د.سيد القمني
سبق لي معالجة موضوع الحجاب من على أرض المقدس والمأثور الإسلامي، من وثائقه المعتمدة وتاريخه العقدي بصحيفة القاهرة تحت عنوان: "مكانة الحجاب بين فضائل العرب"، وأعدت نشره في كتابي (الحجاب وقمة الـ 17). ولأن الفارق بين الحجاب والنقاب هو فارق في الدرجة وليس فارقاً في الكيف والنوع، فسأتناول الظاهرة هذه المرة من منظور العقل وحده وفق شروط القراءة السسيوبوليتيك التاريخية، لتوصيف الظاهرة وتحديدها مفهومياً ورصد أهدافها ومنطقها، إذ لا شك أن ظاهرة تفرض هذا الحضور ولها هذا التأثير على المجتمع المسلم، لا بد لها من أغراض وأهداف تريد تحقيقها على الأرض.
لكن الأوضاع في بلادنا كثيراً ما تربك المراقب والراصد، فلا تعرف هل الحجاب والنقاب فرض ديني وتكليف شرعي كالصلاة والصوم والشهادتين يكفر تاركه ومُنكره أم هو ظاهرة اجتماعية تظهر لتختفي ثم تعود ثم تذهب؟ فإن كان النقاب فرضاً دينياً فلماذا يتركه المسلمون زمناً ليعودون إليه في زمن آخر؟ وهو الأمر الذي لا يحدث مع فروض وأركان الإسلام الأخرى الثابتة ثبات الدين!! وهل لو كان من دين المسلمين حقاً وفعلاً وعن قناعة فلماذا لا يثبت ثبات الفروض الإسلامية الضرورية المعروفة؟ أم هو ليس من أصول الإسلام وأنه ظاهرة اجتماعية نسبية ذات علاقة بظروف المجتمع واقتصاده وسياسته، وأن هذه الظروف هي التي تؤثر في ظهوره وإختفائه بقصد ورغبة من المجتمع مثله مثل سائر موديلات الملابس باختلاف الثقافات والأزمنة؟
مصر قبل الفتح الإسلامي لها كانت المرأة المصرية سافرة متزينة وأيضاً عاملة منتجة، فكان عمل الحقل لا يستقيم للرجل بدون معاونة زوجته، ولأن العمل يكون في عجين الطين وسحب للمياه وسد القنوات وفتح أخرى بمراكمة الطمي هنا أو إزالته هناك مع بقية ضروب وسائل الفلاحة، فقد فرض العمل ظروفه على المرأة المصرية حيث لا يصلح حجاب ولا نقاب ولا إدناء للجلابيب، لأنه سيكون معوقاً ومعطلاً عن الإنجاز والإنتاج الحقلي.
لهذا لم يكن عيباً ولا عاراً ولا ملفتاً حتى للنظر ثدي المرأة ترضع طفلها بالسوق، ولا أفخاذها العارية وهي تعجن الطين في الحقل أو تغسل الملابس والأواني على شط النيل. وظلت المرأة المصرية على حالها بعد الفتح الإسلامي بفرض من البيئة وشروطها وبقرار من الظرف الإنتاجي. فقط الطبقات المصرية المالكة والأكثر ثراء والتي لا تعمل بيدها لتنتج، هي التي أرادت تثبيت سيادتها بتقليد السادة العرب الغزاة، فلبست ملبس نساء الفاتحين، أما الفلاحة والعاملة المصرية فقد ظلت امرأة منتجة لا يلزمها سوى ما يناسب إنتاجها من ملبس، وهبطت على البلاد غزوات جراد فاتح أكثر تعصباً وتشدداً سواء زمن الفاطميين الشيعة أو الأيوبيين السنة أو المماليك أو العثمانلية، وظلت الفلاحة المصرية في غنى عن أزياء السادة، بينما أخذت الطبقة الوسطى تسعى إلى اللحاق بالأرستقراطية، فلبست نساء التجار وكبار الملاكين على الوجه نسيجاً شفافاً رقيقاً كنا نسميه (البيشة)، وهو ما تم تخفيفه زمن الإستعمار العثماني إلي (اليشمك)، وهو مجموعة خيوط متشابكة في جدائل هندسية لا تحجب شيئاً، إضافة إلى علامته الطبقية بقدر الذهب الذي يزينه.
ومع ثورة 1919 التي قادتها الطبقة الوسطى المصرية، قرر المجتمع المصري أن يعلن المساواة بين مواطنيه، فخلعت المرأة المصرية الحجاب الطبقي وتبعتها في ذلك معظم الدول العربية والإسلامية، عن إرادة وعلنية بتأسيس مفكري عصر النهضة، ورجل الحقوق النسائية الأبرز قاسم أمين، وبالطبع سيدة العفاف والطُهر هدى شعراوي التي خلعت الحجاب ومعها كل المصريات في ليلة وضحاها. بقرار اجتماعي إرادي واعي نزلت بموجبه ربات الخدور الناعمات من أسر جناح الحريم، إلى العمل السياسي والعمل الإنتاجي وتحصيل العلم لتنافس الرجال في بناء الوطن مع الفلاحة المصرية التاريخية. وهو ما ظل حتى عهد قريب أحد أهم مفاخر ثورة 1919، حتى وصف التاريخ زمنها بأنه (عصر النهضة والتنوير)، الذي بلغ تأثيره جزيرة العرب فخلعت المرأة النقاب والحجاب خاصة الطالبات منهن بالمدارس والجامعة (أنظر الصور المرفقة)، وهو كله ما يعني أنه لو كان الحجاب والنقاب جوهريان في دين الإسلام، إذن لهلك الإسلام يوم خلعت المرأة المسلمة المصرية الحجاب والنقاب ومعها نساء العرب، وهو ما لم يحدث، ولا تفوتك هنا الملحوظة الأهم وهي أن خلع الحجاب والنقاب قد ترافق مع عصر النهضة والتنوير، بينما ترافقت العودة إليه مع إنحطاط الأمة التمامي في زمن الهزائم والخيبات، بعد استيلاء العسكر على الأوطان، وما انتهى إليه الاستبداد باسم الأمة وقضاياها الأيديولوجية إلى توالي الهزائم التاريخية الهائلة، وما صاحبها بالضرورة من رد عنيف على هزائم عنيفة بظهور جماعات الإسلام السياسي الإرهابي، الذي كان لابد أن يفرض سلطانه عبر رموز وشعارات تشير إليه وتميزه. فكانت العودة للحجاب والنقاب شرط إثبات إسلام الأسرة المسلمة مع ما يسمى بالصحوة الإسلامية وطفرتها البترولية، والتي كان ثمنها الفادح ألوف الشهداء المصريين على ثرى سينائنا الغالية، عبر سنوات قتال استمرت من 1967 وحتى 1973.
مع ما أسموه الصحوة، عاد الحجاب والنقاب معبقاً برائحة النفط الصحراوي الجافة القاسية، وخلال السنوات الأخيرة بدأت النقلة المرحلية التالية من الحجاب بموديلاته المتعددة إلى النقاب، لكنه ليس كنقاب البيشة واليشمك، إنما نقاباً وهابياً، هو وما يوضع على عيني الدابة الدواره موديلاً واحداً لا غير.
الملحوظة الأهم في تلك الظاهرة، هو مدى السهولة التى ينتقل بها شعب بكامله كالشعب المصري (ومعه كل العرب المسلمين تقريباً) من حال إلى حال، ومن زي متعارف عليه اجتماعياً إلى زي سبق له استخدامه وسبق له أن تركه ونفاه من حياته بإرادته، وحسبناه تاريخاً مضى وانقبر فإذ به يعود بكل يسر وسهولة!!
إن شعوباً يسهل عليها في سنوات قليلة أن تغير زيها من النقيض إلى النقيض التام، مع ما يترتب على هذا التغير من انقلاب لكل المفاهيم والقيم الأخلاقية والسلوك الاجتماعي التي ترتبط بهذا الزي أو ذاك، إن شعباً يخلع زيه ومعه ثقافة بكاملها ومنهج حياة بكليته، ويعود ليلبس ما كان سبق وخلعه، ويعود مرتكساً إلى ثقافات أقدم في التطور، هو شعب مضطرب متردد يخسر أي إنجاز ممكن أو محتمل، لأنه لا يقطع الشوط لنهايته، إنما يعود من منتصف الطريق متجهاً إلى الخلف، إلى نقطة البداية ليسير عكس سير كل الأمم عبر التاريخ، على الطريق النقيض معنى ومبنى ومكاناً وزماناً.
وهذا التردد والتقدم والتراجع يشير بوضوح إلى أن الشعب المسلم ما عاد متأكداً من شئ، ولا مقتنعاً بما يفعل، فلو كان يفعل عن إيمان بما يفعل ما غير ولا بدل دون براهين واضحات على سلامة اختياراته أو عدم سلامتها، ودون أن يجيب نفسه بوضوح عن دور هذه القطعة من القماش في تقدمه وإنجازه وتميزه بين الأمم أم هي عكس ذلك.
إن شعباً يقولون له إخلع، فيخلع، ويقولون له البس، فيلبس، هو شعب قد تم محو شخصيته، شعب آخر غير شعبنا التاريخي العظيم، فشعب الصحوة الإسلامية المصري شعب مسلوب الإرادة وخاضع للأوامر التي لا تحمل إقناعاً ولا دليلاً على جدواها لأمنه وسلامته وتقدمه، وهو الشأن المخيف الذي استجد على هذا الشعب العظيم، هنا الرعب العظيم!! فماذا حدث يا شعب؟!
المعلوم أن ظاهرة كالحجاب والنقاب لا تظهر فجأة كالبركان أو الزلزال، ولا هو حادثة بيجو غير متوقعة، لأنه شأن يعني مجتمعاً بكامله، لذلك هولا يظهر ويختفي عشوائياً، ولابد له من برنامج عمل مدروس لممارسة آلية الظهور والاختفاء، لابد له من عمل وتخطيط مرحلي وإعداد انتقالي إلى الهدف الاستراتيجي النهائي، وهو ما يعني أن هناك إرادة مقتدرة تقف وراء هذا البرنامج ولها أهدافها وأدوات تثقيفها أو بالأحرى تدجينها للأرواح والعقول، ومن ثم سيكون السؤال: من هو صاحب هذه الإرادة المقتدرة، وما هي أهدافه مما يعمل؟
فنحن نعلم بوضوح الأسباب والأهداف والنتائج التي كانت وراء دهس النقاب بأحذية جداتنا وأمهاتنا في شوارع مصر وميادينها زمن النهضة، وكان برنامجنا علمانياً علنياً في دولة مدنية ذات مؤسسات حديثة وأحزاب قوية بنظام برلماني يتم فيه تبادل السلطة بإرادة شعبية، أهدافه وطن يجمع أفراده وطوائفه وملله ونحله وأجناسه وعناصره، بعقد اجتماعي يقفون فيه جميعاً على التساوي حقوقاً وواجبات، ويربطهم برابط المصلحة المشتركة بينهم. وأساسه المتين هو قدسية الوطن وعلم الوطن (ملحوظة / اتركوا العلم مرفوعاً ولا تجعلوه مناسبة كروية)، حيث يعيش الجميع على اختلافهم تحدوهم مصالحهم المشتركة. كان الهدف اقتباس النظام الغربي المتفوق رغم وجود المستعمر المكروه على تراب الوطن. لكن شعبنا أمكنه أن يفرق بين المشاعر كالحب والكراهية، وبين المصالح التي دعته لاستخدام مناهج المتفوقين ليتفوق مثلهم. باختصار كان زمن 1919 هو قرار مصري مجتمعي للحاق بقافلة الحداثة والأمم المتقدمة بدولة مدنية دستورية برلمانية مؤسساتية.
العجيب أن يعود النقاب والحجاب للأمة وهي مهزومة وفي حضيض الأمم وبحاجة لتنفس هواء الحرية للخروج من مستنقع المتخلفين، ومن هزيمتها الحضارية المنكرة؟!!
لن تكون عودة هذه الظاهرة مفهومة مع حالنا الذي يزري بنا وبتاريخنا، إلا إذا كان صاحب البرنامج يقدمها للناس كآلية تفوق، بحسبانها وسيلة ارتقاء بحالنا المخزي إلى حال أرقى، والمطالع لشعارات الشوارع في بلادنا سيعلم فوراً أن العودة إلى النقاب هي عودة إلى صحيح الدين، لنرضى ربنا فيرضى عنا وينصرنا على القوم الكافرين!! هو الإفلاس الكامل من أي حلول يملكها أصحاب الصحوة، وشعور من الناس بعدم القدرة على التغيير، وخسارة المصري لروحه التواقة ونكتته الناقدة اللاذعة التي اختفت مع الصحوة بدورها، أوصلوا المصريين إلى القناعة بأن الأعداء لا يقدر عليهم إلا الله بنفسه.
وأصابت الصحوة ذاكرة شعبنا بالتلف، فما عاد يذكر أننا جربنا الحجاب والنقاب زمن السلاجقة والعثمانلية والمماليك ولم يصنع تقدماً ولا أدى لحضارة ولا صنع رقياً قيمياً، بل أدى إلى انهيار كارثي بما صاحبه من سلوكيات من لزوم ما يلزم، وانتهى بضعف الوطن كله مما سمح باستعمار البلاد من الصليبيين مرة ومن الاستعمار الحديث مرة.
الواضح لأي عقل صاحي أو حتى غافل، حجم المليارات التي تم ضخها من الخزائن النفطية لتضخيم ونشر الصحوة، وكمّ البيزنس التجاري الهائل من بنوك وبيوت أزياء وتجارة سلاح، التي استثمرت، عبر المساجد والمدارس والجامعات والصحف والإذاعة والتلفاز، هو مشروع هائل التكلفة إذا قارناه بما صرفه الاتحاد السوفيتي بجلال قدره خلال القرن الماضي بطوله لنشر أيديولوجيته، فكان ما صرفه من دعم لحلفائه في العالم ونشر مبادئ ثورته وتسليح أنصاره بالطائرات والصواريخ سبعة مليارات دولار، بينما بلغ ما صرفته السعودية لتصدير وهابيتها وصحوتها منذ هزيمتنا في 1967 وحتى عام 2000 أي خلال ثلاثين عاماً فقط زهاء سبعين مليار دولار، ومثل هذا الصرف الهائل في هذه الفترة الوجيزة يفترض بالضرورة أن وراءه عقلاً يخطط، وأن هذا التخطيط له أهداف وعائدات تفي وتزيد بربحيتها عما تم صرفه، فلابد من عائد ومكاسب وربح وفير، فمثل هذه الأموال بأرقامها الهائلة المهولة لا تهدر في مغامرة ومقامرة، خاصة عندما تجده لا يترك فرصة لشراء أي موقف وسد أي ثغرة واستثمار أي فراغ لملئه بالأموال للسيطرة الوهابية الكاملة.
أسوأ ما في الأمر كله هو استجابة شعب بحجم الشعب المصري ليخضع لأوامر ونواه ويقبل بالخضوع والخنوع والإنزلاق إلى حفرة العصور الوسطى المظلمة، دون أن تحميه مناعته التاريخية التي كانت درعاً واقياً له عبر تاريخه الطويل، عن هذا السقوط المدوي، ليخلع ويلبس ويأكل وينام ويتكلم ويسكت وينكح ويتبول ويتغوط ويحب ويكره بأوامر ونواه وأدعية وفتاوى دون أي براهين واضحة لعائدية هذه الطاعة على الوطن والمجتمع.
وللحديث بقية
نقلا عن عراق الغد
التعليقات (0)