستغلالي من تلك الطبقة فحسب بقدر ما نشأت نتيجة موقف مهادن منها للإستعمار مسالم له ولد عند الطبقات الكادحة الوعي على وجود الإستغلال الطبقي .

وتقدّم مراحل الصراع القومي وتغير أشكاله والتناقضات الجديدة التي كانت تولد من هذه العملية التاريخية أظهر أن ما كان يبدو نضالا شعبيا عاما ضد الإستعمار بدأ يفرز من داخله طبقة إثر طبقة تهادن الإستعمار وتنقلب على خط الأمة النضالي وتحارب القوى الثورية التقدمية بأعنف وأقسى مما كان يحاربها الإستعمار نفسه وبذلك فإن ولادة الصراع الطبقي في تجربة البعث لم تكن ولادة إقتصادية إجتماعية بحتة وإنما كانت من خلال عملية الصراع القومي .

وطبيعي - وقد كشف البعث نظرته الجدلية التاريخية من واقع الصراع العربي ومن وعيه على إشتمال معطيات الصراع القومي لمعطيات كل صراع إجتماعي  وسياسي وإقتصادي وطبقي – أن ينفتح على كل فكر جدلي أنتجته الحضارة الإنسانية دون أن يسمح لنفسه بأن يستعبده هذا الفكر أو يغلفه أو يغلقه على مقولة واحدة من مقولات الجدل  وبذلك فقد آمن بالجدل التاريخي منهجا ولكنه وعى تغيرمعطيات هذا الجدل ونتائجه بتغير الظروف الموضوعية في عملية الصراع التاريخي .

أرجحية الوحدة والسؤال اّلأهمّ :

دكتور منيف : ثمة من يقول إن إعطاء البعث أرجحية للوحدة على باقي أهدافه يشكل تعارضا منطقيا مع مناداته بالترابط الجدلي بين الوحدة والحرية والإشتراكية  ثمّ هل يذهب الحزب بطرح الأرجحية الى تكتيك مرحلي؟

في عام 1956 حين كتبت – لماذا الشتراكية الآن -  بينت التلاحم العضوي بين الوحدة والحرية والإشتراكية ؛ إن هذا الشعار المثلث الكلمات لا يعني أن الحزب له غايات ثلاث مختلفة وإنما يعني أن الحزب بتعبيره عن الأمة له رسالة واحدة ذات أوجه تختلف بإختلاف الميدان الذي نطبق فيه هذه الرسالة .

فإذا تساءلنا عما إذا كان الحزب يعطي أرجحية للوحدة كان علينا أن نحدد أولا ماذا نعني بالوحدة وماذا نعني في هذا المجال بالأرجحية . فالحزب يدرك أن الوحدة بمعنى الوحدة السياسية التي يجب أن تتحقق بين الأقطار العربية غاية لا بد أن يناضل الحزب وأن يناضل الشعب من أجل تحقيقها نضالا شرسا عنيفا عميقا وممتدا على مدى من الزمن قد يطول وقد يقصر حسب عمق النضالات التي يخوضها وحسب ظروف موضوعية كثيرة داخلية وخارجية تحيط بهذا النضال فتقويه أو تضعفه . ولكن الحزب حين يجعل من الوحة شعارا له لا يطرح هذا الشعار من حيث هو غاية سياسية لا بد من تحقيقها فحسب وإنما يجعل من الوحدة منطلقا قوميا  أساسيا له لفهم الذات وفهم الهوية .

بمعنى آخر فإن معنى الوحدة هنا ليس ذلك المعنى التطبيقي السياسي المتمثل في إقامة كيان سياسي موحد وإنما هو الوعي على أن الأمة العربية هي أمة عربية واحدة وأن هذا الوعي هو أساس لكل نضال قومي تحرري إشتراكي تقدمي وأن كل نضال من هذا النوع وعلى هذا المستوى لا ينطلق من هذه المسلمة البسيطة  هو حرث في البحر ودوران في فراغ  لأن تحديد هوية المناضل  أساس لعملية النضال يسبق منطقيا حتى ولو لم يسبق زمنيا تحديد غايات النضال وفي الحقيقة فإن غياب هذا التحديد قبل ولادة البعث كان سببا أساسيا في غموض غايات النضال وفي إنحرافها عن مقاصدها .

جدلية أهداف البعث :

فالوحدة لها بهذا المعنى أرجحية وأرجحية منطقية لأن تحديد الذات يسبق منطقيا تحديد حركة الذات وإتجاه هذه الحركة وغاياتها . فالأرجحية هنا ليست أرجحية زمنية في تحقيق أهداف البعث ؛ فأهداف البعث كلها وجوه مختلفة من حركة تاريخية واحدة وقد قلت في - لماذا الإشتراكية الآن  - قبل أكثر من عشرين عاما : (( الإشتراكية والحرية والوحدة إذن ليست أسماء مختلفة تم جمعها صدفة بمجرد لمحة عابرة وإنما هي أوجه مختلفة لشيء واحد أساسي  تنبع منه جميعا وتنبثق إنبثاقا  وإذا كانت الإشتراكية ناحيته الإقتصادية في الأساس والحرية ناحيته السياسية في الأساس والوحدة ناحيته القومية في الأساس فهذه جميعا ليست إلا نواحي مختلفة لشيء واحد وهذا الشيء الواحد الذي تنبع منه جميعا هو إحترام قيمة الإنسان إحترام لتجربته القومية وكيانه القومي وإحترام حياته بتأمين مستوى لائق له من الإقتصاد والثقافة وإحترام فكره بتأمين حرية هذا الفكر وتأمين التعبير عن هذا الفكر ...)) .

فالأرجحية هنا إنما تعني  أن كل إدعاء بالإتجاه  نحو تحقيق مجتمع إشتراكي  أو نحو تحرير المجتمع  أو نحو تحرير الإنسان لا يستند أساسا الى مسلمة الوحدة القومية هو إدعاء عاقر غير منتج ومعرض عاجلا أم آجلا للوقوع في أحضان الإمبريالية .

للوحدة مستويان مختلفان :

ولعلّ تاريخ البعث نفسه وموقفه مما سمي بمشاريع  الوحدة أو الإتحاد  بين الأقطار العربية في ربع القرن الأخير لأوضح دليل على هذا الفهم العميق لمعنى الوحدة فكثير من مشاريع الوحدة أو الإتحاد إنما يكون غطاءا لعملية إتخاذ  موقف رجعي أو لعملية إستسلام  لضغوط إمبريالية يمينية أو لإبتلاع  حركة تحررية في أحضان حكم رجعي .

لو كان البعث يعطي أرجحية للوحدة السياسية منفصلة عن رسالة الأمة المتمثلة في النضال ضد الإمبريالية والتجزئة والصهيونية والتخلف وفي النضال من أجل الوحدة الحقيقية والحرية والإشتراكية  لكان عليه أن يبارك كل هذه المشاريع الملغومة  ولكن البعث  يفهم الوحدة بمستويين مختلفين  يكمل أحدهما الآخر أولهما هو تحديد الذات من حيث هو منطلق كل حركة وهذا له أرجحية لا ريب فيها وثانيهما تلك الوحدة السياسية المعبرة عن تتويج موقف نضالي تحرري تقدمي وهذه لا يمكن فصلها عن لحركة التحررية والتحريرية والإشتراكية .

هل تكتمل أهداف البعث في قطر واحد ؟

دكتور منيف : وأنت عشت تجربة الثورة في القطر العراقي فكرا وممارسة نطمح أن تصور لنا الجواب الفكري للسؤال المهم الذي يطرحه المناضلون العرب خارج القطر : هل ممكن تبنى الإشتراكية بأفقها العلمي التطبيقي في قطر عربي واحد ؟؟

لعل في الجواب على هذا السؤال ما يستكمل جواب السؤال السابق ولعل من الأفضل أن أطرح السؤال بالصيغة التالية : هل يمكن لحزب البعث أن يعبر عن صورته التحررية ومبادئه الإشتراكية حين يحكم في قطر واحد ؟؟ ومرة أخرى لا بد أن أؤكد أن صورة البعث الكاملة التي يطرحها للأمة العربية لا يمكن أن تكتمل ملامحها إلا في ظل الوحدة العربية وأنه كلما إقتربنا من تحقيق الوحدة إزدادت  ألوان التحرر الإجتماعي والإنساني في الصورة نصوعا وإشعاعا . ولكن هذه الحقيقة لا تكتمل أيضا إلا إذا أكدنا عكس هذه المعادلة بقولنا إنه كلما حقق حكم في قطر عربي تحررا إجتماعيا وإقتصاديا وإنسانيا  في مجتمعه المحدود  مستندا الى منطلق الوحدة القومية متطلعا الى إستكمال  الرسالة الوحدوية إزدادت الأمة العربية إقترابا من الوحدة .

إن هذا يعني أن على القطر العربي حين يحكمه البعث ومبادئ البعث أن يعبر عما يمكن أن يحققه البعث من تغيير أساسي في علاقات المجتمع وفي بنية الإنسان العربي على رغم كل القيود القطرية وأن يعبر عما يمكن أن تكون عليه الصورة حين تستكمل الأمة وحدتها وحين يعم التغيير الوطن العربي كله .

إن بناء المجتمع الإشتراكي على أنقاض مجتمع إقطاعي لم تولد فيه بذور البورجوازية ولم تكد تبدأ فيه الثورة الصناعية أمر صعب في ذاته حتى حين  يطبق في بلاد لها سعة الإتحاد السوفياتي  أو سعة الصين فإذا أضفنا الى ذلك أن هذا البناء يتم في وقت تجاوز فيه العالم مرحلة الثورة الصناعية ليدخل مرحلة الثورة التكنولوجية وأن القوى الإمبريالية مازالت تحاول أن تئد كل حركة تحررية تقدمية تناضل وأن هذا البناء يتم في قطر محدود المساحة محدود السكان محدود الثروة متضمن لكثير من بؤر التآمر محاط بها تضاعفت صعوبات هذا  البناء أضعافا مضاعفة .

كيف يطرح الأنموذج المصغر ؟؟

ولكن تضاعف الصعوبات لا يجوز أن يكون حائلا دون بناء المجتمع الإشتراكي بل لا بد أن يكون حافزا لمضاعفة الجهد  في بنائه لأن بناء هذا المجتمع  على رغم كل ما يحيط به من قيود وصعوبات إنما يهيء أنموذجا مصغرا لما يمكن أن تحققه الأمة العربية في وحدتها وفي وحدة طاقاتها  وقدراتها من بناء . وثانيا لأن هذا البناء نفسه على ما فيه من قصور لا بد أن يفجر الطاقات المحصورة في القطر وأن يدفع بها الى الساحات الفسيحة للوطن العربي وللأمة العربية . وهنا تكمن العلاقة الجدلية بين البناء الإشتراكي وبين  الوحدة العربية فعملية بناء المجتمع الإشتراكي ليست عملية بناء إقتصادي محض  وإنما هي عملية نضالية عميقة لا بد أن تشارك فيها طبقات الشعب الكادحة التي كان ينخر كيانها التخلف والعلاقات المتخلفة . وعملية الوحدة القومية كذلك ليست عملية فوقية تتم بين دول وأنظمة وإنما هي عملية نضالية موجهة ضد الإمبريالية والصهيونية والتجزئة  وكل تحد خارجي  مثلما هي موجهة ضد تحديات الأمة الداخلية .

فالعامل المشترك الأساسي  في العمليتين هو تفجير الطاقات النضالية وتحويل إمكاناتها الكامنة الى قوة فاعلة . فالإشتراكية من حيث هي نظام إقتصادي لا تقود حتميا  الى الوحدة  والوحدة من حيث هي نظام سياسي فوقي لا تقود حتميا الى الإشتراكية ولكن الطاقات النضالية التي تبذل من أجل تحقيق أي  منهما  من أجل تحقيق أية عملية تحررية متصلة بهما هي فقط القمينة بأن تقود إحداهما الى الأخرى .

ولعلنا نلحظ في الأقطار العربية كيف يجتمع الإنفتاح الإقتصادي الليبيرالي البورجوازي مع الإنكفاء القطري وكيف يجتمع المد القومي مع البناء الإشتراكي .

الجزء يغذي الكل :

إن إستكمال صورة البناء الإشتراكي للمجتمع  لا يمكن أن يتم إلا في إطار الوطن الكبير ولكن كل خطوة يسيرها القطر نحو البناء الإشتراكي هي خطوة نحو الوحدة العربية لا سيما إذا تذكرنا أن الإشتراكية ليست كما يظن البعض  بناء  مكتمل الجوانب وإنما  هي ككل ظاهرة تاريخية أخرى  مسار تكتمل جوانبه مع مسار التاريخ ولا يمكن  أن يأتي يوم يقول فيه الإشتراكي  اليوم أكملت لكم إشتراكيتكم .

ومن هنا  فإن القطر العراقي  في تجربته الثورية البعثية وفي بنائه لقواعد الهيكل الإشتراكي والعلاقات الإشتراكية  وفي خوضه في نفس الوقت لمعركة التحرر السياسي والإقتصادي والقومي إنما يقدم النموذج والقدرة والمنطلق من جهة ويهيء لتفجر الطاقات العربية الحبيسة لإستكمال رسالة الأمة العربية من جهة أخرى .

  حوار منشور بمجلة آفاق عربية

العدد 8 نيسان 1978

صفحة 2- 7

 

 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !