حزمت أمتعتي وكلي شوق، أحمل أمل لقاءه والسجود في حضرة قدسه، شم قبضة من ثراه وتنفس نسيم أرضه..
المرة الوحيدة التي زرت فيها مدينة رسول الله (ص) كانت قبل أكثر من عشر سنوات.. كنت في الحادية عشر من عمري تقريباً.. لم أدخل حينها الروضة ولم أزور مقبرة البقيع وكنت أضطر للجلوس مع أخوتي الصغار تلبيةً لرغبة والديّ..
هذه المرة سأرى كل شيء وسأعانق كل شيء.. هكذا حدثت نفسي..
حانت لحظة الانطلاق وقلبي مغمور بالسعادة.. حاولت قراءة الكتاب الذي حملته معي ليؤنس طريقي إلا أنني لم أتمكن من جمع شتات أفكاري.. فقد كنت شاردة الذهن..
بعد أكثر من عشر ساعات من المسير بدت المعالم التضاريسية المألوفة تتغير، ظهرت الجبال المتفرقة.. فتأملتها وقلبي يُسبح عظمة الخالق.. ليس بمقدوري رفع بصري عن النافذة..فكل شيء جميل..
وأخيراً.. دخلنا الأرض الطاهرة.. وتعالت الأصوات بالصلاة على محمد وآل محمد.. توقفنا عند جبل أحد وزرنا سيد الشهداء «الحمزة بن عبد المطلب» رضوان الله عليه وكذلك شهداء أحد.. رسمت مخيلتنا مشهد الحرب وبداية إرساء قواعد الرسالة المحمدية..شممنا رائحة التضحية وشعرنا بانسيابها في عروقنا.. أكملنا المسير وإذا بالقبة الخضراء تلوح من بعيد وكأنها تُحييّ الزائرين.. سقطت دمعة دافئة من عيني.. ولعلها دمعة شوق..!
توجهنا نحو الفندق المهيأ لاستقبالنا.. نسينا كل تعب السفر وجهده.. اغتسلنا لندرك الفريضة في الحرم النبوي الطاهر.. ذابت الروح في ساحة القداسة.. وحتى هنا.. لم تبدأ آهاتي..!!
قررنا في اليوم التالي دخول الروضة.. ولكن كلما توجهنا نحو أحد المداخل المؤدية إليها نجده مغلق..!! سألتُ إحدى الموجودات.. لماذا المداخل المؤدية للروضة مغلقة..؟! فقالت لي: إنها لا تُفتح إلا مرتين يومياً ولمدة نصف ساعة فقط وأحياناً أقل من ذلك ويكون فتحها عند الثانية ظهراً والعاشرة مساءً.. وعليكِ الدخول بسرعة قبل إغلاقها.. حسناً.. شكرتها وتسمرت في مكاني.. انتظر ساعة الصفر.. لا تزال الواحدة ظهراً.. لا بأس بالانتظار.. أخذت مصحفاً وبدأت بالتلاوة وما هي إلا لحظات حتى أقبلت امرأة لا يُرى منها إلا عينيها.. تمسك بمكبر الصوت بيديها.. وبدأت تلقي مواعظ وتوجيهات على النساء الجالسات.. استوقفني منها «الشرك، الغلو، التبرك والبدع...» وتستمر الحكاية..!
تنفست بعمق وانتظرت لحظة الفرج.. أخيراً أنهت الواعظة كلمتها الثقيلة وانفتح الباب المؤدي للروضة.. ولكم أن تتصوروا مدى التزاحم الذي حدث فهناك المئات من السيدات يتمركزن حول بوابة ضيقة والأدهى أنها ستُغلق بعد لحظات.. تدافعٌ كسيل بشري جارف.. لم أكن أدري لأي ناحية أتوجه ولكن السيل جرفني معه.. بعد أن ابتعدت عن فوهة المدخل الضيقة.. اتسع المكان بعض الشيء فأمكن لنا أخذ نفساً نقياً.. وما إن رفعت بصري حتى أذهلني الموقف لدرجة أني بدأت أشك في نفسي هل أنا في حلم أم حقيقة..؟! النساء يهرولن وبعضهن يركضن والبعض الآخر يحاولن تسريع الخطى إلا أن كبر سنهن لم يسعفهن لذلك..ارتسمت الدهشة على وجهي وتوقفت مكاني أبحث عن تعليل لما يجري حولي..! تأسرني هيبة المكان وقدسيته وغرابة المشهد الذي أراه أمام ناظري..أذكر أني قرأت أن من آداب الزيارة تقصير الخطى والسكينة والوقار والخشوع.. بتُ لا أفهم شيئاً.. أكملت المسير حتى وصلت.. ما لذي أراه..؟! سجادة خضراء يتزاحم عليها النساء.. سألت إحدى الواقفات: أين هي الروضة..؟! وأين قبر رسول الله (ص) ؟! فقالت لي: ها هي الروضة وأشارت للسجادة الخضراء التي لم تكن تسع لأكثر من خمسين مصلية.. أما قبر رسول الله (ص) فلا يمكنك رؤيته لأنه يقع خلف الحاجز..!! تهاوت من عيني دمعة.. لا أدري هل كانت حسرة على رؤية الضريح المقدس.. أم لوعة على حال النساء المتكدسات.. فالواحدة منهن تصلي في حيز شبر من الأرض فقط لشدة الزحام.. تمنيت لو أثقب ذلك الحاجز ببصري.. لو أن جسدي يعتق روحي لتحلق حوله..! تساءلت.. وهل النظر لقبر رسول الله (ص) شرك لنا نحن معاشر النساء..؟! انصرفت وقلبي يحمل حسرة اللقاء.. واسيته وقلت له: لست وحدك فكثيرون من هم مثلك.. وربما البعض قطع مسافات أضعاف ما قطعته أنت.. فصبراً صبرا..
إلى هنا لم تنتهي المأساة بعد بل أنها كانت البداية..!
توجهتُ مساء اليوم التالي نحو مقبرة البقيع.. فوجدتها هي الأخرى مغلقة.. وعلمت أنها لا تُفتح إلا مرة واحدة فقط... الرابعة عصراً.. توجهت مع أختي قبل الموعد بحوالي نصف ساعة.. وإذا بالمشهد يتكرر..ولكن هذه المرة أشد إيلاماً.. كان الجو حاراً وسواد العباءة يزيد من حرارته..اقتربت أكثر فإذا بالبوابة محاطة بشرائط كتلك التي توضع في مواقع الجريمة وحولها رجالٌ يرتدون زياً عسكرياً ويحملون بأيديهم عصي يلوحون بها في وجه من يحاول الاقتراب..!!كانوا قرابة عشرة جنود أو أكثر يتبادلون فيما بينهم ابتسامات لعلها ساخرة ولعلي أجهل مغزاها..! ظننت أني في بيت المقدس..!! لا لا أنا هنا في البقيع.. قلت لأختي قد نفترق وسط هذا الزحام وليكن لقائنا عند الأسطوانة.. حسناً اتفقنا.. قرئنا دعاء الاستئذان لدخول المشاهد الشريفة.. انتهينا منه والبوابة لم تُفتح.. فرغت صلاة العصر والبوابة لم تُفتح أيضاً.. أُحضر الموتى وربما دُفنوا ونحن لا نزال واقفين.. تعبت أقدامي من طول الوقوف.. فقلت: مهلاً ألا تري الأطفال وسط حرارة الشمس.. وكبار السن ممن ينتظرون مثلك..فليس حالك بأحسن من حالهم..شعرت بحرقة في قلبي.. لماذا يُعامل الزوار بهذه الطريقة..؟!
وهل لو أن أحداً أقبل عليه ضيوف سيعاملهم هكذا..؟!
ألسنا ضيوف رسول الله (ص)؟!
أليست المقدسات الإسلامية ملكاً لكل الأمة لا ينفرد بها مذهب أو طائفة..؟!
ألا يشعر هؤلاء بالحرج من رسول الله (ص) ؟!
أوه.. لقد نسيت.. ربما يعتقدون بأنه ميت لا يسمعهم ولا يراهم..
بعد انتظار دام قرابة ساعة من الزمن قطع تساؤلات قلبي اندفاع النساء نحو البوابة في سباق محموم مع الزمن لأنها ستُغلق بعد لحظات..!! دخلت من البوابة وشدني صوت سيدة.. لكنتها جزائرية إن لم يخيب ظني.. كانت تتوسل للرجل أن يفتح لها البوابة لتدخل..ولكن دون جدوى.. أخبرته أنها سترحل اليوم ولا تدري إن كانت الأقدار ستكتب لها عودة أم لا..؟ كل ذلك دون فائدة.. انصرفت المرأة وقد كسرت قلبي.. أحسست بالحسرة التي سكنت قلبها.. تنهدت بعمق وواصلت المسير.. صعدت الدرجات.. لأسلم على أئمة البقيع من خلف السياج.. أغبطك يا حمام البقيع الطاهر.. فأنت تملك حرية أكثر مما أمتلك..يمكنك تعفير خدك بتراب قبور الأطهار بينما أنا حتى النظرة من بعيد لم أحظى بها..
سقط القلم من يدي.. لعله يريد مني التوقف..!!
آسفة لأني تركت القلم ينزف.. ولكنه أبى إلا النزف..!!
التعليقات (0)