الأرقام الرسمية - وهي ليست بالضرورة دقيقة- تقول ان معدل البطالة في العراق 30 في المئة. لكن هذه الحقيقة لا تحول دون استقبال اليد العاملة الآسيوية. والمفارقة أن الآسيويين يجدون من يوظفهم في العراق، في حين أن الشباب العراقيين محكومون بالانتظار.
«كومار» البنغالي لم يقم طويلاً في مقبرة وادي السلام في النجف، فقد عثر على عمل في مخبز عراقي بمرتب شهري هو 120 دولاراً، وهو يعتبر نفسه محظوظاً لأن العشرات من رفاقه لا يزالون في انتظار المتعهد الذي يزورهم بين أسبوع وآخر يحمل اليهم الأخبار الجديدة، وهذه الأخبار تعني ان سوق العمل في العراق باتت مغلقة في وجوه العراقيين ومفتوحة فقط على الأيدي العاملة الرخيصة، في الوقت الذي تغص مسقفات قبور وادي السلام وبيوت كربلاء القديمة المهجورة بالوافدين من الخارج.
ولمقابر وادي السلام ميزات لا تملكها باقي المقابر في العالم، ففي هذه المدافن يتزاحم الاحياء والاموات للحصول على مكان للنوم، والاموات عراقيون والاحياء من جنسيات مختلفة وهم يتوزعون بين بنغال وافغان وآذريين وسائر الجنسيات الآسيوية الفقيرة.
سعيد عودة أجر مسقفة قبر جده وسردابها في النجف، وصار عمله بعد مهنة بيع الشاي في مرآب وقوف السيارات الإشراف على قرابة 30 آسيوياً ما زالوا يمكثون في باحة مسقف القبر منذ شهر ونصف الشهر بعدما استقدمهم احد وسطاء تشغيل الأجانب في العراق وهو بلاسم المشهدي من أهالي المحافظة. يتقاضي سعيد مبلغ ألف دينار يوميا عن كل من هؤلاء الثلاثين مقابل السماح لهم بالمبيت، وتتولى ادارة مكتب التوظيف اطعامهم، إذ يصل يوميا «بيك أب» يحمل وجبة طعام صباحا وأخرى مساء كما يصل صهريج لماء الشرب. وعلى ما يبدو فإن العدد قد تناقص عندما وجد بعضهم مكاناً للعمل وظل آخرون على لائحة الانتظار. الحارس والمشرف على هؤلاء يجيد اللغة الأفغانية وهو يدير الحديث مع أحد هؤلاء ويترجم لنا ما يقوله، ونفهم منه انه يدفع لمكتب الشركة التي أرسلتهم الى العراق مبلغ 600 دولار، ويدفع للوسيط العراقي 600 دولار أخرى تشمل بدل شهري اقامة وطعام وإيجاد فرصة عمل. وعندما ينتهي الشهران يتم تسجيل أجور الفترة التي تلي كدين على هذا المهاجر الباحث عن العمل، علما انه لا يتسلم أجره بيده، لأن الوسيط هو من يتسلم الأجور وعندما يقرر هذا العامل الأجنبي العودة الى دياره تصرف له أجوره للفترة التي أمضاها في العراق. وهذه التقنية تتيح للوسيط أن يوظف الاجور في عمله هو خلال فترة بقائهم في العراق، وهناك مبالغ تستقطع في نهاية المطاف بعد انتهاء عقد العمل، هي بدل إطعامهم وضمانهم الصحي، وهم يمنعون من السياحة او السفر من مكان إلى آخر من دون علم المكتب المسؤول عنهم.
ابو شيماء
أين تقع هذه المكاتب؟ بحثنا عنها كثيرا في النجف، ووجدنا أحدها. انه مكتب صغير في زقاق مواجهة لساحة ثورة العشرين في النجف يديره رجل يدعى أبو شيماء. هذا الرجل له اتصالات كثيرة بمكاتب توظيف إيرانية وأفغانية وباكستانية وهندية أيضا، وآسيوية أخرى. وأجور الوافدين الى العراق زهيدة ولا تزيد على 120 دولاراً شهرياً في أحسن الأحوال، يؤكد صاحب المكتب، وسبب تزايد الاعتماد على العمالة الآسيوية هو تدني الأجور، فبينما لا يقبل موظف الفندقة العراقي بأقل من مئتي دولار، فإن أمنية البنغالي ان يحصل على وظيفة بمبلغ 100 دولار، وفي الوقت الذي يأنف الموظف او العامل العراقي خدمة نزلاء الفندق وتنظيف غرفهم او تنظيف شبكات الصرف الصحي في الفنادق، يقبل هؤلاء بأداء أي عمل وأياً كان نوعه، فيتسنى لصاحب الفندق أن يوظف جيشاً من العمال الآسيويين بأجر عشرة عمال عراقيين، وهو ان كل ما يريده منهم سوف يكون مؤمناً، وتختفي حالة الجدال الطويلة التي تنشأ بين الموظف وصاحب الفندق والتي ينتهي بعضها بشجار مسلح او بالأيدي تعقبه جلسات قضاء عشائرية وغرامات مالية. والملفت ان هذا الرجل يؤكد ان السياح من زوار العتبات المقدسة من دول أجنبية يفضلون النزول في فنادق تكون عمالتها آسيوية، وهو «شرط» يضعه السائح قبل أن يقدم على استئجار غرفة في ذلك الفندق.
وعن كيفية ادخال هؤلاء يقول أبو شيماء ان ورقة الإقامة لا يزيد ثمنها على 60 ألف دينار عراقي للسنة الكاملة، والحصول على تأشيرة دخول أمر غير معقد، لكن أصعب ما في الأمر هو تأمين مسكن وغذاء وعمل لهؤلاء بمبلغ 600 دولار للوافد الواحد، ويقتضي الأمر ان تكون هنالك تنازلات لأصحاب الفنادق كي يقبلوا بالعرض.
وعدد مكاتب تشغيل الأجانب تزايد في الآونة الأخيرة وتحتوي النجف في الوقت الحاضر على أربع شركات وستة عشر مكتباً للتوظيف، ومؤخرا بدأت العائلات النجفية الاعتماد على العمالة الأجنبية في المنازل، للآسيويات فقط، واول المبادرين هم الاطباء والموظفون، خصوصا أذا كانا الزوجة والزوج موظفين، يحول عملهما دون رعاية الأطفال.
والبصرة كان لها نصيب من هذه الظاهرة، إذ ان معظم فنادقها تدار من قبل عمال، وموظفين آسيويين، بينما لا تخلو دار في حي الجزائر والبراضعية من خادمة وسائق أسيوي، والأمر يبدو وكأنه من التباهي والتكلف الاجتماعي بالنسبة الى الأحياء الثرية في المدينة.
وكربلاء هي الأولى في تصنيف المحافظات التي تحوي عمالة أسيوية. صاحب احد الفنادق يوضح أن العملية دخل فيها الغش، بعدما تزايد الطلب على هذا النوع من العمال، لذا قام بعض الوسطاء باستيراد عمال آسيويين هندوس ومن ديانات أخرى، وتعليمهم كيفية الصلاة كشرط لتشغيلهم، على أن يدعوا أنهم مسلمون. وقد انكشفت المسألة من قبل الزوار الهنود المسلمين، الذين يعرفون الهندوس ويعرفون غير المسلمين من أبناء جلدتهم، وفقدت ثلاثة فنادق سمعتها ولا تزال تعاني لأنها شغلت هؤلاء إذ يرفض الزائر المسلم ان يأكل او يخدم من قبل غير المسلمين. وفي مجالات العمل الأخرى في كربلاء فإن المطاعم والمخابز وشركات التنظيف اكتفت بالعمالة الأجنبية وبأجر لا يجاوز الـ 80 دولاراً في الشهر.
ولهذه الظاهرة الجديدة أبعاد سلبية اقتصاديا واجتماعيا كما تؤكد وزارة العمل والشؤون الاجتماعية. في المؤتمر المشترك مع جامعة النجف اوضح الدكتور زهير البدران مسؤول مكتب تشغيل العاطلين عن العمل في النجف، ان صعود الخط البياني للبطالة العراقية بما يفوق النسب الحالية اضافة الى خروج كميات من العملة الاجنبية او العراقية كلاهما يترك آثاره السلبية على الدورة الاقتصادية.
وترى استاذة الاجتماع في جامعة بغداد نجاة احمد ان انتشار هذه المجموعات البشرية وتغلغلها في المجتمع يفتحان ابوابا جديدة لسلوكيات اجتماعية مضرة. فالوافدون لا يخضعون لفحوصات طبية تؤكد خلوهم من الامراض الانتقالية كالايدز مثلاً، كما ان احدا لا يدقق في سجلاتهم، وما اذا كانوا مجرمين او منحرفين في بلدانهم، ولا تزال اثار ثمانينيات القرن الفائت ماثلة عندما تحول طاقم العمالة العراقية الى الجنسية المصرية فدخلت ظواهر اجتماعية كثيرة بدلت من سلوكيات المجتمع العراقي رغم التشابه بين المجتمعين المصري والعراقي، فما بالك اذا كانت العمالة اجنبية ولا تقارب بينها وبين مجتمعنا؟
وهذه العمالة لا تتركز في مكان واحد، بل تتوزع في اماكن عدة من بينها اقليم كردستان، اربيل والسليمانية حيث تملأ فنادقهما عمالة اجنبية آسيوية، تنافس ابناءها على فرص العمل، والظاهرة وصلت الى المنازل وخدمات الاسواق بشكل محدود، الا انها قد تتنامى مستقبلاً.
التعليقات (0)