مواضيع اليوم

آل محمد وآل إبراهيم

محمد سرتي

2009-09-28 18:51:34

0

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجّها إذ رجع إليّ عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم فقال يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمّت. فغضب عمر ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشيّة في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم.
قال عبد الرحمن: فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كلّ مطيّر، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها. فامهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنّة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكناً فيعي أهل العلم مقالتك ويضعوها على مواضعها. فقال عمر: والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.
قال بن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلى ركن المنبر، فجلست حوله تمسّ ركبتي ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب، فلما رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولنّ العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف. فأنكر عليّ وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله. فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذّنون قام فأثنى على الله بما هو اهله ثم قال:
أمّا بعد؛ فإني قائل لكم مقالة قد قُدّر لي أن أقولها لا أدري لعلّها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحلُّ لأحد أن يكذب عليّ. إنّ الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلّم بالحقّ وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائلٌ: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله. فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البيّنة أو كان الحبل أو الاعتراف.
ثم إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن "لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم" أو "إنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم". ألا ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: لا تطروني كما أُطري عيسى بن مريم، وقولوا عبد الله ورسوله. ثم إنه بلغني أنّ قائلاً منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلاناً. فلا يغترّن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت، ألا وإنّها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرّها، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر.
من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي تابعه تغرّة أن يقتلا، وإنّه قد كان من خبرنا حين توفّى الله نبيّه صلى الله عليه وسلّم أنّ الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنّا عليٌّ والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار. فانطلقنا نريدهم، فلمّا دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا أين تريدون يا معشر المهاجرين، فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم ألاّ تقربوهم؛ إقضوا أمركم.
فقلت والله لنأتينّهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجلٌ مزّمل بين ظهرانيهم، فقلت من هذا؟ فقالوا سعد بن عبادة، فقلت ماله قالوا يوعك، فلمّا جلسنا قليلاً تشهّد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد؛ فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفّت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر، فلمّا سكت أردت أن أتكلّم وكنت قد زوّرت مقالة أعجبتني أردت أن أقدّمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحدّ فلمّا أردت أن أتكلّم قال أبو بكر على رسلك، فكرهت أن أغضبه، فتكلّم أبو بكر فكان هو أحلم منّي وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكتُّ، فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجرّاح وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدّم فتُضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحبّ إلي من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسوّل لي نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن.
فقال قائل من الأنصار: "أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجب، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش". فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف، فقلت ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار. ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة، فقلت قتل الله سعد بن عبادة.
قال عمر: وإنّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فإمّا بايعناهم على ما لا نرضى وإمّا نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يُقتلا".
رواه البخاري بإسناده عن ابن عبّاس، ورواه بن حبّان بزيادة في قول أمير المؤمنين: "وأيم الله لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها"، وذلك بعد قوله في الرجم. ورواه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه في مسنده بزيادة في قول أمير المؤمنين: "فقلت لمالك ما معنى أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجب قال كأنّه يقول أنا داهيتها" والذي قال أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجب هو الحباب بن المنذر، رطن بالحميرية. وذكره عبد الرزاق في مصنّفه بزيادة في قول الحباب بن المنذر: "منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش وإلا أجلبنا الحرب فيما بيننا".
ما يستفاد من الحديث:-
أولاً: إن الله قد حسم مسألة الإمامة وحصرها في إبراهيم وذريّته من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم بآلاف السنين، فالإمامة ليست مجرّد منصب سياسي، بل هي رسالة ثقافية لا يستطيع حملها سوى الشعب الخارق، شعب الله المختار الذين خصّهم سبحانه وتعالى بصفات فريدة وسمات مقدّسة وطبائع سامية لا يملكها غيرهم من البشر. فالخالق جلّ وعلا قد أعدّهم فطرياً ليكونوا مختلفين، وميّزهم بتركيبة جينيّة سامية ومقدّسة تبلورت آثارها في ثقافتهم وأخلاقهم وقيمهم ومثلهم ومبادئهم التي أذهلت العالم بسموّها ورفعتها، وأعجزت غيرهم عن محاكتها ومجاراتها. وبما أن حكمة الله تبارك وتعالى قد اقتضت أن يكون أبناء إبراهيم الخلّص هم خلفاء الله في أرضه، وأمراءه وقادته وأئمته على خلقه، وهم الممثل الوحيد لإرادته وشريعته وعدالته وعقيدته السليمة الصافية، فإن الله تعالى قد حرّم على غيرهم من البشر انتزاع هذا الحق منهم، واغتصابهم عهد الله الذي عهد به إليهم، وشاهد ذلك قول أمير المؤمنين رضي الله عنه: "إني إن شاء الله لقائم العشيّة في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم".
والشواهد من غير هذا الحديث كثيرة جداً أهمها قول الله جلّ وعلا: "وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملّة أبيكم إبراهيم، هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا، ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتو الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير" فالآية صريحة الدلالة على سبب اصطفاء الله واجتبائه لأبناء إبراهيم كي يكونوا شهداء على بقية خلقه، وهو أنه تعالى جعل الدين سجيّة لهم وفطرة، فباتوا لا يجدون في انفسهم شيئاً من الحرج أو الصعوبة في تعاملهم مع دين الله، في تنفيذهم لإرادته وتطبيقهم لشريعته وفهمهم لمقاصده وتناغمهم مع قيمه ومبادئه وأغراضه الروحانية السامية، فدين الله هو ملّة أبيهم إبراهيم التي توارثوها عنه جينيّاً وتناقلوها بيولوجياً، فهي غريزة مزروعة في عمق خلاياهم، وأرومة صنع الله منها أحماضهم النووية فانطبعت شفراتها على أشرطتهم الكروموسومية حتى باتت تنطق بها ألسنتهم وترى أعينهم من خلالها، تسمع بها آذانهم وتتحرك في نطاقها مشاعرهم، يفكّرون بملة إبراهيم وبها يدركون كل ما يحيط بهم من أشياء، يتعاملون على أساسها ويعاملون غيرهم أيضاً، خرجت أخلاقهم تعبّر عنها تعبيراً فطرياً ليس فيه تكلّف أو حرج "هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملّة أبيكم إبراهيم". لذلك شاءت إرادة الله أن تجعل منهم نموذجاً أخلاقياً عملياً، وشاهداً سلوكياً تطبيقياً، بل ورمزاً ثقافياً إلهياً ومقدساً، فلا يستقيم أمر الناس إلا باتّباعهم، ولا يتحقق لأحدٍ شيء من الصلاح والفضيلة ما لم يتّخذ من هذا النموذج قدوة له في جميع تفاصيل حياته. لقد خلقهم الله ليكونوا أئمة وقادة، ليكونوا شهداء على الناس، وأمر بقية خلقه أن يتّبعوا سبيلهم ويقتدوا بقدوتهم ويسيروا على خطاهم ويسترشدوا بنورهم، فهم خلاص هذا العالم ونجاته، هم ملح الأرض وماء الحياة، وبدونهم تضيع القيم وتختلط المفاهيم ولا يعرف الحق من الباطل والصواب من الخطأ والخير من الشر "وتكونوا شهداء على الناس". أما غيرهم فمهما ادّعى من نقاء السريرة والصدق مع النفس، مهما ادّعى من الصلاح والإخلاص والالتزام والاستقامة، ومهما لبس من ثياب النزاهة والشرف والعفّة أو تصنّع من أريحية وحسن خلق أو تمظهر بمظاهر الكرم والنخوة والمروءة والنبل فإن الطبع يغلب التطبّع، وشتّان بين نبل السجيّة وبين التكلّف والتصنّع والمجاهدة والحرج.
قال تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" يؤكّد فخر الدين الرازي على أن الجملة الوحيدة التي لم يقل أحد من المفسّرين بنسخها من هذه الآية هي (وأمر بالعرف). فما جاء من تفصيل الشريعة في المدينة لم يكن سوى تفصيل لهذا العرف، ولكن عن أي عرف تتحدّث الآية الكريمة؟ فعندما نزلت هذه الآية المكية على رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان في جزيرة العرب عدّة أعراف وليس عرفاً واحداً، كان هنالك عرف يهودي وعرف نصراني وعرف حميري وثني وعرف عدناني حنيفي، كانت الجزيرة تعج بالعديد من الأعراق والأديان والثقافات، لكل منهم عرفها، ولكل شعب أخلاقه وسماته وطبائعه وأنظمته الاجتماعية وثوابته الثقافية الخاصة به، فلابد إذا أن الآية كانت تقصد عرفاً بعينه، عرفاً محدداً واضح المعالم وإلا لما استقام معنى الآية، فالأعراف تتعارض وتتناقض، ولا يستطيع النبي صلى الله عليه وسلّم أن يأمر الناس باتّباعها جميعاً في آن معاً، إذاً كانت هذه الآية تشير إلى العرف الشريف، أقدس الأعراف واسماها وأنبلها على الإطلاق، إنه العرف العدناني، عرف أبناء إبراهيم، ملّة إبراهيم.
وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلّم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وهي جدليّة لا تختلف عن سابقتها لكون مفهوم الأخلاق مفهوماً نسبياً، فما يعتبره البعض كرماً وسخاءً يعتبره الآخرون تبذيراً وإسرافاً، وما يعتبر عند هؤلاء شجاعة وإقداماً يعتبره أولئك تهوراً وطيشاً، والذي يسمّى جبناً هنا يطلق عليه حكمة وتعقلاً هناك، بل والأكثر من ذلك أنّ ما يعتبره أبناء عدنان نذالة وخسّة وأنانية وغدراً وخيانة ودناءة خُلُق يعتبره غيرهم فهلوة وشطارة وذكاءً وخُلُقاً تجاريّاً رفيعاً؛ وهكذا. فالمفهوم الذي جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم مصدّقاً له ومقرّاً ومؤيّدا، وجاءت شريعة الله لتتبنّاه وتتمّمه هو المفهوم العدناني للأخلاق، مفهوم أبناء إبراهيم، ملّة إبراهيم.


ثانياً: إن العلاقة واضحة جليّة بين قول الله تعالى: "لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم" وبين قول رسوله صلى الله عليه وسلّم: "لا تطروني كما أُطري عيسى بن مريم، وقولوا عبد الله ورسوله" وبين قول أبي بكر رضي الله تعالى عنه: "ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً" وبين السياق الذي أورد فيه أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه تلك الأقوال مستشهداً بها على عدالة قضيّة المهاجرين وشرعية خلافة أبي بكر وصواب موقفه رضي الله عنه في أحداث سقيفة بني ساعدة.
فعندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم عقد الأنصار من فورهم في سقيفة بني ساعدة اجتماعاً حميرياً خاصاً لم يُدع إليه أحدٌ من ولد عدنان، كانوا يعدّون لأمر عظيم، أمر خارج عن المألوف والعادة، ولعلمهم أن ما يعدّون له لم يكن ليرضي الله ورسوله والمؤمنين، ولعلمهم أن أحداً من المسلمين لن يوافقهم على فعلتهم تلك بل ولن يتركهم المهاجرون ليمضوا في تنفيذ ما تمالؤوا عليه وتآمروا، لذلك استغلّوا انشغال المسلمين بوفاة النبي صلى الله عليه وسلّم، وانتهزوا فرصة تجمّع المهاجرين في مسجد رسول الله يبكون عليه ويولولون، بل إن هول الفاجعة أفقد المسلمين تماماً قدرتهم على التفكير حتى أصيب بعضهم بانهيار عصبي، حتى عمر بن الخطاب ذلك البطل الشديد الصلب ذو الأعصاب الحديدية انتابته حالة من الذهان العصبي في تلك اللحظة فأخرج سيفه وهدد بقتل كل من يقول بأن محمداً قد مات، ولم يهدّئ من روعه سوى الصدّيق رضي الله عنه بعد أن تلا عليه قول المولى عزّ وجلّ (إنك ميّت وإنهم ميتون(.
استغلّ الأنصار تلك الأجواء المأساوية المكفهرّة وقرروا المضي في تنفيذ أمر كانوا قد تمالؤوا عليه منذ زمن، وكانوا يتحينون الوقت المناسب فلم يجدوا أنسب من تلك اللحظة التي تجمّع فيها المهاجرون عن بكرة أبيهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم والكآبة تخيّم عليهم وحزن الدنيا يغمر نفوسهم بوفاة نبيهم، في ظلّ تلك الأجواء تسلل الأنصار خلسة إلى خارج المسجد وانطلقوا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة التي كانت تبعد عن المسجد بضع مئات من الأمتار، وهي مسافة كانت كافية في تلك الأيام أن تأخذهم بعيداً عن الأنظار كي يخططوا لانقلابهم السياسي والديني دون أن يلاحظهم أحد. كانوا يعلمون جيداً أن النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه لم يكونوا ليعقدوا لواءً أو يبرموا أمراً أو يتداولوا قضية مهمة أو يمضوا في بيعة أو يقرّوا عهداً خارج المسجد، كانوا يعلمون أن المسلمين لن يغادروا مكانهم في مسجد رسول الله وجثته ممدة في وسطهم قبل أن يقوموا بإكرامها ودفنها ومن ثمّ التشاور فيما يمكنهم فعله، كانوا يعلمون أنه من المسلّم به والمعروف والمألوف الذي لم يكن ليختلف عليه أحد من المسلمين هو أن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم في إمامة الناس رجل صريح النسب العدناني، رجل من حملة العهد الإبراهيمي، رجل يجتمع فيه شرف النسب وشرف الصحبة، ولم يكن في ذلك الوقت من تنطبق عليه هذه الشروط أفضل من أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وأرضاه، بل يبدو أنها كانت قضيّة مفروغًا من أمرها ومسلّمًا بها ومجمعًا عليها من قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو ما أشارت إليه إمامة أبي بكر للناس في الصلاة والنبي صلى الله عليه مسلّم كان لا يزال حياً بين ظهرانيهم، كانت حمير تدرك هذه الحقيقة جيداً لذلك لم يعقدوا اجتماعهم في النور، بل تسللوا بعيداً عن الأنظار كما يتسلل اللصوص لأنهم يعلمون أن ما يقومون به هو عمل لصوصي بالدرجة الأولى، عمل يهدف لسرقة العهد الإلهي الإبراهيمي من أصحابه، عمل يهدف لاغتصاب الأمر من بني عدنان، من أصحابه الشرعيين. كان الأنصار يعلمون أن المسلمين من هول فجيعتهم في نبيّهم لن يلاحظوا اختفاءهم من المشهد، ولكن الله أراد أن يحفظ دينه ويمضي أمره ولو كره الكارهون.
شعر المسلمون بأن شيئاً غريباً يحدث في الأجواء، خصوصاً بعد أن انسحب بنو هاشم أيضا من المسجد واعتزلوا جماعة المسلمين، شمّ المهاجرون رائحة مؤامرة خطيرة، فلم يبق في مسجد رسول الله سوى صريح القرشيين، أي الفئة العدنانية الوحيدة من مسلمي المدينة، هنا أدرك العدنانيون بفراستهم أن عليهم تحمّل مسئوليّتهم الإلهية والقيام بتحرّك فوري ينقذون به دولة الإسلام الناشئة من الضياع، فاجتمعوا وبايعوا أبا بكر بالخلافة، ودعوا إلى ذلك عليّاً والزبير ومن معهما من بني هاشم فرفضوا، عندها قرروا الخروج للبحث عن الأنصار دون أن يعلموا بما تمالأت عليه حمير من وراء ظهور المسلمين، ولكن رحمة الله تعالى شاءت أن تفضح حمير وذلك عندما اعتزل رجلان صالحان من الأنصار اجتماع السقيفة بعد أن أبت عليهما ضمائرهما أن يلطخا أيديهم بالدماء العدنانية النبيلة الطاهرة، فخرجوا من السقيفة وهمّوا عائدين أدراجهم حتى لقيهم المهاجرون في الطريق وعلموا منهم تفاصيل الأمر. يقول أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه وأرضاه: "وإنّه قد كان من خبرنا حين توفّى الله نبيّه صلى الله عليه وسلّم أنّ الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنّا عليٌّ والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار. فانطلقنا نريدهم، فلمّا دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا أين تريدون يا معشر المهاجرين، فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم ألاّ تقربوهم؛ إقضوا أمركم"
اتّضحت خيوط المؤامرة وظهر سبب اعتزال علي والزبير ومن معهما من بني هاشم دون بيعة أبي بكر، إنه ثمة حزب هاشمي حميري بدأت ملامحه لتوّها تظهر في الأفق، حزب يهدف إلى انتزاع الإمامة من بني عدنان، وهو أمر لم يرض عنه الله سبحانه وتعالى ولم يسمح بحدوثه، فهو سبحانه الذي تعهّد بحفظ دينه وشريعته وذكره من الضياع (إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون)، ولن يتم هذا الحفظ ولن يكون إلا من خلال مرجعية أبناء إبراهيم (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا، ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس). أي ليكون الرسول شهيداً عليكم ما دام فيكم، أما بعد وفاته فأنتم الشهداء على الناس.
تحججت حمير في بداية الأمر بنصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلّم وإيوائهم للمسلمين، تحججوا بأعمالهم الصالحة التي كان من المفترض أن يبتغوا بها وجه الله، لا يطلبون عليها أجراً من الناس، ولكنّهم سرعان ما أعربوا عمّا كانوا يكنّونه وراء تلك الحجج من نوايا حقيقية، ففضحهم قائلهم بقوله: "أما بعد؛ فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفّت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر". فالقوم كانوا يريدون استغلال كثرتهم العددية، بل كانوا يهددون المهاجرين صراحة بتلك الكثرة، وهو ما كشف عنه الحباب بن المنذر عندما رطن لهم بالحميرية قائلاً: "أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجب، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش وإلا أجلبنا الحرب فيما بيننا"، فالمهاجرون رهط قليل في وسط كتيبة ضخمة من حمير، والمدينة ارض حميرية جغرافياً وديموغرافياً، وتنصيب رجلٍ عدناني ملكاً عليها هو بمثابة اختزالها من أصلها في نظر الأنصار.
هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى لم يكن بنو هاشم ليتركوا هذه الفرصة تمرّ مرور الكرام، فهم لم يكونوا أقلّ حرصاً من حمير على انتزاع العهد من بني عدنان والانقلاب على شرعية أبناء إبراهيم في إمامة الناس وقيادة البشرية، خاصّةً أن بني هاشم لم يكونوا عدنانيين بقدر كونهم حميريين، كان انتماؤهم العرقي والثقافي إلى بني النجّار من الخزرج أكثر وضوحاً وأشدّ تأكيداً من انتمائهم القرشي. فقريش لم تعترف قطّ بأن بني هاشم هم ابناء هاشم بن عبد مناف القرشي، بل كانت تعتبرهم أبناء شيبة عبد المطّلب، أي عبيد للمطّلب بن عبد مناف القرشي أخو هاشم، فهاشم لم يكن ينجب الأبناء، ولم يعرف القرشيون أنه كان له ابن قط حتى توفي، وبعد وفاته بمدّة طويلة جاءهم أخوه المطّلب قادماً من إحدى رحلاته التجارية وهو يحمل إليهم غلاماً يدّعي أنه ابن أخيه هاشم، أنجبته له فتاة حميرية كان قد تزوّجها هاشم في يثرب أثناء توقّفه بها في إحدى رحلاته التجارية، ثم تركها عائداً إلى مكّة دون أن يعلم بحملها، ثم توفّي هاشم دون أن يعلم شيئاً عن ابنه المفترض، ثم بعد أربعة عشر عاماً توقّف المطلب أخو هاشم بيثرب أثناء عودته من الشام ليلتقي صدفة بالفتاة ومعها الغلام، فأخبرته الخبر وادّعت أنّ الغلام هو ابن أخيه، فحمله المطّلب معه إلى مكّة وعندما رأته قريش قادما ومعه الغلام ظنّوا أنه عبد قد ابتاعه في رحلته، فأسموه عبد المطّلب، وأسماه المطّلب شيبة، ولكن قريشاً لم تصدّق هذه القصة وظلّوا ينادونه بعبد المطّلب طيلة حياته، ولم يكونوا يعترفون بانتمائه أو انتماء أحد من أبنائه لقريش بالرغم من أن أبناءه كانوا يصرّون على تسمية أنفسهم ببني هاشم وليس بني عبد المطّلب وذلك كي يثبتوا لأنفسهم النسب الهاشمي.
تركت هذه القصّة في نفوس الهاشميين كسرة أبديّة ما فتئت تزكي فيهم الشعور بالنقص والدونيّة وقلّة الأصل، وكانت تلك الكسرة تدفعهم على الدوام لمحاولة استجلاب نوع من المجد والشرف يتفاخرون به على قريش ويجبرونها على الاعتراف بهم أبناء شرعيين لهاشم بن عبد مناف، ونذكر على سبيل المثال ذلك النذر الذي نذره عبد المطّلب بأن يذبح احد أبنائه شكراً للآلهة إن هي وهبته عشرة من الأبناء الذكور، وما ذاك إلا لأنه أراد بكثرة الأبناء أن يكوّن عشيرة كبيرة تفرض نفسها على قريش من خلال كثرتها العددية، كان يهدف إلى تعويض دنو نسبه بكثرة أبنائه، فتضطر قريش للاعتراف بهم حيث تنفعها كثرتهم في حروبها وتتقوّى بهم على أعدائها وتضيف بهم إلى مهابتها العرقية بين العرب مهابة عددية، ولكن خطّة عبد المطّلب لم تبلغ غايتها، فبقيت قريش على احتقارها لبني هاشم حتى شاءت حكمة الله أن يخرج منهم النبي صلى الله عليه وسلّم، وهنا لعبت وضاعة نسب بني هاشم دوراً عظيماً في تكذيب قريش للنبي صلى الله عليه وسلّم ورفضهم الدخول في الإسلام، وهي حقيقة وضّحتها سورة الزخرف في الاية الحادية والثلاثين حيث قال تعالى: (وقالوا لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم).
لقد كان لهذا الشعور المشترك بوضاعة الأصل لدى كل من الهاشميين والحميريّين دوره العظيم في اعتناقهم الإسلام، فالله سبحانه وتعالى من شدّة رحمته بخلقه يراعي مشاعرهم ويأتيهم من الباب الذي يوافق نفسيّاتهم وميولهم، وقد تجلّت رأفته في هذا الباب بوضوح من خلال الاستراتيجية التي انتهجها سبحانه في تحريم الخمر تحريماً تدريجيّاً تمّ على مراحل عدّة وعلى فترات متباعدة كي لا يكون وقعه قاسياً على النفوس وعنيفاً على مدمنيه، وقس على ذلك الكثير من الأحكام التي تتعلّق بتحريم العادات القبيحة التي كانت سائدة بين الحميريين في المدينة كالدياثة والدعارة (ولا تكرهوا فتياتكم على اليغاء إن أردن تحصّناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم)، يقول بن كثير في تفسيره لهذه الآية: قال عبد الرزّاق: أخبرنا معمّر عن الزهري أن رجلاً من قريش أُسر يوم بدر، وكان عند عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي الحميري أسيراً، وكانت لعبد الله بن أبي جارية يقال لها معاذة، وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة، وكانت تمتنع منه لإسلامها، وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل من القرشي فيطلب فداء ولده، فقال تبارك وتعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّناً). وقال السدي: أنزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى معاذة، وكان إذا نزل به ضيف أرسلها ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له، فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه ذلك، فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلّم فأمره بقبضها، فصاح عبد الله بن أبي الخزرجي الحميري: من يعذرني من محمد يغلبنا على مملوكتنا. فأنزل الله فيهم هذا. وقال مقاتل بن حيّان: بلغني والله أعلم أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا يُكرهان أمتين لهما، إحداهما اسمها مسيكة وكانت للأنصار، وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبي، وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة، فأتت مسيكة وأمها إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فذكرتا ذلك له، فأنزل الله في ذلك (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) يعني الزنى.
فمن حكمته جل وعلا تلك الاستراتيجيتان العظيمتان اللتان كانت تعاليمه تنهج من خلالهما نهجاً تربوياً تدريجيّاً في تعليم الأنصار شريعة الله وتهذيب سلوكهم وترويض طباعهم بأسلوب سلس وانسيابي، فلا يشق عليهم ولا يقسو على مشاعرهم، بل يجذبهم إليه جذباً جميلاً ويحببهم في دينه وملّته فيتقبّلونها دون مقاومة أو عناد: استراتيجية النسخ واستراتيجية أسباب النزول. ومن ذلك ما كان في سبب نزول الحجاب حيث روى كل من مسلم والنسائي والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببعض نسائه فصنعت أم سليم حيساً ثم جعلته في تور فقالت اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأقرئه مني السلام واخبره أن هذا منّا له قليل، قال أنس: والناس يومئذ في جهد، فجئت به فقلت يا رسول الله بعثت بهذا أم سليم إليك وهي تقرئك السلام وتقول: أخبره أن هذا منا له قليل، فنظر إليه ثم قال: ضعه، فوضعته في ناحية من البيت، ثم قال اذهب فادع لي فلاناً وفلانا، فسمّى رجالاً كثيراً، وقال: ومن لقيت من المسلمين، فدعوت من قال لي ومن لقيت من المسلمين، فجئت والبيت والصفّة والحجرة ملأى من الناس، فقلت يا أبا عثمان كما كانوا؟ فقال كانوا زهاء ثلاث مئة. قال أنس: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: جىء به، فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا وقال ما شاء الله، ثم قال: ليتحلّق عشرة عشرة، وليسمّوا وليأكل كل إنسان مما يليه. فجعلوا يسمّون ويأكلون حتى أكلوا كلّهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ارفعه، قال فجئت فأخذت التور فنظرت فيه، فما أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين أخذت.
قال أنس: وتخلّف رجالٌ يتحدّثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلّم التي دخل بها معهم مولّية وجهها إلى الحائط، فأطالوا الحديث فشقّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكان أشدّ الناس حياءً، ولو أعلموا كان ذلك عليهم عزيزاً. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسلّم على حجره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء ظنّوا أنّهم قد ثقّلوا عليه، فابتدروا الباب فخرجوا. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أرخى الستر ودخل البيت وأنا في الحجرة، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم في بيته يسيراً وأنزل عليه القرآن، فخرج وهو يتلو هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا، فإذا طعمتم فانتشروا، ولا مستأنسين لحديث. إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم، والله لا يستحي من الحق. وإذا سألتموهنّ متاعاً فسألوهن من وراء حجاب، ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ. وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا، إن ذلكم كان عند الله عظيماً(.
في مكّة لم يفصّل النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه شريعة أو يضع لهم تعاليماً سلوكية كتلك التي وضعها للأنصار في المدينة، على الرغم أن أتباعه في مكّة كانوا يتجاوزون المئة، أي أنه كان يقود حزباً كبيراً نسبياً بالقياس مع عدد سكان مكة في ذلك الوقت، وكان هذا الحزب بطبيعة الحال يحتاج إلى تنظيم وتوجيه سلوكي يضبط تصرّفات أفراده بما يتناسب مع حجم الرسالة التي يحملونها، إلا أننا لا نجد في القرآن المكّي نصّاً يتحدّث عن الحلال والحرام على غرار القرآن المدني، ولم نجد في تعاليم النبي وأحاديثه المكّية أيضاً مثل ذلك، بل اكتفى الله سبحانه وتعالى بتوجيه نبيّه في مكّة بأن يأمر بالعرف، وهو كما أوضحناه سابقاً العرف العدناني، لماذا؟
بالرغم من كفر قريش وانحرافهم عن الملّة الإبراهيمية الحنيفية إلا أنهم كانوا عدنانيين في الأصل، كانوا يعرفون جيداً الفرق بين الصواب والخطأ والخير والشرّ والحق والباطل، بالرغم من عدم التزامهم السلوكي بالثقافة العدنانية إلا أنهم كانوا يعرفون تلك الثقافة جيّداً ويحيطون بجميع مفرداتها علماً. فكان يكفي أن يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلّم باتّباع العرف العدناني، يأمرهم بمعروفه الذي يعرفونه بالرغم من تركهم له، وينهاهم عن منكره الذي ينكرونه بالرغم من إتيانهم إيّاه، أما في المدينة فلم يكن العرف العدناني معروفاً لدى الحميريين، فهم شعب مختلف تماماً، عرقيّة مختلفة لا علاقة لها بعدنان وإبراهيم، ولا تفقه في الملّة الحنيفيّة شيئاً، فكان لزاماً على النبي صلى الله عليه وسلّم أن يفصّل لهم ذلك العرف تفصيلاً دقيقاً، بل ويستخدم معهم الشارع تبارك وتعالى أسلوب الدلال والترغيب واللين والتدرّج البطيء لعلمه جل وعلا بنفرتهم النفسية الفطرية من ملّة إبراهيم، فهي لا تناسبهم ولا تتّفق مع تركيبتهم الجينيّة والثقافية. وكان أسلوب النسخ وأسلوب أسباب النزول يخفف قليلاً من وطأة تلك النفرة الفطريّة بينهم وبين العرف العدناني، أما الأسلوب الأكثر جذباً لهم إلى تلك الملّة فهو أسلوب المصلحة، تلك المصلحة التي كانت الدافع الأكبر لدخولهم في الإسلام من الأساس.
وجد كل من حمير وبني عبد المطّلب أن اعتناقهم للإسلام من شأنه أن يحقق لهم من المصالح الماديّة والاعتباريّة ما يفوق الوصف، فخروج النبي صلى الله عليه وسلّم من بني هاشم دفعهم إلى محاولة تصوير الإسلام على أنّه ملّة هاشمية، وبذلك يحصلون على مجد عظيم يتفاخرون به على بني عدنان وينفضون غبار الدونية وأوحال وضاعة النسب التي لم تبرح كواهلهم في السابق، فلم يكن العدنانيون ينظرون إلى بني هاشم إلا على أنهم عشيرة حميريّة تنكّرت إلى أصلها الوضيع وحاولت فرض نفسها بالقوة على بني عدنان بادّعائها النسب العدناني، وكان رفض قريش للهاشميين مدعاة لعودة الهاشميين إلى أحضان أخوالهم بني النجّار الحميريين، هنا نجد كيف اتّفقت المصلحة الحميرية الهاشمية المشتركة على انتزاع الإسلام من أصله العدناني ومن ثم نسبته إلى حمير، وهي الجريمة التي لم يكن الله ليسمح بها سابقاً ولن يسمح بها ما دام الليل والنهار.
وبما آتاه الله من جوامع الكلم لخّص لهم الصدّيق رضوان الله عليه تلك الحقيقة في جملة واحدة: "ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً". ولكن عقولهم ونفوسهم لم ترتقِ يوماً لفهم هذا النوع من العبارات الموجزة، لذلك كان أمير المؤمنين عليه رضوان الله تعالى أكثر جرأة في الطرح وتفصيلاً في القول وشجاعة في مواجهتهم عندما وجد الأمر قد تعدّى حدوده وبدأوا في أواخر ايّام عمر في إعادة تكوين ذلك الحزب الهاشمي الحميري الذي كان العدنانيون قد تمكّنوا من وأده في المهد وإتمام القضاء عليه في سقيفة بني ساعدة منذ عقود.
عندما روى بن عبّاس هذا الحديث لم يفصح رضي الله عنه عن بعض الأسماء التي كان ينبغي الإفصاح عنها مراعاة للأمانة العلمية، فدقّة النقل كانت تلزمه أن يخبرنا باسم الشخص الذي قال: "لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً"، وكذلك اسم هذا الفلان أيضاً. ولكن سياق النص كان واضحاً في الكشف عن الهوية الانتمائية لهذين الفلانين. فلننظر إلى كل من قول الله تعالى: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "لا تطروني كما أُطري عيسى بن مريم، وقولوا عبد الله ورسوله" واللذين أوردهما أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه ملتصقين ببعضهما مدللاً بذلك على أنهما يشيران إلى نفس المعنى ويصبّان في نفس الغاية، وهي أنّ الإسلام ليس ملّة محمديّة بل ملّة إبراهيميّة، وأن هذا اللفظ "المسلمين" أطلقه بداية حبيب الله وخليله إبراهيم عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم على أبنائه وخالص ذريّته الذين خصّهم الله دون غيرهم من البشر بعهده ووعده أن يجعلهم أئمة للناس وقادة وشهداء، وأن يجعلهم السدنة الوحيدين لهذه الملّة كي يتمكّنوا من الإشراف على تطبيقها والدعوة إليها وتبليغها للناس في صورتها الأصليّة الفطريّة الحنيفيّة الأولى، ومن ثم العمل على صيانتها وحفظها من التحريف والتشويه والتزوير ما دام الليل والنهار، فهم وحدهم القادرون على هذه المهمّة لما خصّهم الله به من تركيبة جينيّة وثقافيّة فريدة ورثوها عن أبيهم إبراهيم خليل الله، وحافظوا عليها وصانوها من الفساد والتحلل عبر أجيالهم المتتابعة إلى يومنا هذا، وهربوا بها من وجه كل حضارة ومدنية من شأنها أن تصيب جدار أرومتهم المقدّسة بشرخ أو عطب، واختبئوا معها داخل صحرائهم القاحلة كي تبقى بعيدة عن كل يدٍ عابثة، وصبروا على جفاف الصحراء وقيظها وصقيعها وجوعها وعطشها وأهوالها ولم يستبدلوا بتلك الصحراء أموال الدنيا وكنوزها، لأنهم كانوا يعلمون علماً فطريّاً بأن الكنز الثقافي الذي يملكونه لا يقدّر بثمن، كانوا يعلمون علماً فطريّاً أنهم يحملون في جيناتهم رسالة إلهية مقدسّة يجب أن تبقى مختبئة في تلك الصحراء إلى أجل، حتى إذا جاء وعد الله في آخر الزمان خرجوا يحملون تلك الرسالة في يدٍ وعهد الله الذي عهد به إليهم بأن ينصرهم ويؤيّدهم ويسوّدهم على جميع خلقه أئمة شهداء وقادة خلفاء في اليد الأخرى، ولم يستثن سبحانه من هذا الوعد إلا الظالمين منهم أي المشركين، قال تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمّهن، قال إنّي جاعلك للناس إماماً، قال ومن ذرّيتي قال لا ينال عهدي الظالمين) والظلم هنا هو نفسه الظلم في قوله تعالى: (والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون). وقال تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملّة أبيكم إبراهيم، هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا، ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتو الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير)، وقال تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبّل منّا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيتنا أمّة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم). فإبراهيم هو أوّل مسلم في التاريخ، وذرّيته هم أول من تم تسميتهم بالمسلمين، وكلّ نبي أو رسول جاء بعد إبراهيم لم يكن سوى مصلحاً ومبشّراً وداعية إلى ملّة إبراهيم، ملّة الإسلام، ملّة الحنيفيّة. فموسى لم يأت بدين سوى الإسلام، وعيسى لم يأت بدين سوى الإسلام، ومحمد لم يأت بدين سوى الإسلام، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلّم: "لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم، وقولوا عبد الله ورسوله"، وإطراء الرجل هو مدحه بما ليس فيه، وهو ما فعله قوم عيسى عندما وصفوه بابن الله، ثم قالوا إن الله هو المسيح بن مريم، عند ذلك لم يعتبروا المسيح مجرّد مبشّر بملّة إبراهيم، بل اعتبروا الدين الذي جاء به المسيح ديناً خاصّاً به، فغيّروا اسم الملّة من "ملّة إبراهيم" إلى "ملّة المسيح" وبذلك أطلقوا على دين المسيح "المسيحيّة" نسبة إلى شخص المسيح، وبذلك رغبوا عن الأب الحقيقي لهذه الملّة وهو إبراهيم الذي سمّاها بملّة الإسلام أو ملّة الحنيفيّة من قبل أن يولد المسيح نفسه، وكذلك عندما أراد اليهود انتزاع هذه الملّة من جذورها واختزالها من أصلها بغرض تحريفها وتشويهها بما يتّفق مع رغباتهم وطموحاتهم العرقيّة والسياسيّة نسبوها إلى أكبر ابناء يعقوب وهو "يهوذا" فأسموها باليهوديّة. قال تعالى: (ما كان إبراهيم يهوديّاً ولا نصرانيّاً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين.(
لقد أوحى الله تبارك وتعالى إلى نبيّه بهذه الكلمات: "لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم وقولوا عبد الله ورسوله"، فالله سبحانه علاّم الغيوب، قد وقر في علمه الأزلي ما سيقوم به كلّ من الشيعة والصوفيّة في المستقبل، فقد كان الحزب الحميري الهاشمي يطمح لتغيير اسم الإسلام من "الملّة الحنيفيّة" إلى "الملّة المحمّدية" وهم بذلك يرمون لفصله عن أصله الإبراهيمي، وبالتالي انتزاعه من أيدي أبناء إبراهيم الخُلّص، وفصله ثقافياً عن العرف العدناني الطاهر بإزاحة بني عدنان عن سدانة دين الله، وتنحيتهم عن منصب الشهادة والإشراف على تطبيقه وحفظه وصيانته، ومن ثمّ تزوير وتحريف عهد الله الذي عهد به إلى ذرّية إبراهيم بإمامة الناس وقيادتهم ثقافياً وفكرياً وسلوكياً إمامة أزليّة أبديّة لا ينال منها تقادم عهد أو تغيّر حال، تزوير هذا العهد لصرفه عن مصرفه الشرعي ووضعه في يد بني هاشم الذين قدّمهم الحميريون للناس على أنهم آل بيت محمد صلى الله عليه وسلّم، وبالتالي فهم أولى بحمل هذا العهد من آل بيت إبراهيم، لأن الملّة لم يعد اسمها "ملّة إبراهيم" بل بات اسمها "ملّة محمد". ولكن ذلك الحزب فشل فشلاً ذريعاً في تنفيذ مخططه الإجرامي في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم وفي عهد خلفائه الراشدين، لذلك نجدهم حتى اليوم لا يحقدون على أحدٍ حقدهم على الخلفاء الراشدين، حتى أنهم جعلوه شرطاً بل ركناً من أركان دينهم أن يسبّوا أصحاب رسول الله ويكفّروهم، حتى اليوم تجدهم لا يقبلون أحداً في ملّتهم ما لم يشهد بأن أبا بكر وعمر كفّارٌ طواغيت قبل أن يشهد بأن لا إله إلا الله، صحيح أنّهم اعتقدوا بعد وفاة عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه بأن الأجواء قد خلت لهم وبأنه أصبح في وسعهم العبث بهذه الملّة كيفما أرادوا، ولكن الله تعالى أبى أن يخرج هذا الأمر من صريح ذريّة إبراهيم، فالله تعالى قد تكفّل بحفظ دينه وشريعته من عبث العابثين وتحريف المتمصلحين وذلك من خلال حفظه سبحانه لسلالة إبراهيم وصريح ذريّته المؤمنين الموحدين، فقد حفظهم الله تعالى من الاختلاط بغيرهم جينيّاً وثقافيّاً اختلاطاً تضيع معه ثقافتهم وتتلاشى معالمها، سخّر لهم تلك الصحراء المباركة، صحراء نجد التي جعلها الله حصناً منيعاً يلوذون إليه كلما تكالبت عليهم الأمم وتآمر عليهم الطامعون، فبقيت على مرّ الدهور والعصور مخبأً آمناً يختبئون فيه بثقافتهم وأرومتهم من كلّ خطر فكري وسياسي واجتماعي واقتصادي وعسكري وثقافي بوجه عام، حتى ظلّوا محتفظين بتلك الأرومة خالصة طاهرة نقيّة لا يمسّها دنس أو رجس أو مسخ أو تحريف بالرغم من جميع المتغيّرات التي اجتاحت المنطقة على مرّ الأزمان. كانوا يخرجون منها بين الحينة والحينة يدعون إلى الله ويبلّغون رسالة أبيهم إبراهيم إلى من حولهم من الأعراب، حتى إذا وجدوا الدائرة بدأت تنقلب ضدّهم وتكالب عليهم الأعداء من كل صوب عادوا مسرعين إلى صحرائهم المنيعة يتحصنون برمالها وكثبانها وهضابها ومسالكها الوعرة التي حماها الله تعالى لهم حماية إعجازيّة فلم تعبث بها يدٌ غريبة إلا قطعها، ولم تطأها قدمٌ نجسة إلا بترها. ظلّوا كذلك محتفظين بتراثهم الحنيفي النبيل حتى جاء وعد الله ليخرجوا في آخر الزمان يقودهم ذلك البطل المقدّس الإمام محمد بن سعود الحنيفي الربيعي العدناني عليه وعلى جدّه خليل الله وحبيبه إبراهيم افضل الصلاة وأتم التسليم، خرجوا تحفّهم الملائكة وتتبعهم جنود الله التي لم يرها أعداؤهم، خرجوا يرفعون راية التوحيد بعد أن شارفت كلمة التوحيد على الانقراض، فملئوا الدنيا توحيداً وحقّاً وعدلاً بعد أن مُلئت كفراً وشركاً وبدعاً وفساداً وجوراً.
لنا أن نتخيل لو أن هذه السلالة انقرضت وتلاشت كما حصل لغيرها في حقبة الفتوحات الإسلامية، لنا أن نتخيّل لو أنّ بني عدنان اختلطوا وتزاوجوا باليمنيين والأقباط والبرابرة والفرس والروم والهنود والسنود والشعوب الصينية والقوقازية وغيرها من الأعراق والثقافات التي دخلت الإسلام عنوة ثم هيمنت وطغت على ثقافته العدنانية الأصيلة، لنا أن نتخيّل تلك الثقافات الوثنية وقد ابتلعت الثقافة العدنانية فيما ابتلعت، فضاعت فيها الثقافة العدنانية وذابت أصولها وتلوّثت أرومتها وتلاشت معالمها فلم يبق منها اليوم باقٍ، لنا أن نتخيّل بني عدنان وقد تنازلوا عن بعض مبادئهم وخرجوا من صحرائهم طلباً لرغد العيش وغرّتهم الحياة الدنيا فقبلوا كلّ دخيل يتسلل إليهم وينفث فيهم من سمومه قطرة أو قطرتين، لنا أن نتخيّلهم وقد فتحوا أبواب صحرائهم مرتعاً لكل من هبّ ودبّ يحمل إليهم فيها شيئاً من ملوّثات حضارته ودناسة مدنيّته وثرواته التي تتقطّر منها ثقافة العبيد، ثقافة الصنّاع والزرّاع والتجّار بما فيها من كذب ونفاق وغش وخداع وسرقة ونهب واختلاس وتزوير وأخلاق تجاريّة خسيسة ترتكز على دناءة الخلق وخسّة الطبع ونذالة العبيد. لنا أن نتخيّلهم وقد قبلوا بالأمر الواقع فلم يثوروا على ظلم بني اميّة ولم يخرجوا على كفر بني العبّاس، لنا أن نتخيّل الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عليه رضوان الله تعالى وصلواته وقد أرهقه السجن وأضعفت قواه صنوف التعذيب والتنكيل فنطق بكلمة الكفر إرضاءً لطاغية بني العباس، لنا أن نتخيّله وقد تنازل عن أرومته الحنيفية العدنانية الطاهرة التي سطّرها للتاريخ فقهاً مقدّساً ينبع من عمق العرف العدناني الطاهر، وكيف بنا لو أن أبطال بني شيبان صلى الله تعالى عليهم وسلّم وبارك لم يخرجوا على أبناء الإماء من خلفاء الدولة العبّاسية الذين اعتنقوا مذهب الاعتزال وقرّبوا علماء الكلام ووضعوا في أيديهم مقاليد البلاد والعباد فكانوا يقتلون كل موحّد يرفع راية التوحيد العدناني الخالص بحجّة الأسماء والصفات. ماذا لو لم يبق بنو ربيعة على إصرارهم بحفظ عهد الله الذي عهد به إليهم والتمسّك بملّة ابيهم إبراهيم والنأي بها عن كل مظنّة للفساد والتحلل، ماذا لو لم يرفضوا الاندماج في أي من تلك الأنظمة السياسية التي كانت تهدف للنيل من ملّة إبراهيم وتدميرها، ما ذا لو لم يثوروا ويخرجوا على كل حاكم وملك وخليفة وامبراطور حاول تشويه تلك الملّة وتحريفها؟ لنا أن نتخيّل بنو ربيعة عليهم صلواة الله وسلامه وبركاته وقد سلكوا مسلك ابناء عمومتهم من مضر فضاعوا وتلا شوا وانقرضوا وتحللوا وذابت ثقافتهم وتميّعت داخل كل مصر وبين كل أمّة فلم يبق لهم اليوم باقٍ، لو حصل ذلك لا قدّر الله لكنّا اليوم نعبد علياً والحسين وبقيّة سلالة بني هاشم من دون الله، لكنّا اليوم نرفع أيدينا إلى السماء أمام أستار الكعبة ونقول: "يا حسن يا حسين يا علي أرحمونا برحمتكم التي وسعت كلّ شيء، وادخلونا الجنّة مع الأبرار، فإنّه لا إله إلا أنتم لكم الملك ولكم الحمد، إنّكم على كل شيء قديرين"، أو كنّا اليوم نعبد المسيح محمداً له المجد وفاطمة العذراء من دون الله ونسجد أمام قبر كلّ علج لقيط من حمير ادّعى النسب الهاشمي وسمّى نفسه بالشريف أو السيّد كالسيّد البدوي ومحمد علوي مالكي والسيّد العطّاس والعمودي والسقّاف والجفري وبن محفوظ وبن لادن وغيرهم من اللقطاء أبناء الإماء والخادمات وفروخ الجاوه.
لقد أجرى علاّم الغيوب سبحانه على لسان نبيّه ذلك التحذير شديد اللهجة ليطلعنا على مقدار الكارثة التي كان بإمكانها أن تحدث لو تمكّن الحزب الحميري الهاشمي من إسقاط نموذج عيسى بن مريم على محمد صلى الله عليه وسلّم، (لا تطروني كما أُطري عيسى بن مريم) لا ترفعوني فوق منزلتي الحقيقيّة، لا تمدحوني بما لا أستحق ولا تمنحوني شرفاً لم يمنحني إياه الله، فأنا لست مؤسساً لهذه الملّة، ما أنا سوى عبد من عبيد الله أرسله الله تعالى مصلحاً واعظاً وداعية إلى ملّة إبراهيم، داعية إلى الالتزام بعهد الله الذي أبرمه مع إبراهيم وذرّيته، داعية إلى الحنيفيّة الأولى، إلى ثقافة أبناء عدنان، ما جئتكم بملّة جديدة أو تشريع جديد أو نظام سلوكي وأخلاقي جديد، إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق العدنانية الشريفة، ما جئتكم إلا لآمر بالعرف العدناني الشريف، عرف المسلمين وأخلاق المسلمين الذين سمّاهم والدهم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم بهذا الاسم (هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا). ليس هنالك ملّة محمدية، ولا يوجد دين اسمه الدين المحمدي، وليس هنالك ذريّة لمحمد يحق لها حصريّاً أن تحمل رسالته من بعده، ليس هنالك ذرّية لمحمد عقد الله معها عهداً بإمامة الناس من بعده، فعهد ذرّية إبراهيم ما زال وسيبقى ساري المفعول إلى أبد الدهر (ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين(
"لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم"، "لا تتخذوا قبري عيداً"، "لا تتخذوا قبري وثناً يعبد من دون الله"، فأنا لست مقدّساً إلى هذا الحد، أنا لست وثناً يعبد من دون الله، أنا بريء من أولئك الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد في السابق، ومن أولئك الذين سيتّخذون قبور أنبيائهم مساجد في المستقبل، أنا لست واسطة بين الناس وبين الله، لا يحق لأحد أن يعبدني ليتقرّب إلى الله زلفى، فأنا لا املك حقّ الشفاعة لأحد أبداً، أنا لست وسيلة بين الناس وبين الله، وحتى أولئك الذين يطلبون مني الشفاعة يوم القيامة لا أملك لهم من الله شيئاً، فأنا لا أدري ما أحدثوا من بعدي.
(لاتطروني كما أطري عيسى بن مريم) فأنا لا أستطيع أن أحضر موالدكم كما تزعمون، أنا ميّت عند ربي (إنك ميت وإنهم ميتون) أنا لست إلهاً قام من بين الأموات، أنا لا أسمع دعاءكم ونحيبكم عند قبري، ومن باب أولى فإنّي لا أستطيع إيصال هذا الدعاء إلى الله فضلاً عن التشفّع لكم عنده، فشفاعتي لا تحصل إلا في الآخرة، وهي محدودة جداً، هي أقلّ شأناً بكثير مما تتخيلون، وإذا كنت أنا كذلك فكيف بزوج ابنتي، كيف بعشيرتي من بني هاشم أنصاف اليمنيين، بل وكيف بابنتي نفسها وأبناءها، لا أحد منا مقدّس، لا أحد منّا يستطيع أن يدّعي لنفسه شرفاً قد صرفه الله تعالى لصريح ولد عدنان، لأنه لا أحد يستطيع أن يحافظ على ملّة إبراهيم صافية طاهرة نقيّة سوى صريح ذريّته الذين خرجوا من صلبه وحافظوا على نقاء نسبهم إليه، ثم استمسكوا بعقيدتهم وتشبّثوا بملّة أبيهم وعضّوا عليها بالنواجذ لا يحيدهم عنها شيء من أمور الدنيا. تخيّلوا لو أن الله لم يبعث في آخر الزمان ذلك الإمام المنتظر، القائد الربّاني العظيم، عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الحنيفي الربيعي العدناني عليه وعلى آله وعلى جدّه خليل الله وحبيبه أفضل الصلاة وأتم التسليم، لو لم يبعثه الله تعالى بين يدي الساعة ليفتح مكّة ويطهّر الحجاز من وثنية بني هاشم، ويحطّم ما كان يعجّ به البيتين من أصنام الشيعة وأوثان الصوفيين، لكنّا اليوم في المدينة نستدبر القبلة ونستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم في صلواتنا المكتوبة بل وربما في صلاة التراويح أيضاً، لكنّا اليوم نبول على قبر أبي بكر وعمر ونمرّغ جباهنا في تربة فاطمة العذراء، لكنّا اليوم نحتفل بميلاد النبي صلى الله عليه وسلّم في نفس اليوم الذي كانت تحتفل فيه حمير قبل الإسلام بقيامة بعلٍ من الأموات.
لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم فما أنا سوى تابع مقلّد لإبراهيم وذرّيته، ما أنا إلا داعية إلى ثقافة ولد عدنان بن إبراهيم عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولا يحق لبني عبد المطّلب وبني حمير وبني كائن من كان إلا أن يكونوا تابعين مقلّدين مقتدين وخاضعين ليس لملّة محمد بل لملّة إبراهيم عليه وعلى آله وذريّته أفضل الصلاة وأتم التسليم. (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) (قل إنني هداني ربّي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملّة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاًُ) (قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين). وقد روى كل من مسلم وأحمد بن حنبل والترمذي وأبو داوود وأبو يعلى وابن أبي شيبة وغيرهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلّم: يا خير البريّة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: ذاك إبراهيم. بمعنى أن إبراهيم ليس سيّد ولد آدم فحسب، بل خير البريّة برمتها، بسماواتها وأراضيها ونجومها وكواكبها وشجرها وحجرها وبشرها وكافة مخلوقاتها أجمعين، عليه وعلى آله وذرّيته أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.
قال تعالى: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم)، يا بني حمير لا ترغبوا عن أصلكم الوضيع وتحاولوا الحصول على شرف مزيّف عن طريق تأليهكم لمحمد وعشيرته، وبالتالي ادّعائكم بأن كل دم اختلط ببني هاشم هو دم مقدّس، وأن حمير شعب مقدّس لأن بني هاشم ينحدرون منهم. يا بني حمير إنه كفر بكم أن تحاولوا سرقة العهد الإلهي الإبراهيمي وانتزاع القيادة والإمامة والخلافة وولاية الأمر الديني والثقافي والسياسي من صريح أبناء إبراهيم، من ولد عدنان الذين لم يخلقهم الله سبحانه وتعالى إلا لهذا الأمر، إنه كفر بكم أن تدّعوا أحقيّتكم به منهم لمجرّد قرابتكم من النبي صلى الله عليه وسلّم، إنه كفر بكم أن تزوّروا كلام الله وتحرّفوا آياته وتدّعوا أن كونكم أخوال بني هاشم يمنحكم من الشرف ما يؤهلكم أن تضعوا رؤوسكم إلى جانب رؤوس أسياد هذا الكون، بني عدنان بن إبراهيم عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، فالله لم يرفع منزلتكم ويجعل لكم شيئاً من القيمة والمقدار إلا بخضوعكم لبني عدنان واتّباعكم لملتهم ودخولكم تحت رايتهم واقتدائكم بعرفهم وشريعتهم التي هي بعينها شريعة الله ودينه وملّة خليله إبراهيم عليه وعلى آله وذرّيته أفضل الصلاة وأتم التسليم، لقد أعزّكم الله من خلالهم، فمتى ابتغيتم العزة بغير ملتهم أذلكم الله وأعادكم إلى مقامكم الطبيعي بكل حقارته ووضاعته كما كنتم قبل أن تتعلّموا منهم أصول التوحيد وأركان الإيمان، قبل أن تأخذوا منهم دينكم الذي تدّعون الآن أنكم أكثر له فهماّ منهم.
يا بني هاشم ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، فإنه كفر بكم أن تدّعوا وراثتكم لهذا الأمر دون ورثته الحقيقيين، إنه كفر بكم أن تدعوا لمحمد ملة أو ديناً خاصاً به فترثون أمره من بعده كما يرث الرجل دابّة والده بعد موته، فما جاء محمد إلا داعية لملّة إبراهيم، ما جاء إلا لإعادة حق الإمامة الثقافية والروحية والدينية والسياسية إلى أصحابه الأصليين، إلى صريح ذريّة إبراهيم بعد أن ادّعى كل دعي لنفسه هذا الحق، بعد أن اختلطت أمور البشريّة وضاعت قيمها ومبادئها جاء عليه الصلاة والسلام داعياً إلى المرجعيّة الإلهية، إلى الذريّة الذين وضع الله فيهم سرّ الخلاص لهذا الكون. يا بني هاشم إنه كفر بكم أن تسرقوا عهداً لم يبرمه الله معكم لعلمه عز وجل بأنكم أقل شأناً من القيام بهكذا حمل، فأرومتكم لم تبلغ من النقاء والصفاء والطهر ما يؤهلها لحمل هذه المسئوليّة، إنه كفر بكم أن تدّعوا شرفاً ليس لكم، وتتصدّوا لأمر لم يخلقكم الله له، إنه كفر بكم أن ترغبوا عن أصلكم الحميري وتأخذكم العزّة بالأثم ويعمي التعصّب أبصاركم فتنساقوا خلف شعوركم بالنقص وتدعونه يتحكّم بكم فتمدحون النبي صلى الله عليه وسلّم بما ليس فيه وترفعونه لمرتبة الألوهيّة حتى تجعلوا من أنفسكم عرقاً مقدّساً وسلالة إلهية حريٌّ بها أن تُعبد من دون الله تماماً كما فعل اليهود قبلكم والنصارى. قال تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحبّاؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق) وقال تعالى: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق). يا بني هاشم إنه كفر بكم أن تجتثّوا هذا الأمر من جذوره وتنتزعوه من أصله وترغبوا به عن السلالة التي اختصّها الله سبحانه وتعالى بإمامته وخلافته من قبل ظهور الإسلام بآلاف السنين.
يا بني عدنان إنه كفر بكم أن تتراخوا في تنفيذ بنود العهد الذي عقده الله مع أبيكم إبراهيم وألزمكم من خلاله بإمامة البشريّة وقيادتها نحو طريق الله وصراطه المستقيم، إنه كفر بكم أن ترغبوا عن ملّة أبيكم إبراهيم بتركها ألعوبة في يد كل منافق ومتمصلح ومريض وجاهل وسفيه يحرّفها ويزوّر مقاصدها كيفما اقتضت مصلحته أو زينت له شهوته أو دفعت به أطماعه وطموحاته، إنّه كفر بكم أن تسمحوا لمن فسدت أرومته وتدنّست بطين الأرض فطرته وتنجّست بأوساخ المدنيّة سريرته أن يدّعي القوامة على هذه الملّة دون أصحابها الشرعيين، وأن يتصدّى لإمامة هذا الدين ومشيخة طريقته وتفسير نصوصه وتأويل شريعته دونكم، إنه كفر بكم أن تسمحوا لغيركم بتمثيل هذه الملّة، وأن تقذفوا بها ليد من لم يخلقهم الله لحملها، فإن فعلتم فقد خنتم الله وأمانته وعهده خيانة من شأنها أن تخرجكم من الملّة.
يا بني إبراهيم إنه كفر بكم أن ترغبوا عن ملّة أبيكم التي لم يجعلها الله آياتٍ مكتوبة أو قرآناً يتلى أو صحفاً تُدرس أو أحاديثاً تروى أو فقهاً يتشدّق بتأويله المتكلّمون أو قانوناً يتداولونه في كتبهم ومجلّداتهم بقدر ما جعلها تبارك وتعالى أرومة طاهرة نقيّة صاغ بها أحماضكم النووية وشكّل من خلالها أشرطتكم الكروموسوميّة وصبّها داخل عروقكم صبّاً فتجسّدت واقعاً عملياً معاشاً مرئيّاً مسموعاً وملموساً تنطق به ثقافتكم، أخلاقكم وقيمكم ومبادئكم، عقيدتكم وأفكاركم وفلسفاتكم، عاداتكم وتقاليدكم وأعرافكم، إيمانكم وإخلاصكم وطهر سرائركم وصفاء ضمائركم، نخوتكم كرمكم شجاعتكم شهامتكم مروءتكم ونبل سلوككم وجميع تصرفاتكم. إنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، قال تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم ألا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين، ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون(


ثالثاً: إن هذا الأمر لا يحصل إلا بالنسب، وهو ما أكّد عليه الصدّيق رضوان الله تعالى عنه بقوله: "ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً". وقد قال رضي الله عنه ذلك بعد أن تفاخرت حمير بكثرتها وبعتادها وبقوتها العسكرية وبأعمالها في خدمة الإسلام وبإيوائها للمسلمين المهاجرين وبنصرتها للنبي صلى الله عليه وسلّم، فقال قائلهم: "فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفّت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر" عندها لم ينكر عليهم رضي الله تعالى عنه فضلهم في الصحبة ولكنّه أجابهم بالتالي: "ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً". إن هذا الأمر لا علاقة له بالصحبة ولا بادّعاء الصلاح والتقوى ولا بارتداء جلابيب الفضيلة، لا علاقة له بطول اللحية ولا بقصر الثوب، لا علاقة له بالكثرة العددية ولا بالقوة العسكرية ولا بالتطور المدني ولا بالتقدم التكنولوجي ولا بالدرجة العلمية، إن هذا الأمر لا يحدده سوى النسب الإبراهيمي، إن هذا الأمر لا يُعرف إلا في ولد عدنان، هكذا تكلّم الصديق عليه رضوان الله تعالى.
لكم يا معاشر حمير أن تحدّثوا الناس عن ذكرياتكم في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما شئتم، لكم أن ترووا عنه أحاديثه وتخبروا الناس عن أفعاله وأقواله كما شئتم، لكم أن تبلّغوا عنه صلى الله عليه وسلّم ما كان ينهاكم عنه أو يأمركم به أو يوصيكم بفعله، ولكن ليس لكم مما وراء ذلك من شيء، نحن لا ننكر صحبتكم ونصرتكم ولا نختزلكم فضلكم ولكن فضلكم هذا لا يرتقي بكم إلى مرتبة الإمامة، فالإمامة لم تخلق لكم ولم تخلقوا لها، الإمامة لها رجالها أما أنتم فلكم ما دون ذلك، هكذا تكلّم الصديق عليه رضوان الله تعالى.
إن الإمامة التي كان الصدّيق رضي الله تعالى عنه يتحدّث عنها ليست مجرّد منصب سياسي، فخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلّم تعني القيام مقامه في كلّ شيء، تعني ولاية الأمر الديني والثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والإداري، تعني القيام بجميع سلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية. إنها -باختصار- الشهادة التي جاءت في قوله تعالى: (لتكونوا شهداء على الناس)، والشاهد هو المخبر الصادق في خبره والذي يعتمد القاضي على كلامه في إصدار الحكم، والشاهد هو النصب التذكاري أو البناء المرتفع الذي يراه القاصي والداني ويجتمع عنده الناس لإقامة الاحتفالات وإلقاء الخطابات وعقد المؤتمرات الشعبية الضخمة، وشاهد القبر هو البناء المرتفع الذي يقام فوق قبور الأولياء ليميزها عن بقية القبور، وشاهد النص هو خلاصته وفائدته وزبدة القول فيه، والشهادة هي الإقرار والاعتراف والإيمان الشديد بالشيء كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (وأنا على ذلك من الشاهدين)، والشهداء هم الذين قتلوا في سبيل الله فتبوؤوا أعلى مراتب التكريم عند الله، وشواهد الحق هي حقائق الأكوان فهي تشهد بالمكوّن، وكما جاء في لسان العرب فشهادة الأصول عند الأصوليين هي مقابلة الوصف الملائم بقوانين الشرع لتحقق سلامته من المناقضة والمعارضة وذلك كأن يقال لا تجب الزكاة في ذكور الخيل فلا تجب في إناثها لشهادة الأصول على التسوية بين الذكور والإناث.
فأنتم يا أبناء إبراهيم قد اصطفاكم الله أي اجتباكم أي اختاركم دون بقية الأمم والشعوب لتكونوا شعبه المصطفى أي المختار الذي يمثل بأخلاقياته، بسلوكياته، بعقيدته، وبإنسانيته النموذج الثقافي المعياري للمجتمع الإنساني الكامل، والتجسّد العملي التطبيقي لشريعة الله ونظامه الاجتماعي المقدّس، والمؤشر المقياسي العالمي لقياس مقدار استقامة الشعوب أو انحرافها عن قانون الله، والممثل الحسي الوحيد لإرادة الله في إدارة هذا الكوكب، لذلك فقد زرعكم الله في منتصف هذا الكوكب لتكونوا شاهداً عالمياً منتصباً في مركز الكون، مركزاً دولياً للمراقبة والتوجيه والتقييم والإدارة الثقافية، مشهداً كونياً أبدياً تقتدي وتأتم به جميع فصائل الكائن البشري، (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملّة أبيكم إبراهيم، هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا، ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتو الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير(
إنه نفس المعنى الذي يعبّر عنه لفظ "الإمامة"، (وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهن، قال إني جاعلك للناس إماما). لم يحدث أن عقد الله سبحانه وتعالى مع أحد من خلقه سوى إبراهيم وذرّيته عقداً صريحاً واضح اللهجة قطعي الدلالة كهذا، مرسومٌ إلهيٌّ أبديٌّ بتعيين إبراهيم رئيساً أعلى لمجلس إدارة البشريّة، قرارٌ إلهيٌّ أبديٌّ تنتقل صلاحياته ويسري مفعوله تلقائياً بطريق الوراثة في ذرّية إبراهيم إلى يوم القيامة. إنّي جاعلك للناس أي لكافة الناس؛ لجميع البشر الذين يسكنون الأرض بصرف النظر عن عرقيّاتهم وألوان بشرتهم ولغاتهم وثقافاتهم وقوميّاتهم وحضاراتهم ومناطق تواجدهم الجغرافي. والإمام هو ليس مجرّد حاكم سياسي أو قائد عسكري أو شيخ قبيلة أو أمير مطاع له قدره الاعتباري ومقامه الرفيع بين الناس، بل إن لفظ "إمام" هو المصطلح الوحيد الجامع لكل أنواع السلطات القيادية التي يمكن للإنسان تخيّلها.
جاء في لسان العرب: "يقول الشاعر: "فما أمّي (بفتح الهمزة) وأمُّ الوحش لما - تفرّع في ذؤاباتي المشيب" يقول ما أنا وطلب الوحش لما كبرت في السن، فالأم (بفتح الهمزة) هو القصد والطلب، والأم هو العَلَم أو الراية التي يتبعها الجيش، والأمة (بفتح الهمزة) هي السنة (بضم السين)، وتأمم به وأتم به أي جعله أمّة أي قدوة ومثالاً يحتذى به، وأمّ القوم أو أمّ بهم أي تقدمهم وهي الإمامة، والإمام هو كل من اقتدى به قوم واتبعوه اتباعاً أعمى وجعلوه قدوة لهم وساروا على سنّته وطريقته كما يسير الجند خلف العلم أو الراية، وقوله تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) قالت طائفة بكتابهم وقال آخرون بنبيهم وشرعهم وقيل بكتابه الذي أحصي فيه عمله، وقوله تعالى: (فقاتلوا أئمة الكفر) أي قاتلوا رؤساء الكفر وقادتهم الذين يتبعهم الناس ويقتدون بهم، وقوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) أي من تبعهم فهو في النار يوم القيامة، وإمام كل شيء قيّمه والمصلح له، والقرآن إمام المسلمين والخليفة إمام الرعية، وإمام الجند قائدهم وإمام الغلام معلّمه، وإمام المثال ما امتثل عليه. والإمام في لغة البنّائين هو اسم آلة كانوا يستخدمونها قديماً في البناء، وهي الخيط الذي يمد على البناء فيبنى عليه ساف البناء، كما يطلقون أيضاً لفظ الإمام على الخشبة التي يسوى عليها البناء. وإمام القبلة تلقاؤها، والحادي إمام الإبل وإن كان وراءها لأنه الهادي لها، والإمام الطريق، وقوله تعالى: (وإنهما لبإمام مبين) أي لبطريق يؤم أي يقصد فيتميّز.
فالإمامة الإبراهيميّة إذاً هي القيادة الروحيّة والفكرية والعقائدية والسلوكية والثقافية لبني البشر، إنها اصطفاء أيديولوجي، إنها المرجعيّة الثقافية الأبدية التي أراد الله بواسطتها أن يضمن عدم انفلات كل من الفكر والسلوك الإنساني تحت ضغط الغرائز الحيوانية لهذا الكائن. لقد قدّر الله لأبناء إبراهيم أن يستوطنوا منتصف الكرة الأرضيّة فمنحهم تلك القطعة الاستراتيجيّة التي تمثّل مركز العالم، تلك القطعة من الأرض التي تربط بين جميع القارات، فتتصل من خلالها مشارق الكون بمغاربه. تتلاقى فيها جميع شعوب الأرض، فتتمازج فيها الأعراق وتختلط فيها الثقافات وتخترق أراضيها جميع القوافل وتعرض في أسواقها جميع السلع وتصرف في حوانيتها جميع العملات، تتصافح فيها جميع الأيدي وتتقاتل على ترابها جميع الجيوش وتُراق في ساحاتها جميع فصائل الدماء. (وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام، ربّ إنّهنّ أضللن كثيراً من الناس، فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم، ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم، ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم). تهوي إليهم وليس إليه، تهوي إليهم هم، والضمير يعود هنا إلى "ذرّيتي" وليس إليه هو أي "بيتك المحرّم"، ما معنى هذا الكلام؟
(ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون). لكي يقيموا دينك، لكي يقوموا بواجبهم في الدعوة إليه وتبليغه إلى الناس، فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم هم وليس إلى البيت، فالبيت أصمٌّ أعمىً أبكم، حجرٌ جامد لا ينفع ولا يضر، البيت لا يستطيع أن يدعوَ إلى سبيلك أو يبلّغ الناس عنك آية، البيت ليس هو القبلة، ولكن القبلة هم "من ذرّيتي". نعم؛ الكعبة ليست هي القبلة، هي فقط مجرّد لوحةٍ إرشاديّة كتلك التي توضع على جوانب الطرق السريعة لتشير إلى مخارج المدن. هنا في منتصف العالم؛ وعلى طريق التجارة الدولي الوحيد الذي يربط شرق الأرض بغربها وضع الله هذا الحجَر المكعّب علامةً تنبيهيّة ولوحة إرشاديّة مكتوب فيها: "هنا مدخل مدينة إبراهيم الجامعيّة، حيث ينتظركم فيها أبناؤه كي يقدّموا لكم دورات مجّانية في ملّة إبراهيم، في هذه الجامعة أنتم لا تحتاجون إلى دفاتر وأقلام وأدوات مدرسيّة بل ولا حتى إلى كتب أو مراجع، فالدروس هنا تطبيقيّة، ورش عمل، ما عليكم سوى أن تنظروا وتراقبوا أبناء إبراهيم جيّداً، تراقبوا سلوكيّاتهم وتصرّفاتهم، تأخذوا دينكم من عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم التي هي لبُّ الشريعة وجوهر الإسلام، تتعلموا ملّة أبيهم من طريقة تفكيرهم من أسلوب حياتهم من طهارة نفوسهم من سماحة سجاياهم، من مروءتهم وشهامتهم وعزّة نفوسهم وكرامتهم وشرفهم وإنسانيّتهم، من شجاعتهم وإبائهم وصدقهم وإخلاصهم وأمانتهم ونبل طباعهم، ما عليكم سوى أن تحتكّوا بهم، تعاشروهم وتخالطوهم لتفهموا ملّة التوحيد ونقاء العقيدة من خلال أقوالهم وافعالهم ونظرتهم وفلسفتهم العامّة نحو الكون والحياة، من خلال تفسيرهم للنصوص وتعاملهم مع الكتاب والسّنة، تلك النصوص التي لم تنبثق إلا منهم ولا تغبّر إلا عن أرومتهم وثقافتهم، إنّهم الكتاب الحقيقي والسنّة الحقيقيّة فلا يمكن لأحد أن يفهم كتاباً أو سنّة أو أي نص مقدّس إلا من خلالهم، هم التعبير المتجسّد لإرادة الله ولكلمته ولروحه ولدينه وشريعته.
أخي الحاج؛ ستجد هنا الكثير من الأدعياء الكذّابين، والمرائين المنافقين، والأغبياء المتذاكين، والأنذال الانتهازيين، والخونة المتمصلحين، والجبناء الغدّارين، ستجد الكثير من الشياطين في ثياب الملائكة، والذئاب في ثياب الحملان، واللصوص من أبناء الرويبضة في ثياب الدعاة المصلحين، والزناة اللوطيين في ثياب الأشراف، والعبيد الموّلدين في ثياب السادة، والمشركين الوثنيين في ثياب الموحّدين، ولكن لا عليك؛ فهؤلاء لن يستطيعوا خداعك، فمهما كنت ساذجاً سطحيّ النظرة معميّ البصيرة هنالك تقنية في غاية السهولة واليسر بإمكانها تنبيهك وإرشادك إلى معادن الرجال والنساء على حدٍّ سواء، بإمكانها عصمتك من الفتنة فلا تخشى على نفسك من هؤلاء، فإذا وجدت حول البيت شيخاً جليلاً جلس على عرشه يطلق تلك الفتاوى والدروس ويملأ الصحن تحليلاً وتحريماً ويتحلّق حوله المئات بل الآلاف من أبناء من لذّ وطاب، أو صادفت من تصدّى لك وفي يده صكّ للتكفير والغفران ثم التبس عليك أهو شيطان في حلّة ملاك أم هو عضو حقيقي في هيئة التدريس الإبراهيمية فما عليك سوى أن تسأله سؤالاً واحداً: هل أنت من صريح ذرّية عدنان بن إبراهيم؟؟
أخي الزائر والمعتمر؛ إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم. تلك كانت فحوى كلام أمير المؤمنين عليه رضوان الله تعالى في مطلع هذا الحديث الذي نحن بصدد شرحه، وهنا نصل للفائدة الرابعة.


رابعاً: إن العلاقة ظاهرة الوضوح بين قول ذلك الحميري في منى: "والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً" وبين مطلع خطبة أمير المؤمنين في المدينة عندما بدأها بالحديث عن حدّ الرجم، فكأن الحميري بكلامه هذا يدّعي بأنه لا يوجد في كتاب الله نصّاً مباشراً يدلّ دلالة قطعية لا تقبل التأويل على خلافة أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه للنبي بعد موته عليه الصلاة والسلام، (والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمّت)، فهو يقول صراحة أن ما حدث في سقيفة بني ساعدة كان اغتصاباً للخلافة، وأنها فلتت من يد الأنصار والهاشميين فلتة على حين غرّة، وأنّه حان لهم استردادها من أيدي العدنانيين، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك حين يعلن مبايعته لعليّ رضي الله عنه في عين حياة أمير المؤمنين، وهو ما جعل أمير المؤمنين يستشيط غضباً وخوفاً على مستقبل هذا الدين، لذلك أخذ قراره الفوري عليه رضوان الله تعالى بتوضيح المسألة.
يقول أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه: (أمّا بعد؛ فإني قائل لكم مقالة قد قُدّر لي أن أقولها لا أدري لعلّها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحلُّ لأحد أن يكذب عليّ. إنّ الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلّم بالحقّ وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائلٌ: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله. فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البيّنة أو كان الحبل أو الاعتراف(
إذا قال لك حميري أو هاشمي أو شيء من هذا القبيل: (والله ما نجد آية الخلافة في كتاب الله) فقل له: (والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ولكننا لا نأخذ ديننا من كتاب الله وحده) إن أكبر جريمة يمكن ارتكابها في حق كتاب الله هي أن نترك آياته ألعوبة في يد كل منافق متمصلح انتهازي كذّاب يؤّلها ويفسّرها ويحرّفها عن مواضعها وينحى بها كلّ منحىً يخدم مرضه النفسي وتعصّبه العرقي وميوله السياسي وطموحه الاقتصادي، إنه كفر كل الكفر بتلك الآيات أن نؤمم فهمها ونتيح شرحها واستخراج أحكامها لكلّ مدّعٍ للعلم والصلاح والتقوى والصحبة النبوية كي يعبِّد معانيها ويشكّل مقاصدها حسب ما تمليه عليه شهوة بطنه وفرجه وبقيّة نزعات غرائزه الحيوانيّة. هكذا تكلّم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
نحن لا نأخذ ديننا من كتاب الله مباشرة فآياته غير مستباحة الفهم من قبل كلّ ضامر يأتيك من كل فج عميق ليستخرج منها ما يوافق أهواءه من أحكام ويغض الطرف عن الباقي أو يدّخره لليوم الأسود. بالأمس جاء حميري إلى أمير المؤمنين يقول له والله ما نجد آية الخلافة في كتاب الله، واليوم جاء آخر يحاول اغتيال أمير المؤمنين بما يدّعي أنه وجد في كتاب الله، وعلى هذا وذاك ردّ أمير المؤمنين بكلمات ثلاث: (فقرأناها وعقلناها ووعيناها)، نعم؛ هنالك قبيلة واحدة فقط في هذا الكون خلقهم الله تعالى خصيصاً لهذا الأمر، ليقرؤوها ويعقلوها ويعوها، (فقرأناها وعقلناها ووعيناها)، فإذا ما حاول غيرهم أن يقرأها ويعقلها ويعيها تحصل الكارثة. لقد وقر في علم الله الأزلي أن هذا الرسم الحرفي للقرآن سيتم تحويله من مصدر للهدى والنور إلى معين لا ينضب للكوارث الإنسانية على وجه الأرض وذلك بمجرّد اختطافه من قبل أصحاب العاهات العقلية والنفسيّة والعرقيّة، لذلك قرر جلّ وعلا أن يخلق لقرآنه تلك السلالة العدنانية المقدسة ليكونوا سدنة وحرّاساً لهذا النص من التحريف التفسيري والمسخ التأويلي، ليكونوا شهداء على الناس ولا شهيد عليهم سوى الله ورسوله.
فقرأناها وعقلناها ووعيناها من دون البشر أجمعين، لهذا الغرض فقط خلقنا الله ولم يخلقنا لأي غرض آخر، لم يخلقنا الله تعالى لنبني حضارة أو نرسي دعائم مدنية، ليس من شأننا الاشتغال بصناعة أو زراعة أو تجارة، فرزقنا مكفول من فوق سبع سماوات (وارزقهم من الثمرات) قد تكفل الله تعالى به من قبل البترول وبالبترول وبعد البترول، لا يجب علينا تضييع وقتنا في طلب الرزق، فمسألة رزقنا ليست من شأننا، إنه شأن رب السماوات والأرض. ليس من واجبنا دفع عجلة التكنولوجيا أو إرسال الصواريخ إلى الفضاء أو تطوير المفاعلات النووية، نحن لم يخلقنا الله إلا لنقود هذا العالم ثقافياً، أن نقدّم له النموذج الفكري والسلوكي الكامل والمقدّس الذي لم تتمكن جميع تقنيات الأرض مجتمعة من تقديمه للإنسان، الإنسان الذي نجح في كل شيء وفشل في اختراع مفهوم مرجعي واحد لمكارم الأخلاق، للعدالة، للحقيقة، للسلوك، للفكر، للحق، للباطل، للصواب، للخطأ، لمعنى كلمة إنسانية. نحن لم يخلقنا الله إلا لهذا الغرض، لنكون سدنة لكلمته، أمناء على عهده، خلفاء له في أرضه، أئمة هادين لخلقه، حراساً لعقيدته، حملة لكتابه ومعلّمين لآياته وحكمته. قرأناها وعقلناها ووعيناها فلا يجوز لكائن من كان أن يفتي في كتاب الله أو يفسّر آياته سوانا، ومن يفعل ذلك دون مشورتنا أو يأخذ دينه من أحد غيرنا أو يدّعي فهمه لكتاب الله دوننا كمن يبرم بيعة لإمام لا ينتمي إلى ولد عدنان فإن حكمه الشرعي عند الله هو القتل: (فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يُقتلا) هكذا تكلّم أمير المؤمنين عليه وعلى جدّه إبراهيم أفضل الصلاة وأتم التسليم.
عندما سمع أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه كلام الحميري استشاط غضباً حتى هم بالإقدام على عمل في غاية التهوّر، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رمز الحكمة والركازة لم يتمالك نفسه من هول المصيبة، فهمّ أن يخرج من فوره إلى ذلك اللفيف ممن هب ودب، إلى رعاع الناس وغوغائهم الذين كانوا مجتمعين في منى بموسم الحج، ولكن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وأرضاه تدارك أمير المؤمنين قبل فوات الأوان وحال دون حدوث كارثة لا يعلم عقباها إلا الله.
(عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجّها إذ رجع إليّ عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم فقال يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمّت. فغضب عمر ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشيّة في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم. قال عبد الرحمن: فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كلّ مطيّر، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها. فامهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنّة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكناً فيعي أهل العلم مقالتك ويضعوها على مواضعها. فقال عمر: والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة(
في ذلك الوقت كانت دولة الإسلام قد شملت كامل مناطق الشرق الأوسط عن بكرة أبيها، وبالتالي لم يبق حميري على وجه الأرض إلا وقد خضعت رقبته لسيف عمر، حتى اضطر معظمهم لإعلان إسلامه، ولكن الله وحده يعلم ما في القلوب. وبطبيعة الحال كانت الغالبية الساحقة ممن تجمعوا في منى من الحجاج ينتمون إلى حمير حيث أنهم كانوا يشكلون الغالبية الساحقة من سكان الشرق الأوسط، فحمير كندة توافدوا من حضرموت، وحمير سبأ من اليمن، وحمير الأزد من شتى مناطق الحجاز، والغساسنة حمير الشام، والمناذرة حمير العراق، وطيء حمير نجد وهم أجداد شمّر، هذا بالإضافة إلى الأقباط الذين لا تجدهم إلا مع من غلب، ناهيك عن زطّ العراق الذين انتسبوا بالولاء إلى تميم وجاءوا يحملون إلى منى شيم العبيد وثقافة التشودرا. وفي أوج لمعانه يسطع نجم النذالة الحميرية في سماء شيمته عندما استغلّ ذلك الحميري تلك الكثرة العددية المحتشدة من جماعته ليصيح فيهم: (لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمّت)، وكادت ثمار خبثه أن تؤتي أكلها لولا تدخل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في اللحظة الأخيرة. قال عبد الرحمن: (فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كلّ مطيّر، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها. فامهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنّة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكناً فيعي أهل العلم مقالتك ويضعوها على مواضعها. فقال عمر: والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة)
فلنتخيّل أمير المؤمنين وقد بلغ به الاستفزاز درجة لم يتمكن معها من الصبر حتى يقدم المدينة، فلنتخيل حجم الكارثة التي كان من الممكن أن تحدث لو خرج عمر إلى ذلك اللفيف من رعاع الناس وغوغائهم وألقى خطابه التاريخي وسطهم. إن ما حدث في سقيفة بني ساعدة كان نوعاً من المزاح إذا قورن بما كان سيحدث في منى. ترى كم جذيل محك وعذيق مرجب كان سيرفع سيفه في وجه بني عدنان ويقول منّا أئمة ومنكم إمام؟ ماذا لو تهوّر أمير المؤمنين وخاطب تلك الحثالة من رعاع الناس وغوغائهم بقوله: (قرأناها وعقلناها ووعيناها)، أو نقل إليهم قول الصديق رضوان الله تعالى عليه وصلواته: (لن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً)؟ ترى ما مقدار الصياح الذي كان سيرتفع عندها من وسط تلك الحثالة مرددين بصوت واحد: هذه عنصرية بغيضة، لا يوجد أحد أحسن من أحد، فكلّنا عيال تسعة أشهر، نحن لا نجد في كتاب الله شيئاً عن الشعب المقدّس أو المختار، ومن قال بأن دين الله حكر على أحد دون أحد؟! من قال أنكم أكثر قدرة على فهم كتاب الله من غيركم؟! بل نحن أكثر فهماً لآيات الله منكم، نحن أيضاً نستطيع قراءتها وتعقلها واستيعابها، نحن أيضاً لنا حق في الإمامة والقيادة والفتوى والتفسير وتمثيل هذه الملّة.
ترى كيف كان من الممكن لتلك الحثالة من رعاع الناس وغوغائهم أن يفهموا ماذا كان يقصد أمير المؤمنين بلفظ "المسلمين" في قوله (فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يُقتلا)! هل كانوا سيعقلون هذا الكلام ويعونه أم كانوا سيصيحون في وجهه صيحة حميري واحد: نحن المسلمون هنا، وقد تشاورنا فيما بيننا واخترنا رجلاً منا، نحن أكثر منكم، وأصواتنا تغلب أصواتكم يا معشر بني عدنان، ما أنتم يا معشر بني عدنان إلا رهط، رهط قليل ضئيل العدد في وسطنا، أنتم الذين كان يجب عليكم استشارتنا قبل أن تبايعوا أبا بكر في المسجد قبل اجتماع السقيفة، وأنت يا عمر استشرت من قبل أن تبسط يدك لأبي بكر؟ أما كان عليك استشارة غالبية المسلمين الذين كانوا ينتمون لحمير، والذين أجمعوا أمرهم على سعد بن عبادة قبل قدومكم؟!
ترى كيف لو غلبت تلك الحثالة من رعاع الناس وغوغائهم على قرب أمير المؤمنين من أهل الفقه وأشراف الناس، كيف لو أجبروا أمير المؤمنين على الرضوخ لكثرتهم العددية والانصياع لرأي الأغلبية، كيف لو أخذوا هذا الأمر إلى صناديق الاقتراع؟ ترى من الذي كان سيفوز بإمارة المؤمنين، جبلة بن الأيهم أم عبد الله بن سبأ؟
وماذا لو حدث العكس؟ ماذا لو أصرّ أمير المؤمنين على استبعادهم من معادلة الخلافة والإمامة؟ هل كان سيدفع بهم حقدهم إلى تكفيره بحجة أنه اغتصب الخلافة من آل البيت؟ أم كانوا سيجدون لأنفسهم في كتاب الله آية أو آيتين تقبل التأويل بما يخدم أمراضهم النفسية والعقلية والعرقية؟ ترى هل كانوا سيؤولون آيات الولاء والبراء حتى يكفّروا أبا بكر بحجّة أنه لم يخرج المشركين من جزيرة العرب، وأنه أقرّ اليهود على خيبر ونجران واليمن وأبقى النصارى في دومة الجندل والبحرين وأمّنهم فيها على مساكنهم وأموالهم وأعراضهم حتى وفاته؟
ترى هل كانوا سيفجّرون مؤخّراتهم في وجه أمير المؤمنين بحجة أنه كذاب منافق يصرّح تارة برغبته في إخراج المشركين من جزيرة العرب بينما نجده لم يخرج سوى اليهود من خيبر أما الباقين فقد أقرهم وأمّنهم وأبقاهم على ما هم عليه حتى وفاته؟ إن التاريخ يشهد -بماضيه وحاضره ومستقبله- أن ذيل الكلب عمره ما ينعدل.
ترى هل كانوا سيعلنون الحرب على أمير المؤمنين لأنه لم يأخذ الجزية من نصارى ربيعة بل أخذ منهم الزكاة المضاعفة؟ أم كانوا سيخرجونه من الملّة بحجة أنّه عطّل حدّاً من حدود الله عام الرمادة، وألغى مصرفاً من مصارف الزكاة في القرآن؟
للذين يقولون بحرية الإعلام، لو طبّق أمير المؤمنين حريّة الإعلام ذلك اليوم لما كان للإسلام اليوم وجود على سطح الأرض. يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: (قلت يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كلّ مطيّر، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها. فامهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنّة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكناً فيعي أهل العلم مقالتك ويضعوها على مواضعها) إنه من أكثر الأخطاء فداحةً أن تطرح قضيّة الإمامة للتداول بين رعاع الناس وغوغائهم، فلإمامة قضيّة إلهية، بل هي من أهم أسس هذا الدين إن لم تكن أهمها على الإطلاق، الإمامة هي المرجعية الوحيدة ليس فقط لتطبيق شرع الله بل ولتمثيل إرادته على الأرض، الإمامة هي التعبير الوحيد عن روح العدالة الإلهية الكامنة خلف النص، والإمام العدناني ليس مجرّد حاكم سياسي أو إداري تنحصر سلطاته داخل إطار تنفيذي مطلق، بل هو القاضي وهو المشرّع الذي يملك الحق الحصري في تفسير النص وتأويله بل وحمله على الوجه الذي يراه مناسباً للحالة الظرفية أو للمصلحة العامّة، الإمام العدناني هو خليفة الله على أرضه، هو قائمَّقام الله في حكمه للبلاد والعباد، هو غير مقيّد بالنصّ بقدر كونه صاحب سلطة على هذا النص. لذلك لم يترك الله مسألة الإمامة سائبة في يد البشر بل حسمها من فوق سبع سماوات، حسمها بطريقة ليس فيها أي مجال للمناقشة: (وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهن، قال إني جاعلك للناس إماما) رفعت الأقلام وجفّت الصحف. يا إبراهيم إني لم أجعل لك ولا للناس خياراً في هذا الأمر، لقد أصدرت قراري النهائي غير القابل للاستئناف (إني جاعلك للناس إماما (بالرغم من أنفك ومن أنوف الناس.
عندما فسّر أبو بكر رضي الله تعالى عنه عبارة (إلا بحقّها) وشنّ على أساس تأويله لها حرباً أهليّة في غاية الشراسة والقسوة ضد بني عمومته من ربيعة؛ كان رضي الله تعالى عنه يمارس حقّه الشرعي في حمل النصّ على المحمل الذي يراه الإمام العدناني مناسباً للحالة الظرفيّة، هو لم يكن يتقيّد بالنص بقدر ما كان يمارس سلطته على النص، السلطة التي منحها الله تعالى إياه بصفته إماماً للناس وحارساً للشريعة ووصيّاً على النصّ وخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في جميع سلطاته وصلاحيّاته. إن النصّ حمّال أوجه، ولا يوجد نصّ في هذه الدنيا قطعيّ الدلالة مئة بالمئة، بل إن الرسم الحرفي للنصّ هو من المرونة والمطاطيّة لدرجة تسمح لفئتين متحاربتين ومتطاحنتين تكفّر إحداها الأخرى وتبيح إحداها دماء جميع أفراد الأخرى أن تعتمد كلا الفئتين على نفس العبارة النصيّة في إخراج صاحبتها تماماً من الملّة. فما أسعده صاحب الهوى عندما نقول له (النص بيننا وبينك) عندها يستطيع تطويع النص لأهوائه كما يطوّع الخباز عجينته.
لا أحد يملك سلطة على النصّ سوى الإمام العدناني، لا أحد يملك سلطة شرعيّة وتفويضاً إلهياً بتطويع النص وحمله على وجه تفسيريّ معيّن سوى الإمام العدناني، ولأولئك الرويبضة الذين يحاولون تصوير أبا بكر رضي الله تعالى عنه في صورة الحاكم التنفيذي المجرّد الذي لا يملك أي سلطة تشريعية، وأنه لم يكن سوى متّبعاً لحرفيّة النص بحذافيرها نقول لهم إن خليفة رسول الله رضي الله تعالى عنه كان في تأوّله لعبارة (إلا بحقها) يخالف نصّاً صريحاً في القرآن ويعطّل حكمه وهو نص مصارف الزكاة، فمانعوا الزكاة في ذلك الوقت كانوا من المؤلّفة قلوبهم -حسب التعريف الاصطلاحي لهذه العبارة- كانوا حديثوا عهد بإسلام، وهؤلاء لا تجب عليهم الزكاة بل تجب لهم، ولكنّه رضي الله تعالى عنه بدلاً من إعطائهم حقّهم في الزكاة وجدناه يقاتلهم ليأخذها منهم، فالإمام العدناني وحده يستطيع أن يحدد ما الذي يجب وما الذي لا يجب، هو وحده صاحب السلطة على هذا النص يعطّله متى شاء ويمضيه متى شاء ويحمله على الوجه الذي يريه إيّاه الله. ولؤلئك المنافقين الذين يزعمون أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم يكن يتصرّف إلا بدافع الحقد والعداء الأزلي بين ربيعة ومضر؛ نقول لهم إن نتيجة حروب الردّة جاءت لمصلحة ربيعة أكثر منها لمصلحة مضر، فمن خلالها تعرّفت ربيعة على حقيقة هذا الدين وجوهره، وأنه ليس بملّة هاشميّة أو مضريّة كما كانوا يعتقدون، وأنها ليست ملّة قرشيّة اخترعها الحجازيّون ليدّعوا لأنفسهم فضلاً على ربيعة أو ليركبوا على أكتافها ويطئوا بها رقاب العرب ويستأثروا بالملك وحدهم بحجّة الدين، لقد كسرت حروب الردّة حاجز المسافة وأزاحت عقبات الاتصال بين ربيعة وبين فهم الإسلام على حقيقته، ففهمت ربيعة أن الإسلام ليس سوى ملّة أبيهم إبراهيم بعينها وسنّها وجميع ملامحها، وأن القرآن ليس سوى سجل تاريخي لتخليد عقيدتهم وملّتهم وأفكارهم وقناعاتهم وفلسفاتهم ومعظم عناصر ثقافتهم، وأن شريعة محمد لا تعدوا كونها موسوعة ثقافيّة لتوثيق عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم وقيمهم ومبادئهم ومكارم أخلاقهم، أدركت ربيعة أن الإسلام دين عدناني وليس مضريّ أو قرشي أو هاشمي أو حجازي، عندها لم تتمسّك جماعة من البشر بهذا الدين تمسّك ربيعة به، ولم يشهد التاريخ بماضيه وحاضره ومستقبله من الموحدين من استمات في التضحية والفداء والدفاع عن هذا الدين كأبطال بني ربيعة وفرسانها، فبعد حروب الردّة عاد الإسلام إلى حضنه الأصلي، وهي حقيقة لم يدركها الصحابة رضوان الله تعالى عنهم فقط بل أدركها كلّ من دخل هذا الدين من الأمم والشعوب المختلفة، وبدأ الناس منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا يلاحظون ذلك التناغم العجيب بين الثقافة الربيعية الأصيلة وبين تعاليم هذا الدين ومبادئه وأصوله، لذلك نجد العقلاء الناضجين من المسلمين في شتى أصقاع الكوكب لا يثقون في عالم أو مفتي أو فقيه ثقتهم في علماء المملكة العربية السعودية ومشايخها النجديين، ولا تطمئن نفوسهم إلى رأي ديني أو حكم شرعي أو فلسفة عقائدية كفلسفة مجلس الإفتاء السعودي الأعلى. وعندما حاول ذلك اللقيط الحميري أن يجعل من نفسه مرجعاً دينياً وشرعياً بديلاً كي يسحب البساط من تحت أقدام المرجعيّة العدنانيّة المقدّسة؛ كان الفشل الذريع حليفه على طول الخط، حتى اضطر للتظاهر بمعاداة أمريكا وإعلان الحرب على إسرائيل كي يستجدي بذلك تعاطف الرأي الشعبي الإسلامي العام، ولكن ذلك الخسيس النذل لم يتمكن في النهاية من استمالة أحد سوى أولئك الحثالة من رعاع الناس وغوغائهم.
وبعد انقضاء تلك الحالة الظرفيّة التي دفعت الصدّيق رضوان الله تعالى عنه للقيام بحروب الردّة، وبعد تغير الأحوال السياسية في الدولة وتولّي عمر رضي الله تعالى عنه إمارة المؤمنين نجده بالرغم من (إلا بحقها) يقرّ نصارى ربيعة على نصرانيّتهم فلا يقاتلهم بل ولم يأخذ منهم جزية، بل أخذ منهم الزكاة المضاعفة بالرغم من أنه رضوان الله تعالى عليه وصلواته لم يفعل ذلك مع نصارى حمير ويهودهم، وبالرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلّم عندما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن أمره أن لا يقبل من أهل كتابها غير الإسلام.
إن سلطة الإمام العدناني على النصّ لا تقف عند حدود التفسير والتأويل بل تتعدّاه إلى حدّ تعطيل الحكم الشرعي وإلغائه تماماً إذا اقتضت المصلحة ذلك أو استدعته الحالة الظرفية. بل والأبعد من ذلك أن للإمام العدناني استحداث حكم شرعيّ من العدم أو تغيير وتحوير حكم قائم أو كان قائماً في حالة ظرفيّة سابقة، وهو ما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه عندما ألغى تماماً وإلى الأبد مصرف المؤلّفة قلوبهم، وعندما غيّر وحوّر طريقة توزيع الغنائم في القرآن (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه) أما الأخماس الأربعة الباقية التي كان يقتسمها المجاهدون الذين شاركوا في تلك المعركة فقد منعها عنهم أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه وحوّل غنائم الحرب العقاريّة إلى أوقاف مؤسسيّة يعود ريعها كاملاً إلى بيت مال المسلمين، وليس خمسه فقط، وهي مسألة لا يستطيع حميري أن يجدها في كتاب الله.
ومن الأمور التي تبعث على الضحك ما قام به ذلك المسكين الذي حاول تبرير فعل أمير المؤمنين في عام الرمادة، فادّعى أن أمير المؤمنين لم يمارس أي سلطة على نصّ حدّ السرقة ولم يعطّله بتاتاً بل إنه فقط عمل بقول النبي صلى الله عليه وسلّم: (ادرؤوا الحدود بالشبهات)، وأن المجاعة كانت شبهة تكفي لدرء الحد مؤقّتاً. ترى لو أتحنا لكل حاكم تنفيذي من حكام هذه الأيام أن يبحث لكلّ حدّ عن شبهة يدرؤه بها، فهل سنشهد حداً من حدود الله ينفّذ على وجه الأرض؟
إن الحدّ الذي عطّله أمير المؤمنين رضوان الله تعالى عنه لا علاقة له بالمجاعة، فالحدّ لا يجب إلا في النصاب، والجائع لا يسرق نصاباً بل يكفيه دون ذلك بكثير. هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى فإن كلّ جريمة حصلت وتحصل وستحصل فوق سطح الكرة الأرضيّة لا بدّ وتجد خلفها شبهة ما. الغضب شبهة، والمرض النفسي شبهة، والفقر شبهة، والشهوة الجنسيّة شبهة، والمستوى التعليمي والثقافي شبهة، ونسبة الذكاء شبهة، بل وحتى حديث (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب (شبهة.
لم يبن الفقه الإسلامي على النصوص بقدر استناده على أساس التناول التطبيقي لتلك النصوص من قبل الأئمة العدنانيين المهديين، ولم يعتمد أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم في استنباط الأحكام الفقهية على النص المجرّد قدر اعتمادهم على تفاعل الأئمة العدنانيين مع هذا النص تفاعلاً عملياً يتجسّد النص من خلاله واقعاً حيّاً معاشاً ينطق بروح معانيه ومقاصده ويصوّر جوهر العدالة الإلهية الكامنة وراء رسم حروفه وكلماته. إن معظم الاختلافات المذهبية بين الفقهاء تدور حول تلك النصوص التي لم يرد عن أحد الأئمة العدنانيين الراشدين فيها قولاً أو فعلاً أو تفسيراً أو تأولاً ما، أو تلك التي ورد عنهم فيها أكثر من تأوّل أو تفاعل معها أكثر من إمام عدناني بطريقة مختلفة، وما ذاك إلا كون الأئمة العدنانيين هم المراجع الحقيقية لهذا الدين، وليست النصوص.
إن القرآن ليس مجرّد نص، بل هو أكثر من ذلك بكثير، وآيات الله سبحانه وتعالى وكلمته ليست مجرّد حبر وورق، بل إن الحبر والورق هم أكثر الأجزاء ضآلة وأقلّها أهميّة في كلام الله (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً). إن القرآن ليس بمخلوق، وكلام الله ليس كميّة من مادة صبغيّة مكبوبة فوق حفنة من لحاء الشجر، ومن قال بذلك فهو كافر كافر كافر خارج من الملّة.
تلك كانت خطّة المنافقين من أعراب حمير السائبة حول المدينة، ومن أهل المدينة الذين مردوا على النفاق، والذين بلغوا من الكثرة حداً لا يعلمه إلا الله، بل وحتى النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن يعرف أكثرهم، بل ربما كان بعضهم من رواة الأحاديث (لا تعلمهم نحن نعلمهم) فقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم يعتبرهم أصحابه، وحتى الذين أظهروا الكفر والنفاق منهم لم يقتلهم النبي حتى لا يشيعوا بين الناس بأن محمداً يقتل أصحابه تماماً كما أشاعوا أن زوجة محمد وابنة صاحبه زانية، لقد اختاروا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها خصيصاً دون نساء النبي صلى الله عليه وسلّم لأنها أحب نسائه إليه وابنة أحب أصحابه العدنانيين إليه، لأنها ابنة خليله العدناني ووزيره ومستشاره الذي لم يفارقه في حياته قط، فكان واضحاً لديهم أنه لن يخلف النبي صلى الله عليه وسلّم في إمامة هذه الملة غيره، فحاولوا استباق الأحداث والطعن في شرفه رضي الله تعالى عنه بغية النيل من الشرف العدناني برمّته، عليهم لعنة الله وملائكته والناس أجمعين أبداً إلى يوم الدين. ولكن أحقر وأنذل وأخبث مكيدة نصبوها لهذا الدين عندما حاولوا حصار كلام الله داخل لحاء مخلوق وحبر مصنوع، عندما حاولوا تحويل القرآن إلى مجرّد نصوص ميتة وعبارات لا تتحرّك إلا في الاتجاه الذي يوجهونها نحوه، عندما انتزعوا تلك النصوص من يد سدنتها الحقيقيين، وفصلوها عن مصدر قداستها وسبب حياتها وحراكها ومرجعية تفسيرها وتأويلها وحملة عهدها وحرّاس معانيها ومداد بقائها وخلودها والأمناء الحصريين على تبليغها وتعليمها وفهمها وتعقلها، بني عدنان بن إبراهيم عليهم وعلى جدهم أفضل الصلاة وأتم التسليم.
عندما حاولوا تدمير هذه الملة ونسفها من أسسها وانتزاعها من جذورها لم يجدوا وسيلة أخبث من الطعن في كلام الله والقول بأن القرآن لا يمثّله سوى تلك النصوص المكتوبة والمقروءة، هي فقط ما يعبّر عن إرادة الله ووحيه وشريعته، هي فقط ما يمثّل ملّة الإسلام، وأن كتاب الله لا يمثّله أشخاص معينون، ولا يقتصر فهمه على سلالة محددة من البشر، لا يمثّله سوى تلك العبارات التي بين دفتي المصحف. وفي ذلك محاولة خبيثة لتحويل هذه الملّة إلى مجرّد طلاسم نصيّة يسهل على كل منافق بن منافق التلاعب بها وطيها وعجنها وتشكيلها ولي أعناقها حسب ميوله وأهوائه، يسهل على كلّ يهوديّ متأسلم أو حميري منافق أو ابن راقصة قبطيّة سقط منها رأسه في شارع الهرم أو حتى ذلك البنغالي أو الهندي أو الجاوي الذي لم تبرأ أرومته بعد من عبادة بوذا أن يأتي ليمرر أجندته من خلال كتاب الله، فيقول: نحن نفهم هذا من كتاب الله ولا نفهم هذا من كتاب الله، نحن نجد هذا في كتاب الله ولا نجد هذا في كتاب الله، ولكن الله الذي لا يؤمن بوجوده المنافقون خدعهم من حيث ظنّوا أنهم يخادعونه، فبعد ساعة واحدة فقط من وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم فضحهم الله في سقيفة بني ساعدة.
إذا أردنا توزيع الإسلام بالتجزئة على الملل والنحل المحيطة فنمنح جزءً منه لنصرانية الأقباط وجزءً لوثنيّة حمير وجزءً لمجوسيّة فارس وجزءً ليهود الخزر وجزءً لبوذيّة الجاوة والهنود، أو إذا أردنا تدمير هذه الملّة بالكامل ومحوها من على سطح الأرض وتصويرها كأغبى وأتفه وأسخف الملل وأكثرها بهيميّة وسفاهة وتحويلها إلى مسخرة ومضحكة للأمم والشعوب؛ فعلينا انتزاع القرآن من يد سدنته الشرعيين وتأميم نصوصه للاستهلاك التأويلي، علينا تجريد الإسلام من روحه ومعناه وجواهر مقاصده وإرادة العدالة الإلهية الكامنة في عمقه والمتجسّدة في الحس الجمعي المعصوم لخالص أبناء المؤسس لهذه الملّة. وبمعنى أكثر تبسيطاً: علينا فصل القرآن العملي التطبيقي الذي تعبّر عنه حسيّاً وواقعيّاً ثقافة بني عدنان عن النص القرآني الذي نتعبّد به في صلاتنا، علينا فصل كلمة الله المتجسّدة عن كلمته المكتوبة. إذا نجحنا في تنفيذ هذه الجريمة وتمريرها على الناس دون شوشرة فإننا سنضمن ظهور فتوى رضاعة كبير جديدة كل يوم، وسنشهد مع كلّ إشراقة شمس تأسيس مذهب إسلامي جديد أو إنشاء شركة حميريّة أخرى لتفجير المؤخرات المحدودة، وطرحها للتداول والاكتتاب، هكذا يتكلّم المنافقون في كل سقيفة لبني ساعدة.
إن ثقافة بني عدنان هي أعظم معجزات هذه الملّة على الإطلاق، لقد انبثقت هذه الملّة من تلك الثقافة فلا يمكن أن تُفهم إلا من خلالها، نعم؛ إن ملّة الإسلام غير قابلة للفهم إلا من خلال الثقافة العدنانية، وأي محاولة لفصلها عن مصدرها وانتزاعها من أحضان أرومتها العدنانية ستؤدي بالضرورة الحتمية إلى تدميرها. إن معجزة الإسلام الحقيقيّة تكمن في كونه الدين الوحيد الذي لا يحتاج في بقائه واستمراره إلى اتصال دائم بالسماء، لا يحتاج إلى أنبياء كأنبياء بني إسرائيل يبعثون تباعاً على رأس كلّ جيل ليجددوا ما بلي منه ويصلحوا ما اهترأ وفسد وعفا عليه الزمن من أحكامه، لا يحتاج إلى إمام معصوم يتلقّى من السماء وحياً مستمراً يوجهه ويرشده إلى أنسب تفسير وتأويل لنصوص الشرع يتوافق مع متغيّرات الزمن ومستجدات الأحداث الظرفيّة، لا يحتاج إلى ولي أو وصي ملهم ينقل إلى الناس فحوى إرادة الله وجوهر عدالته ومقاصد شريعته مع كل متغيّر ظرفي تلتبس عليهم من خلاله تلك المقاصد وتشتبه لديهم فحوى تلك الإرادة وتقصر عقولهم عن استجلاب جواهر المعاني وروح العدالة الإلهية الكامنة خلف النصوص، الإسلام لا يحتاج إلى نبي مقيم في غرفة طوارئ الفتوى، لا يحتاج إلى بابا ولا فاتيكان، ولا قسس ولا رهبان، ولا خبر يأتي من السماء بحكم التعامل مع كل جهاز يتم اختراعه أو تقنية يتم ابتكارها أو قانون يتم اكتشافه أو بضاعة تنزل في الأسواق أو نظام اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي ينشأ ويسود على سطح الأرض أو ثورة فكرية تظهر في مكان ما من هذا الكوكب. الإسلام لا يحتاج إلى رجل دين معصوم يلعب دور السوبرمان المخلّص الذي ينتشل البشريّة من أوحال التيه والضياع والتشتت والانحراف الفكري والخلقي والسلوكي في كل زمان تتغير فيه الضرورات وتضيع المحكمات في زحمة المشتبهات وتتغيّر مفاهيم المباحات والمحظورات ولا يعرف الناس معروفهم من منكرهم. إن معجزة الإسلام الحقيقيّة تكمن في كونه الدين الوحيد الذي يأتي وحيه من الأرض لا من السماء، الدين الوحيد الذي لم يعد بحاجة إلى جبريل أو أي كائن فضائي آخر منذ اللحظة التي توفي فيها النبي صلى الله عليه وسلّم إلى قيام الساعة، لذلك كان نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم هو خاتم الأنبياء، فبعد محمد لم تعد البشريّة بحاجة إلى المزيد من الأنبياء، فقد كانت مهمّة محمد صلى الله عليه وسلّم هي إرشاد البشريّة إلى كلمة الله المتجسّدة في روح الثقافة العدنانيّة الإبراهيميّة، إلى تلك السلالة المعصومة التي لا يمكن لوحي سماوي أن يقوم مقامها في القيادة والتوجيه الثقافي العملي الأبدي للكائن البشري عبر مختلف العصور والأزمان. نعم؛ إن العصمة الوحيدة في الإسلام هي عصمة الشعور الجمعي لبني عدنان، عصمة الحس الاجتماعي العام لأبناء إبراهيم وأحفاده، لا عصمة لفرد واحد بعد اليوم، لا عصمة لشخص بعينه مهما بلغ من الغاية في الصلاح والتقوى والاستقامة، لا عصمة إلا للإجماع العدناني العام، للثوابت الثقافية العدنانيّة التي لم تتغير ولم تتبدّل منذ خلق الله الأرض إلى يومنا هذا، بالرغم من الشذوذ الفردي والانحراف الشخصي لهذا الفرد من بني عدنان أو ذاك، بل وبالرغم من انسلاخ عشيرة عدنانيّة بأكملها من بوتقة الإجماع العدناني، أو خروج قبيلة كاملة كقبيلة قريش من أحضان الملّة الإبراهيميّة، إلا أن الثقافة العدنانية الأم وثوابتها بقيت معتصمة في موطنها الأصلي، في هضبة نجد وصحرائها، متمسكة بأرومتها، متحنفة منعزلة بروحها الفطريّة المقدّسة عن كل مصدر للتلوث الحضاري والثقافي والفكري والنفسي والأخلاقي، تلك الصحراء التي انتخبها الله تعالى دون بقاع العالم ليجعلها أرض رسالته الأولى وكلمته الأبدية وإرادته المتجسّدة في أهلها، فأخرج منها سبحانه وتعالى أعظم رسله وأنبيائه على الإطلاق، خليله وحبيبه إبراهيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، أبا الملل جميعها بكتبها ورسلها وأنبيائها، ووالد كل الديانات السماوية التي ظهرت في هذا الكوكب، ثم أعاد الله إليها ذريّته المباركة، إسماعيل وعيسو، كي يخرج من صلبهم سلالته المقدّسة وشعبه العدناني المختار الذين أودع سبحانه في أرومتهم سرّه الأعظم وجسّد بثقافتهم كلمته وروحه تمشي حيّة على الأرض. إن الثقافة العدنانية النجديّة هي الوحيدة التي بقيت تعبّر عن الإجماع العدناني العام المعصوم عصمة تفوق عصمة الأنبياء والرسل والأولياء والأوصياء والقسس والرهبان وجميع البابوات ورجال الدين، هي الثقافة الوحيدة التي لم يطرأ عليها أدنى قدر من التغير والفساد على امتداد حقبات التاريخ الإنساني بأسره وحتى ساعة كتابة هذه السطور.
يقول النبي صلى الله عليه وسلّم: (لا تجتمع أمّتي على ضلالة)، وفي لفظ آخر: (لا تجتمع هذه الأمّة على ضلالة). عن أي أمة كان يتحدّث عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم؟ هل كان يقصد كل من سمّى نفسه مسلماً وهو لا يملك من الإسلام أكثر من تلك العبارة المكتوبة في جواز سفره (الديانة مسلم)؟ ما المقصود بكلمة "أمّه" في هذا الحديث؟ هل هي تلك الفسيفساء من المخلوقات الذين اصطلحوا على تسمية أنفسهم بـ "الأمّة الإسلاميّة"؟ ترى هل اجتمعت هذه "الأمّة الإسلامية" على أمر واحد قط منذ استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه وحتى اليوم؟ إذا ابتدأنا من العقيدة والتوحيد وتدرّجنا نزولاً إلى فقه العبادات ثم المعاملات ثم الحقوق والواجبات فالمباحات والمحظورات فما جرت عليه الأعراف والعادات حتى ننتهي بأبسط المفاهيم والتعريفات كتعريف الإرهاب والمقاومة والانتحار والاستشهاد والديموقراطيّة والشورى والحجاب والنقاب وسماع الموسيقى ونتف الحواجب وأيّام الصيام والأعياد والفرق بين قبلة الزنى وقبلة اللمم، ترى هل يمكننا العثور بين كل تلك الأكوام من القضايا والمسائل على أمر واحد اجتمعت عليه تلك "الأمّة الإسلامية"؟
ألم تجتمع أمّة الإسلام المجوسي حول الخميني، وأمة الأقباط المسلمين حول شعبان عبد الرحيم، وأمّة الجاوة والهنود وبقيّة مسلمي بوذا حول محمد علوي مالكي وجماعته، وأمّة الأعراب السائبة حول المدينة من مسلمي حمير حول إمام المؤخّرات المفخخة؟ وإذا كان الأمر حسب الأغلبية؛ فترى أي أولئك الفرقاء أكثر عدداً؟ وهل يجب أن نذهب بتلك "الأمّة الإسلامية" إلى صناديق الاقتراع لنعرف من خلالها أي أمورنا حق وأيها ضلالة؟!
(لا تجتمع أمتي على ضلالة) ألا يبدو أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يتحدّث عن أمّة معصومة؟ أليس من المثير لأقصى وأشدّ نوبات الضحك والقهقهة أن نتحدّث عن تلك الكائنات التي تسمّي نفسها بـ "الأمّة الإسلامية" على أنها أمّة معصومة؟؟؟!
إذا أردنا أن نفهم المقصود بعبارة "أمّة" في كل من قول الله تعالى: (كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) وقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)، فعلينا أولاً أن نفهم المقصود بعبارة "المؤمنين" ومصطلح "الأيمان" في كل من قول الله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيراً) وقوله تعالى: (قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم)
لا تجتمع هذه الأمّة على ضلالة، لأن إجماع هذه الأمة معصوم عن الضلال، ليست أمة المسلمين الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم (والظاهر أنه لن يدخل أبداً)، ليست أمّة المسلمين من أعراب حمير السائبة حول المدينة، وليست أمّة أهل المدينة الذين مردوا على الإسلام، إنها أمّة المؤمنين من بني عدنان الذين لم يسلموا خوفاً من قطع الرقاب أو طمعاً في شرف مزيّف ومجد مزوّر أو رغبة في أموال الخراج أو البترول، إنها أمّة المهاجرين من بني عدنان الذين آمنوا وقت كان الإسلام غريباً طريداً ذليلاً مهاناً مضطهداً محتقراً منبوذاً ومضيّقاً عليه في مكّة، ثم هاجروا في سبيل الله تاركين خلفهم جميع ما يملكونه من متاع الدنيا غير نادمين أو متحسّرين، ثم جاهدوا في سبيل الله وقت كانت معالم النصر لا تبدو للمخلّفين من أهل المدينة أكثر وضوحاً من معالم الهزيمة.
لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة لأنها خير أمة أخرجت للناس، لأنها لم تأمر بالمعروف ولم تنه عن المنكر قبل أن تؤمن بالله، لأن الله جعلهم أمّة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، أي أئمة، أي قادة، أي مشرفين، أي مراقبين، أي معلمين وهادين ومبشرين وموجهين ومقومين وقدوة للعالمين.
لا تجتمع أمّة المؤمنين على ضلالة لأنها أمّة معصومة، أمّا أمة المسلمين فحدّث ولا حرج. ذلك ما قصده أمير المؤمنين رضوان الله تعالى عنه وصلواته عندما قال: (فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يُقتلا)، هو في الحقيقة كان يقصد المؤمنين وليس المسلمين، المؤمنين الذين اجتمعوا في مسجد رسول الله بعد وفاته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وليس المسلمين الذين اجتمعوا بعيداً هناك في سقيفة بني ساعدة. وهو ذات ما أشار إليه عبد الرحمن بن عوف عليه رضوان الله وصلواته بقوله: (يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كلّ مطيّر، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها. فامهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنّة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكناً فيعي أهل العلم مقالتك ويضعوها على مواضعها)، فهذا الأمر وهذه المقالة ليست للاستهلاك الحميري، لا تصلح للطرح أمام أمّة المسلمين الذين كانوا مجتمعين في منى من رعاع الناس وغوغائهم، فأمّة المسلمين برغم كثرتها العددية المهولة إلا أنها تبقى غثاءً كغثاء السيل، لا قيمة لها في ميزان الله ولا مقدار، ولا تؤهلهم أعدادهم الفلكيّة مهما عظمت أن يصبحوا من أهل الحل والعقد وإبداء الرأي والمشورة في أمر مصيريّ كالخلافة، إن أمّة المسلمين غير معصومة، فهم رعاع غوغاء، سفهاء أغبياء، لا يعون معاني الكلمات بل يضعونها في غير مواضعها ويطيرونها كل مطير. إن أمّة المسلمين غير معصومة من الاجتماع على ضلالة، بل هي لا تجتمع إلا على ضلالة، لا تجتمع إلا على هيفاء وهبي أو قناة الجزيرة أو حسن نصرالله أو خالد مشعل أو القذّافي أو أسامة بن لادن أو حليمة إبنة المظفّر بولند أو عمرو خالد أو الحبيب الجفري أو عائض القرني أو ما شاكل ذلك من أرجوزات مسلسل بيني وبينك. أما العصمة فهي محصورة في أمّة المؤمنين، الذين كان يمثّلهم في ذلك الزمان والمكان أولئك المهاجرين من ذرّية إبراهيم، من ولد عدنان، من قرابة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ففي ذلك الزمان والمكان كانوا هم فقط أهل الهجرة والسنة وأهل الفقه والعلم والوعي والفهم والإيمان، كانوا هم أشراف الناس، هم فقط أهل الشورى وأهل الحل والعقد وممثلي الأمّة المعصومة، أمّة المؤمنين من ولد عدنان.
(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيراً)، لقد قرن المولى عزّ شأنه مشاقّة الرسول بالخروج على سبيل المؤمنين، بمشاقّة ثوابتهم الثقافيّة، بالطعن في قيمهم ومبادئهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ومثلهم الاجتماعية وعقيدتهم وفلسفتهم وأيديولوجياتهم، سبيل المؤمنين وليس سبيل المسلمين، وهو أمر إن دل على شيء فليس سوى عصمة الشعور الجمعي للمؤمنين من أمّة محمد صلى الله عليه وسلّم، المؤمنين الذين سمّاهم أميرهم عمر ابن الخطاب رضوان الله تعالى عليه وصلواته بالمسلمين في قوله: (فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يُقتلا)، وأشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله: (لا تجتمع هذه الأمّة على ضلالة)، وقصدهم المولى عز وجل بقوله: (كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) وقوله: (وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) ثم حددت معالمهم الآية الكريمة (قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم)، وفصّل تلك المعالم عبد الرحمن بن عوف رضوان الله تعالى عليه وصلواته في قوله: (يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كلّ مطيّر، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها. فامهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنّة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكناً فيعي أهل العلم مقالتك ويضعوها على مواضعها)، وزادها خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم تفصيلاً في قوله: (ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً)، وكان خليل الله وحبيبه إبراهيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم قد أوضح في وقت سابق ماهيّة هذا النسب ومرجعيّته عندما قال: (وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام. ربّ إنهن أضللن كثيراً من الناس، فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنّك غفور رحيم. ربنا إني أسكنت من ذرّيتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون. ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء. الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق، إن ربي لسميع الدعاء. رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي، ربنا وتقبّل دعاء). ولكي لا يكون لأحد المنافقين حجّة على الله فيدّعي بأنه لم يجد في كتاب الله شيئاً عن السلالة المقدّسة أو الشعب المختار، أو يقول آخر أن البنوّة لإبراهيم تحصل لكل من كتب في جواز سفره (الديانة مسلم) وأن إبراهيم أبٌ لجميع تلك الكائنات الذين يسمون أنفسهم بـ "الأمّة الإسلامية"، لأجل ذلك قطع الله سبحانه وتعالى جميع السبل في وجه أولئك المنافقين عندما خصص عبارات مثل "ذرّيتي" ذريّته" "ذريّتهم" "ذريّتهما" ليصف بها في كتابه تلك السلالة المقدّسة المختارة من فوق سبع سماوات لقيادة البشرية دينيّاً وفكريّاً وثقافيّاً إلى يوم القيامة، وكلمة "ذريّة" لا تعني -في جميع لغات البشر- سوى النسل الجيني، السلالة البيولوجيّة. يقول المولى عزّ وجل: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب، وجعلنا في ذريّته النبوّة والكتاب) ويقول تعالى: (إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين. ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم) ويقول تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريّتهما النبوّة والكتاب) ويقول تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهن، قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريّتي قال لا ينال عهدي الظالمين. وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى، وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركّع السجود. وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر، قال ومن كفر فأمتّعه قليلاً ثم أضطرّه إلى عذاب النار وبئس المصير. وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربّنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا منا سكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم. ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلا من سفه نفسه، ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين. إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين. ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون. تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عمّا كانوا يعملون. وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين. قولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيّون من ربّهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولّوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم. صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون. قل أتحاجّوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون. أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله؟! ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عمّا تعملون. تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عمّا كانوا يعملون. سيقول السفهاء ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)
(فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم). أي تعبير في كتاب الله أكثر وضوحاً من ذلك؟ أي حقيقة أكثر جلاءً من أن الله جلّ شأنه أراد أن يجعل من أبناء إبراهيم مجتمعاً ثقافيّاً نموذجيّاً تقتدي به جميع أمم الأرض، مجتمعاً معيارياً مثالياً تضبط بقيّة الشعوب ثقافاتها وسلوكيّاتها وقناعاتها على منواله، لذلك مركزهم الله سبحانه وتعالى في تلك البقعة الجغرافيّة التي تلتقي فيها جميع فصائل الكائن البشري، وتهوي إليها أفئدة جميع ولد آدم على مدار العصور والأزمان دون توقّف. أي حقيقة أوضح من أن الله أراد أن يقيم في هذه البقعة المركزيّة من العالم مؤسسة فكريّة عالميّة تعمل بطريقة آليّة على إمامة البشريّة، على قيادة الإنسانية وتوجيهها وضبطها وتقويمها فكريّاً وسلوكيّاً، على إدارة الحياة الثقافيّة في هذا الكوكب إلى الأبد. لم يجعلها الله سبحانه وتعالى مؤسسة عسكريّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة صرفة، ولكنّه صممها لتكون مؤسسة ثقافيّة بالدرجة الأولى، نموذجاً سلوكيّاً عمليّاً تتجسّد فيه معايير الإنسانية الحقّة تجسّداً تطبيقيّاً واقعياً.
في آخر حجّة حجّها النبي صلّى الله عليه وسلّم هبط من السماء على قلبه خبران ختم الله بهما رسالة محمد فلم ينزل عليه بعدها من الله شيء، آية وحديث كانوا آخر ما تفوّه به من دين الله فلم يمكث بعد ذلك ثمانين يوماً حتى وافته المنيّه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
في يوم الجمعة عشيّة الوقوف بعرفة؛ أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نبيّه هذه الآية: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). ثم ما كاد موسم الحج أن انتهى حتى قام صلى الله عليه وسلم في الناس خطيباً قرب غدير خم ليبيّن لهم كيف أكمل الله سبحانه وتعالى لهم هذا الدين، فقد روى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خمّاً بين مكّة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فبكم ثقلين أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه، ثم قال وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي) فقال له حصين بن سبرة فمن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس، قال كل هؤلاء حرم الصدقة قال نعم.
وروى النسائي في السنن الكبرى والحاكم في المستدرك عن زيد بن أرقم قال: (لمّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من حجّة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقمن فقال: كأنّي قد دُعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله تعالى وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، ثم قال إن الله عزّ وجلّ مولاي وأنا مولى كلّ مؤمن، ثم أخذ بيد علي رضي الله عنه فقال من كنت مولاه فهذا وليّه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين.
ورواه الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حجّته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول: (يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي)، كما رواه عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (إني تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما (
كما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) وهذا نص أبي إسحاق الملائي عن عطية العوفي عن أبي سعيد، ومن طريق آخر عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا بم تخلفوني فيهما (
والحديث متواتر فقد رواه عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم كزيد بن ثابت وأبو ذر الغفاري وحذيفة بن أسيد بالإضافة إلى زيد بن أرقم وجابر بن عبد الله رضوان الله عليهم، وأسانيده جيدة بما أوردناه من ألفاظ وعبارات إلا لفظ مسلم الذي تفرّد به دون غيره من رواة السنّة، وهو بذلك لا يدخل في دائرة التواتر، بل إن نصّ مسلم لا يستقيم في معناه ولا يتوافق مع النصّ المتواتر عند الرواة والذي يشرح المقصود بأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلّم، فمن أبعد درجات الاستحالة أن يكون المقصود بأهل البيت في هذا الحديث نساء النبي صلى الله عليه وسلّم أو عشيرته الهاشميّة من آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس أو أحد من أبناء عبد المطلب وأحفاده، ومن المستحيل أيضاً أن يقصد بها قريش؛ القبيلة التي ينتسب إليها النبي صلى الله عليه وسلّم رسميّاً. لماذا؟
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم يتحدّث عن أهمّ أصول هذا الدين على الإطلاق، يتحدّث عن المصدر التشريعي الوحيد الذي سيبقى بعد وفاته عليه السلام خالداً مخلّداً أبديّاً لا يحصل فيه انقطاع أو غيبة أو أدنى قدر من الاضطراب والفساد، كان يتحدّث عن مصدر تشريعي معصوم يقوم مقامه في تبليغ الناس إرادة الله وتعليمهم شرعه وأمرهم بمعروفه ونهيهم عن منكره، يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلّم في تأويل كلام الله وتفسير آياته والقوامة على عقيدته والتعبير عن إرادة العدالة الكامنة خلف نصوصه، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم يلقي في الناس خطبة مودّع، خطبة شخص حانت ساعة وفاته فجمع الناس ليدلّهم على المصدر البديل الذي يجب أن يأخذوا منه دينهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم، المصدر الذي سيتولّى عنه مهمة الشهادة والمراقبة والإشراف الديني والعقائدي والثقافي على الناس بعد وفاته عليه الصلاة والسلام (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً). في المسيحية كان عيسى عليه السلام شهيداً على الناس في عين حياته، أما بعد وفاته فانتقلت الشهادة إلى الله وحده (وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم، فلمّا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد) أما في الإسلام فالذين كانوا شهداء على الناس في عين حياة النبي ظلّوا كذلك بعد وفاته (ملّة أبيكم إبراهيم، هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا، ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس (
إنهم العترة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلّم (كتاب الله وعترتي) ولكن أي عترة بالتحديد؟ هل من المعقول بحال أن يقرن الله سبحانه وتعالى العترة البيولوجية لنبيه عليه السلام مع كتاب الله بهذه الطريقة؟ وما دخل العترة البيولوجية بكتاب الله؛ بقيام هذا الدين وتأسيسه وفهم جوهره وتأويل نصوصه واستيعاب روح معانيه ومقاصده والذود عنه وتبليغه وحفظه وحمايته ونشره وتسويده وتمكينه في الأرض؟ وهل كان لزوجات النبي صلى الله عليه وسلّم وبناته وأبناء عمومته وعشيرته البيولوجية ذلك الدور المحوري الجوهري في هذا الدين للحد الذي يجعلهم ركناً أساسيّاً من أركانه، دور لم يستطع أحد غيرهم تأديته سواءً في عين حياة النبي صلى الله عليه وسلّم أم بعد وفاته؟ وهل كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلّم دعوة بيولوجية عشائرية إلى بني هاشم أم دعوة عقائدية دينية إلى ملّة إبراهيم؟
ألا يبدو أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يتحدّث عن عترة دينيّة عقائديّة لا يمكن أن يستقيم هذا الدين أو يكون له أي معنى إلا من خلالها؟ ألا يبدو أنه يتحدّث عن عترة ملتصقة بكتاب الله التصاقاً يفوق في شدّته التصاق التوأم السيامي الذي لا يقبل الفصل بحال، وأنه لو تمّ فصل تلك العترة عن كتاب الله مات الاثنين معاً؟ ألا يعني ذلك أنها عترة أبديّة التواجد في هذا الكوكب ودائمة الحضور في كلّ زمان حتى قيام الساعة؟ ألا يلزم من هذا الكلام أنه لو حصل غياب لهذه العترة في زمن من الأزمان أو انقطاع في سلالتها أو اختلاط نوعي في نسبها يؤدي إلى حدوث فساد في أرومتها أو تفكك لثقافتها أو تغير في عقيدتها وأيديولوجيتها فسينعكس ذلك بالضرورة على كتاب الله وعلى دينه بشكل عام؟ ألا يلزم أن تكون هذه السلالة معصومة مقدّسة منزّهة سامية الأصل نبيلة المنبت، لا تشبهها سلالة بشرية في هذا الكوكب، بل وليست مخلوقة من نفس الطينة التي خلق منها بقيّة البشر، فهي لا يمكن أن تجتمع على ضلالة (إني تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) لأنها لو فعلت واجتمعت على ضلالة لانتهى أمر كتاب الله، توأمها السيامي؟
(اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) ألا يعني ذلك أنه لا يجوز لأحد من البشر تناول نص من كتاب الله بالاجتهاد أو القياس بعد هذه الآية؟ أليس الاجتهاد والقياس أنواع من الإضافة والإكمال لدين الله؟ أليس من قال بالاجتهاد والقياس يدّعي ضمنيّاً بأن دين الله ناقص وأن هنالك من الأحكام ما لم توضّحه وتبيّنه آيات الله فوجب بذلك القياس عليها والاجتهاد فيها؟! وإذا كان الأمر كذلك فماذا نعمل في تلك المليارات من الأمور التي استجدّت ولا زالت تستجدّ في حياة البشر بعد هذه الآية؛ والتي لا يجدون لها نصّاً واضحاً صريحاً يبين حكمها سواء في كتاب الله أو في أحاديث رسوله؟ ألا تدل هذه الآية على أن كمال الدين لم ولن يتحقق يوماً من خلال النصوص فقط؟ ألا يبدو الآن واضحاً أن هذه الآية لا يستقيم فهمها إلا من خلال حديث العترة، أي أن كمال الدين لا يحصل إلا باتّحاد شقّيه، الكتاب والعترة (إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)؟ وأخيراً؛ ألا يعني ذلك أن الاجتهاد والقياس جحر مقصور ووقف حصري بتلك العترة، وأنه لا يجوز التصدي لهذه المسألة إلا من قبل تلك العترة، لا يجوز لمخلوق أن يتناول شيئاً من هذا الدين بالاجتهاد أو القياس ما لم يكن منتسباً لتلك العترة، وما لم يكن اجتهاده متوافقاً مع الحس الاجتماعي -أو ما يسمّى بالضمير الجمعي- لتلك العترة، أي مع الإجماع العام لأفرادها الذين تعهّد الله من فوق سبع سماوات أن لا يجمعهم على ضلالة؟
ألا يعني هذا الكلام أنه لو حصل في زمن من الأزمنة ضياع لتلك العترة وتشتت لشملها وتفرّق لجمعها وتميع لعقيدتها وتحلل لثقافتها وعدم اجتماعها حول مذهب واحد ودين واحد وعقيدة واحدة وفلسفة واحدة وإمام واحد؛ ألا يعني ذلك بالضرورة توقف العمل بكتاب الله وتعطّل جميع أحكام الدين إلى إشعار آخر؟ وإذا جاز لتلك العترة أن يحصل معها مثل هذا الأمر فأين ذهب قول المولى عزّ وجلّ: (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون)، وقوله: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم)؟ ألا يستلزم الحفاظ على هذا الذكر الحفاظ على حمَلته أيضاً؟ وكيف ييئس الذين كفروا من هذا الدين إذا تمكّنوا من انتزاع روحه من جسده، إذا تمكّنوا من فصل الكتاب عن العترة؟
ترى هل يمكن أن تنطبق شروط هذا النوع من العترة على أولئك الذين سمّاهم زيد بن أرقم من أهل البيت؟ هل كان النبي صلى الله عليه وسلّم يتحدّث عن عترة بيولوجيّة هاشميّة؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا حصرهم زيد بن أرقم في آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس فقط؟ لماذا لم يدخل معهم آل أبي لهب؛ الفضل بن أبي لهب ومعتب ابن أبي لهب وعتبة بن أبي لهب وعبّاس بن عتبة بن أبي لهب وآلهم، فكلّهم قد أسلموا والتحقوا بجيوش المجاهدين في سبيل الله؟ بل لماذا لم يضمّ معهم إخوة النبي صلى الله عليه وسلّم من الرضاعة كآل عبد الله بن الحارث السعدي أخو النبي صلى الله عليه وسلم من حليمة السعديّة، وآل مسروح بن ثويبة مولاة أبي لهب التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلّم من لبنه، بل وأسامة بن زيد بن حارثة حيث يعتبر هو أيضاً أخاً للنبي صلى الله عليه وسلًم بالرضاعة من ثويبة، أليس هؤلاء أيضاً من آل البيت البيولوجي؟
أين هؤلاء الذين ادّعى زيد بن أرقم بأنّهم العترة المقصودة في هذا الحديث؟ أين هم اليوم؟ هل يمكن العثور لهم على عقيدة واضحة، ثقافة معلومة الملامح، مذهب يتفقون عليه، أيديولوجية تميزهم، رأي يوحدهم، أرض تلمهم أو أمير يجتمعون حوله؟ هل يمكن تعريفهم بهوية ما، بلون بشرة، بملامح وجه، أو حتى بلغة أو لهجة خاصة بهم؟ ترى في أي مكان نستطيع العثور على ضميرهم الجمعي، على اجتماعهم المعصوم؟ أو إلى أي انتماء مذهبي أو فكري أو ثقافي ينتمي معظمهم، إلى الشيعة أم الصوفيّة أم القاعدة أم الإسماعيلية أم العلمانية أم الليبرالية أم الماسونية أم اللادينية؟
ترى كم مذهب وعقيدة وديانة اعتنقها آل عباس عندما كانوا في سدة الحكم؟ ألم يتنقلوا بين السنة والاعتزال والتشيع والتصوف والإرجاء؟ ألم يختلطوا عرقياً وثقافياً بالفرس والروم والترك والهنود بل وحتى حمير والأقباط والزنج حتى ضاعت جميع معالم ثقافتهم وذابت وتلاشت في بحور تلك الثقافات الوثنية؟ ترى كم خليفة من خلفاء بني العباس لم تلده أمة أو غانية أو وصيفة؟ وماذا عن آل علي وآل جعفر وآل عقيل وغيرهم؟
ترى هل حدث يوماً أن سأل أحد من الشيعة أو المتصوّفة نفسه أحد الأسئلة التالية:-
ماذا لو كان النبي صلى الله عليه وسلّم يقصد بالعترة أولئك الذين لم تقم لهذا الدين من قائمة إلا على أكتافهم ولم تغرس دعائمه إلا بسواعدهم ولم يكن ليكتب له شيء من البقاء والاستمرار إلا من خلال وقوفهم إلى جانبه بدمائهم وأموالهم وأبنائهم وبناتهم منذ اللحظة التي سمع النبي صلى الله عليه وسلّم فيها من جبريل كلمة "إقرأ" وحتى سقوط امبراطوريتي الروم وفارس تحت أقدامهم وفتح بيت المقدس بأيديهم؟
هل يوجد احتمال بأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقصد بالعترة من أهل بيته أولئك الذين تزوج النبي صلى الله عليه وسلّم من بناتهم بل كان بناتهم أعزّ وأحب نسائه إلى قلبه، أولئك الذين لم يكن النبي صلى الله عليه وسلّم يستند في أمر من أمور هذا الدين ويتكيء ويعتمد إلا على آرائهم ومشورتهم ونصائحهم وصدقهم وإخلاصهم وولائهم، أولئك الذين صدّقوه حين كذّبه الناس وآمنوا به حين كفر به الناس ووقفوا بجانبه حين تخلّى عنه الناس وحاربوا قومهم من أجله وهاجروا من أوطانهم وتغربوا وتمرمطوا في سبيل هذا الدين يوم كان الإسلام ضعيفاً طريداً منبوذاً غريباً محتقراً مهاناً مسفهاً ذليلاً مدفوعاً بالأبواب تكالبت عليه جميع من حوله من الأمم والشعوب والقبائل وحتى سائبة الأعراب كما تكالب الأكلة على قصعتها، تحمّلوا معه الذل والتعذيب والاضطهاد والتكذيب في مكة ثلاثة عشر عاماً دون أن يكلّوا أو يملّوا أو يصيب إيمانهم ضعف أو وهن أو شيء من التشكك، هاجروا معه خفية واختبئوا في ذلك الغار الذي لم يحل فيه بينهم وبين الموت سوى بيت عنكبوت، تنازلوا من أجله عن أهلهم وعشيرتهم وأموالهم وممتلكاتهم وجاءوا بآخر ما كانوا يملكون في هذه الدنيا ليضعوه بين يديه، وعندما سألهم ماذا تركتم لأهلكم قالوا تركنا لهم الله ورسوله؟
أليس من بديهيات العقل والنقل والفطرة السليمة ألا ينصرف معنى العترة في هذا الحديث إلى النساء والأطفال والذراري الذين كانوا عالة على النبي أكثر منهم سنداً وعترة ودعامة له ولدينه؟ ألا يبدو واضحاً أنه كان يتحدّث عن عترة خاصّة مميّزة، عترة دينيّة عقائديّة، عترة أكثر سموّاً من معناها الحيواني، عترة أكثر قدسيّة ونزاهة من مقتضيات الجسد وعواطفه الطبيعيّة كحنوّ الرجل فطريّاً وطبيعيّاً على زوجاته وبناته وأحفاده وأبناء عمومته؟
أليس من بديهيات العقل والنقل والفهم السليم أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقصد بالعترة تلك الخلاصة الخالصة من مؤمني بني عدنان الذين كانوا أوّل من آمن برسالته وهاجر معه من مكّة وكانوا هم وحدهم من التصق بكتاب الله التصاقاً شديداً يفوق التصاق التوأم السيامي غير القابل للفصل، التصاقاً يظهر جليّاً في كل سبب من أسباب نزول آيات الله، بل إن القرآن نزل مصدّقاً لآرائهم ومشوراتهم ونصائحهم للنبي صلى الله عليه وسلّم في كثير من المواضع، وهي مسألة لم تحدث أبداً مع غيرهم؟ ألا يبدو جليّاً أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقصد بالعترة تحديداً أبا بكر وعمر، الرجل الذي لم يسم النبي صلى الله عليه وسلّم أحداً غيره بالصدّيق، والرجل الذي لم يسم النبي صلى الله عليه وسلّم أحداً غيره من البشر بالفاروق؟ ما معنى الصدّيق والفاروق؟
(اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) ألم تتحقق هذه الآية بحذافيرها في سقيفة بني ساعدة؟ ألم يكن اجتماع السقيفة برمّته يدور حول النيل من هذا الدين بنفس الطريقة التي حذّر النبي صلى الله عليه وسلّم منها في قوله: (إني تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) ألم يف الله سبحانه وتعالى بوعده في هذه الآية وهذا الحديث عندما يئس منافقو السقيفة من الفصل بين كتاب الله وعترته، عندما ألهم سبحانه تلك العترة بانتزاع حقّها وحقّ الله بالقوّة من أيدي منافقي حمير؟
وماذا بعد السقيفة مباشرة؟ ألم ترتدَّ حمير عن بكرة أبيها بل وتهاجم المدينة وتحاول الاستيلاء عليها وإنهاء قصة الإسلام إلى الأبد، لم يمنعوا الزكاة فحسب بل ارتدّوا نهائيّاً عن الإسلام؟ ومن الذي بقي منهم على الإسلام سوى من كان متواجداً في المدينة بحكم موطن الإقامة الذي ليس لهم غيره، فاضطروا للرضوخ تحت إمرة تلك العترة التي لولاها لما كان الإسلام اليوم مسجّلاً ضمن قائمة الأديان المعترف بها في الأمم المتحدة؟ ألم تتواتر الروايات بأن أبا بكر الصدّيق رضوان الله تعالى عليه وصلواته حاول تذكير المنافقين بحديث الثقلين عندما ارتفعت أصواتهم في سقيفتهم مطالبين بالخلافة، فصاح في وجههم رضوان الله تعالى عنه قائلاً: (نحن عترة رسول الله التي خرج منها وبيضته التي تفقّأت عنه)؟ ولكن لا حياة لمن تنادي (فإنما يذّكر أولو الألباب (
كيف تقولون بأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان له أبناء؟ وأين تذهبون بقول الله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم)؟ ولكن ماذا عن الحسن والحسين، أليسوا أبناء محمد؟ ألا تعني هذه الآية أن هنالك فرق مهول بل وليس هنالك أي علاقة بين أبناء محمد وأبناء إبراهيم، بين ذريّة محمد وذريّة إبراهيم، فذريّة إبراهيم ذريّة نبوية مقدّسة حمّلها الله عهده بعد أبيهم (وجعلنا في ذريّته النبوّة والكتاب) أما النبوّة فهي في أبناء يعقوب، وقد انقطعت وتوقّفت إلى الأبد، وأمّا الكتاب فهو في ذريّة إسماعيل وعيسو باقٍ إلى يوم القيامة (كتاب الله وعترتي)، ولكن ذريّة محمدٍ ليست كذلك، فما كان محمد أبا أحد من رجالكم، فالأبوّة المقصودة هنا هي الأبوّة النبويّة، وإلا فإن محمداً هو أباً للحسن والحسين، ولكنّه صلى الله عليه وسلّم ليس كإبراهيم، أبوّته البيولوجيّة ليست نبويّة، ليست كأبوّة إبراهيم، آل محمد ليسوا كآل إبراهيم، آل محمد ليسوا أبناءه البيولوجيين، آل محمد هم عترته من صفوة المؤمنين، هم أهل بيته العدناني، هم سند رسالته الحقيقيين، هم ذراعيه الأيمن والأيسر الذين لم يكن يعتمد على أحد غيرهم في أمر من أمور دعوته، هم جهازه التنفيذي، هم مجلسه الاستشاري، هم خاصّة وزرائه الذين لم يكن عليه الصلاة والسلام يقدم على أمر من أمور الدعوة قبل طرحه أمامهم وتداوله معهم، هم أبو بكر وعمر، شاء من شاء وأبى من أبى (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملّة أبيكم إبراهيم، هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا، ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتو الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير)، آل محمد هم المؤمنون من حملة العهد الإبراهيمي، من آل إبراهيم (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) الظالمين فقط، أي المشركين، أي المنحرفين، أي الشاذّين الخارجين عن الإجماع العدناني المعصوم (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيراً (
أين عليّ من هذه الدعوة؟ ماذا فعل عليّ للإسلام مقارنة بما فعله أبو بكر وعمر؟ كان أوّل من أسلم من الصبيان! ألا ليت شعري متى كان لطفل في الثامنة من عمره خيار في دينه، لعمري ما الذي كان يعيه عليّ رضي الله تعالى عنه وهو في تلك السن عن إيمان أو كفر؟ لقد كان ربيباً للنبي صلى الله عليه وسلّم، يعيش معه في بيته وكأنّه ابنه، والطفل إن أمره أبوه بالنطق بالشهادتين فعل وهو لا يعي لذلك معنى.
نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلّم يوم هجرته! نعم لقد كان يحبّ النبي صلى الله عليه وسلّم، فهو ربيبه، مثله في ذلك مثل زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه، ألم يكن زيد مستعدّاً هو الآخر للتضحية بروحه من أجل النبي، تلك مسألة بيولوجيّة بحتة، لا دخل لها في دين أو ملّة أو إسلام أو كفر، فمن منّا ليس مستعدّاً للتضحية بروحه من أجل ربّ نعمته، بل وحتى البهائم تفعل ذلك، بل وحتى الكلاب التي يتهمونها بأنها تعض اليد التي تمتد لها، هي في الحقيقة ليست كذلك، وإن وجد منها ما يفعل ذلك فهي فصيلة شاذة مشوّهة جينيّاً تستعرّ بقية الكلاب منها، كتلك الفصيلة التي كان يتحدث معهم الأمير محمد بن نايف عليه وعلى جدّه أفضل الصلاة وأتم التسليم، والذين كان يخاطبهم بقوله (أنتم عيالنا) ثم حمل أحدهم بطائرته الخاصّة واحترمه وأكرم مثواه فجازاه بأن فجّر إسته في وجهه الشريفة، ليخرج منها ابن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما خرج جدّه من حفرة اللهب بعد أن أمرها ربّ إبراهيم وذريّته بأن تكون برداً وسلاماً.
تلك فصيلة شاذّة من الكلاب لا يمكن التقعيد عليها، بل القاعدة عكس ذلك، فالكلاب من أشهر الحيوانات وفاءً وإخلاصاً لأرباب نعمتها. وبعيداً عن ذكر تلك الكائنات الحميرية النتنة نعود لموضوع العترة فنقول:
أين وقفات علي بن أبي طالب رضي الله عنه الدعوية؟ أين آراؤه ونصائحه ومشوراته التي كان لها أثراً نوعيّاً في مسيرة هذا الدين؟ ومتى اعتمد النبي صلى الله عليه وسلّم على علي في قضية دعوية مصيرية كتلك التي كان يتصدّى لها أبو بكر وعمر؟ بل والأكثر من ذلك؛ ألم يظهر عليّ رضي الله تعالى عنه في عدد من المواقف رعونة وطيشاً ويضع النبي صلى الله عليه وسلّم في عدّة مواقف محرجة مع الناس، والتي كان أقلّها إحراجاً عندما تسرّى علي رضي الله تعالى عنه على السبية الحميرية قبل تخميس الغنائم؟ أمّا أكثرها إحراجاً للنبي صلى الله عليه وسلّم فهي عندما أراد علي الزواج بابنة أبي جهل على فاطمة رضي الله تعالى عنها رغماً من معارضة النبي لهذه الزيجة، بل ومضى في خطبته لها متحدياً رسول الله صلى الله عليه وسلّم، عندها استشاط النبي غضباً حتى صعد منبره صلى الله عليه وسلّم وخطب في الناس قائلاً: (إن فاطمة مني وما يغضبها يغضبني، وأنا أتخوّف أن تفتن في دينها، وإني لست أحرّم حلالاً ولا أحلّ حراماً، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدوّ الله عند رجل أبداً) عندها ترك عليّ خطبة النبي في وسطها وخرج من المسجد غاضباً، وهو تصرّف بلغ من الرعونة والسفاهة حداً يستوجب الحجر.
أما المرّة الوحيدة التي استشاره فيها النبي صلى الله عليه وسلّم فكانت يوم الإفك، وليته عليه أفضل الصلاة والسلام لم يفعل، ألم يشر عليه علي بتطليق عائشة؟ ماذا لو عمل النبي صلى الله عليه وسلم بنصيحته حين ذاك؟ أما كان سيؤكّد التهمة على أم المؤمنين رضوان الله تعالى عنها؟ أما كان سيفتح الباب على مصراعيه لكلاب حمير أن تنهش في اللحم العدناني الطاهر وتنال من شرفه؟!
وما الذي حصل لهذا الدين عندما تولّى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إمامته؟ ألم تبدأ مشاكل هذه الملّة منذ اللحظة التي استلم فيها الخلافة ولم تنته حتى يومنا هذا؟ ألم يخالف علي إجماع صحابة رسول الله ويخرج على الإجماع العدناني العام؟ ألم يضرب بآراء الغالبية العظمى من بني عدنان عرض الحائط عندما طالبوه بتنفيذ شرع الله في قتلة أمير المؤمنين عثمان بن عفّان عليه رضوان الله تعالى وصلواته؟ بل ألم يتقوّ علي بقتلة عثمان على قتال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وزوجاته رضوان الله تعالى عنهم؟ ألم يضيّع علي رضي الله عنه في سني حكمه القصيرة معظم ما حققه أبوبكر وعمر وعثمان رضوان الله تعالى عليهم وصلواته لهذا الدين؟
صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعطف عليه وعلى أولاده، وهو عطف أبوي بيولوجي لا علاقة له بالدين، فضلاً عن أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يرد جميل والده أبي طالب، ذلك الكافر الذي ظلّ متمسّكاً بكفره حتى آخر رمق في حياته عليه لعنة الله، برغم ذلك لم ينس له النبي صلى الله عليه وسلّم جميله فتبنّى ابنه عليّاً وربّاه وزوّجه ابنته وكان يدلّله ويحنو عليه كما يحنو أحدنا على أبنائه، خصوصاً مع علم النبي صلى الله عليه وسلّم أن عليّاً لم يبلغ من النضج العقلي ما يؤهله للاعتماد على نفسه، فكان يوصي الناس به خيراً تماماً كما يوصي أحدنا أصحابه بإحسان معاملة أبنائه من بعده، فكان صلى الله عليه وسلّم يستحث الناس على الرفق بعلي والتغاضي عن أخطائه الكثيرة رحمة بصغر سنّه ونقصان حلمه، فكان يقول لهم: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) وهي عبارات لا تدل بحال على وجوب الاعتماد عليه في تحديد مستقبل هذه الملّة، تماماً كتلك الحادثة التي استأصلها الشيعة والمتصوّفة من سياقها واتخذوها دليلاً لوجوب استخلاف عليّ بعد النبي صلى الله عليه وسلّم، ثم أصبحت بعد ذلك تسبيحة دائمة على ألسنتهم حتى ألّهو من خلالها ذلك الصبي الأهوج عليهم لعنة الله، وهي عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلّم لغزوة تبوك وترك عليّاً في المدينة ينتبه (يدير باله) على النساء والذراري والأطفال، وهي مهمّة كان يقوم بها حتى الأعمى بن أم مكتوم رضي الله عنه، فتذمّر عليّ من جلوسه مع النساء وراجع في ذلك النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال له النبي: (أما يرضيك أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى). ترى هل كان عليّ من النبي بهذه المنزلة فعلاً أم أن النبي صلى الله عليه وسلّم أراد ترضيته بكلمة تطيّب خاطره كما يفعل أحدنا عندما يسترضي طفله الشقي بقطعة من الحلوى أو لعبة صغيرة يلهيه بها كي يتركه في المنزل فلا يضطر لاصطحابه معه إلى السوق، أم يقولون أن عبد الله بن أم مكتوم كان هو الآخر هاروناً للنبي صلى الله عليه وسلّم؟
ترى من الذي كان بالفعل ينزل من رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه المنزلة؟ يروي عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه عندما كان واقفاً أمام نعش أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليه وصلواته بعد استشهاده والناس من حوله يدعون ويثنون ويصلّون على أمير المؤمنين قبل دفنه وإذا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يخترق تلك الحشود ويقف قرب نعش أمير المؤمنين رضي الله عنه ثم يناجيه قائلاً: ما خلّفت أحداً أحبّ إليّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظنّ أن يجعلك الله مع صاحبيك، وذاك إني كنت أكثر ما أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فإن كنت أرجو أو لأظن أن يجعلك الله معهما.
وسأل عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات مرّة: يا رسول الله أي الناس أحبّ إليك؟ قال عائشة، قال ومن الرجال؟ قال أبوها، قال ثم من؟ قال عمر.
وقبل وفاته صعد النبي صلى الله عليه وسلّم على منبره وخطب في الناس قائلاً: (إنّ آمن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متّخذاً خليلاً لاتّخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوّة الإسلام. لا تبقينّ في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر) وفي رواية: (لو كنت متّخذاً من أمّتي أحداً خليلاً لاتّخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي (
وقبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم أيضاً جاءته امرأة تسأله حاجة لها فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن تعود إليه في وقت لاحق فقالت المرأة: يا رسول الله أرأيت إن جئتُ فلم أجدك (تعني لو توفّاك الله)؟ فقال لها عليه الصلاة والسلام: فإن لم تجديني فأتِ أبا بكر.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (بينا أنا نائم أُريتُ أنّي أنزع على حوضي أسقي الناس، فجاءني أبو بكر فأخذ الدلو من يدي ليروحني، فنزع دلوين وفي نزعه ضعف، والله يغفر له. فجاء ابن الخطاب فأخذ منه، فلم أر نزع رجل قط أقوى منه حتى قوى الناس والحوض ملآن يتفجّر) وفي رواية: (فلم أر عبقريّاً من الناس ينزع نزع عمر بن الخطاب (
وقد سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: (لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب) وهي جملة سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلّم عصمة بن مالك الخطمي أيضاً.
وذات مرة كان النبي صلى الله عليه وسلّم يقصّ على أصحابه رؤيا رآها فقال: (بينا أنا نائم شربت اللبن حتى أنظر إلى الري يجري في ظفري، ثم ناولت عمر. فقالوا يا رسول الله فما أوّلته؟ قال العلم (
كما سمع أبو سعيد الخدري نبي الله صلى الله عليه وسلّم يقص على الناس رؤيا أخرى قائلاً: (بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليّ وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومرّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرّه. قالوا ماذا أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال الدين.
أما عائشة رضي الله عنها فقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: (قد كان في الأمم قبلكم محدَّثون (بفتح الدال أي مُلهمون) فإن يكن في أمّتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم (
أما سعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وغيرهم فقد سمعوا بأم آذانهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول لعمر بن الخطاب: (والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجّاً إلا سلك فجّاً غير فجّك (
في السنة التاسعة للهجرة أي بعد فتح مكّة مباشرة حجّ المسلمون أوّل حجّة لهم في الإسلام، ترى من حجّ بهم ذلك العام؟ لقد مكث النبي صلى الله عليه وسلّم في المدينة وأرسل أبا بكر الصّديق رضي الله تعالى عنه أميراً على الناس في حجّتهم الأولى التي سبقت حجّة الوداع، وهو تصرّف له ما له من المعاني. أما في احتضار النبي صلى الله عليه وسلّم عندما لم يقوَ على الخروج إلى المسجد لم يأمر عليه الصلاة والسلام أحداً من أصحابه بالوقوف مكانه في المحراب وإمامة الناس في الصلاة سوى أبا بكر الصّديق عليه رضوان الله تعالى وصلواته.
ثمّ يقولون بعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يوص بالخلافة لأحد بعد وفاته، وأنه تركها سائبة هكذا! ترى هل يحتاج الملك أن يوصي الناس وهو في فراش الموت أن يبايعوا ولي عهده من بعده؟ لو فعلها لقال الناس إنه يهذي من سكرات الموت، حيث أنه من أشد البديهيات المسلّم بها في جميع الثقافات ولدى جميع الشعوب وفي جميع العصور والأزمان أنه لو مات الملك فإن ولي العهد سيصبح ملكاً بصورة أوتوماتيكيّة، فبمجرّد تسميته ولي عهد فإنه يصبح بالضرورة ملكاً شرعيّاً بعد وفاة الملك مباشرة. وهو الحال الذي كان ينطبق بحذافيره على كل من أبي بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، لقد كانت بالفعل مسألة مفروغاً منها نقلاً وعقلاً، كانت مسألة خلافة أبي بكر أو عمر أو كليهما للنبي صلى الله عليه وسلّم من المسلّمات البديهيّة والمعلومات بالضرورة لدى الجميع، كان الجميع دون استثناء يعلم ذلك والنبي صلى الله عليه وسلّم كان لا يزال بين ظهرانيهم (عترتي أهل بيتي)، لذلك عندما أراد منافقو حمير أن ينقضوا عن أعناقهم بيعة ولي عهد النبي ويبايعوا بدلاً منه منافقاً حميريّاً منهم ذهبوا بعيداً هناك إلى سقيفة بني ساعدة، ذهبوا بعيداً جداً عن الأنظار لأن انقلاباً كهذا لا يستطيع أحد أن يخطط له في النور.
يتبع..............
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات