مواضيع اليوم

آخر أيام الأمين ـ قصة قصيرة للأستاذ عدنان كزارة

يوسف رشيد

2011-03-28 15:28:08

0

  حين أحضروا رأسَ علي بن عيسى بن ماهان على طبق من فضّة ، كان الأمين ينهي صيد سمكته الأولى من نهر دجلة . بدا مهموماً حزيناً ؛ فلم يجرؤ أحد أن يكلّمه . نظر إلى الرأس الملطّخ بالدم وكأنه بُتر للتوّ ، ثم ما عتّم أن قال : لقد صاد كوثر حتى الآن سمكتين ، أما أنا فلم أصد سوى واحدة .. وكاد يبكي .

 

هذا ما رواه ابن كثير في (البداية والنهاية) والعهدة على الراوي ..

أبعدَ الحرسُ الرأسَ المقطوعَ عن عينيّ الخليفة المهموم ، وأدركوا بفطنتهم أن ما يشغله أهمّ بكثير من رأس مقطوع بين آلاف الرؤوس التي لا تزال ثابتة على جذوع أصحابها تدين بالولاء والطاعة لأمير المؤمنين . ولكنّ ما لم يذكرْه الرواة وأبدعته المخيّلة أنّ الأمين انسلّ إلى مخدعه ، وألقى رأسه في حضن كوثر ، وراحت أصابع كوثر تعبث بشعر الأمين فتسري في جسده رعشة لذيذة تنسيه هول ما يجري في بغداد ، وتزيد تعلّقه بالحياة ولو إلى حين .

ــ من أين تعلمت هذا الفن يا كوثر ؟

ــ من طول عشرتكَ يا مليكي .

يتضاحكان ، ثم يتهيأان للسمر وقد ذاب كل منهما في خليله .

لن أحدثكم عن شخصية وهمية ، فأنا الأمين بن هارون الرشيد ، سليل الأسرة العباسية ، والفرق بيني وبينكم أن سيرتي معروفة تاريخياً بغضّ النظر عمّا فيها من مبالغات تخدش الحياء لست مسؤولاً عنها طبعاً ، أما أنتم فسوف تبحثون عمّن يدوّن سيرتكم الذاتية ، وقد لا تجدون لأنني علمت ممّن جاء بعدي من الموتى أن حياتكم بائسة ، فأنتم تُعَدّون بالملايين، ومَن مِن المؤرخين يعبأ بتدوين سيرة أحد من ملايينكم التي تبحث عن لقمة عيش كمن يبحث عن إبرة في كومة قشّ ؟ إنني عشت حياتي هكذا من غير تكلّف أو افتعال ، أحببت الشعر ، وعشقت الغناء ، وكان لي خليلٌ من الذكور لعلّكم عرفتم اسمه (كوثر) استمتعت بصحبته كثيراً . حين جاءتني الخلاقة لم أكن مستعدّاً لها ، كنت مستمتعاً بكوني وليّاً للعهد . لا أتحمّل المسؤوليات ، ولا أهتمّ لشؤون الملك ، ولكنها إرادة والدي الرشيد ، ولربما كان في ذلك خاضعاً لرغبة زوجته زبيدة ، نسيت أن أخبركم أن زبيدة أمي وأنا اكبر أولادها ، كانت امرأة قوية كما يزعمون ، وهذا يعني ، إن صدق التاريخ ، أن بعض النساء كنّ يحكمْنَ من وراء ظهور أزواجهن . ما أحببت يوماً أعباء الخلافة ، ولا رضيت أن أنازع أخي المأمون ، لكن الحكم عقيم . هكذا جاءتني الخلافة رغماً عني ، فرحتُ في بادئ الأمر إذ أصبح لديّ كلّ ما أتمنّاه ، وصار الناس يدعونني أمير المؤمنين . الواقع أنها صنعة بلا تعب لأكثر خلفاء ذلك الزمان . لكنها كانت متعبةً بالنسبة إليّ ، فقد دبّ الخلاف بيني وبين أخي ، وهذا ما أرّقني وآلمني . بعضُ القادة كانوا يضرمون نار الفتنة بيننا ، وكانت الحرب في مصلحتهم ، أو هكذا تصوّروا ، قليلٌ منهم كان صاحبَ حكمة وبُعدِ نظر ، فحاول أن يوقف الحرب قبل اشتعالها ، لأنها حرب بين إخوة ، وستثير فتنة عِرقية بين المسلمين لا يعلم مداها إلا الله والراسخون في العلم ، نزلتُ عند رغبة القادة الباحثين عن مجد شخصي ، وتخّليتُ عن أجمل أحلامي وأيامي ، فأيّ عاقل يترك قصر الخُلد بما فيه من نعيم مقيم ، ليذهبَ إلى معركة غير معروفة النتائج ؟ حذّرني شاعري أبو نُواس ـ وكان صادقا ـ من مغبّة هذا العمل ، وهل يشكّ أحد في إخلاص أبي نواس لي ، وهو سميري ، ونديمي ، وشاعري المفضّل ؟ لكنني ارتكبت حماقة الحرب ، ولم يعد بإمكاني أن أتراجع ، فما الذي سيقوله الناس عن خليفتهم إذا جَبُن عن الحرب ؟ كان أخي جادّاً كلّ الجِدّ في القتال ، وكنت أنا غافلاً كل الغفلة أحسب أن الحرب ستدوم أياماً ثم نتفاهم ، وتعود له خراسان التي ظننتُ في لحظة طيش أنها تحت سيطرتي كأميرٍ للمؤمنين . يا لك من مأفون يا وزيري  يا ابن الربيع حين صوّرت لي أن الناس هناك يدينون بالولاء لي ، وكأنك نسيتَ أن سيوفهم مع أخي لأن أمه فارسية ، وتناسيتَ أن المأمون قد ملك قلوب الناس فيها لمّا كان والياً عليها لأبي كما فعل معاويةُ في الشام . التفّ حولي في معركتي الخاسرة مجموعات الفتيان التي تكونت من العرب في بغداد كردّ فعل على استبداد الفرس بالأمر من دونهم ، وقاتلتْ بشجاعة لتحول دون سقوط بغداد بأيدي الخراسانيين من جند المأمون ، ولكنْ بعد أن اتسع الخرق على الراقع وفات الأوان .  

انتشى طاهرُ بن الحسين بالنصر الذي أحرزه على جيش الأمين ، وتذكّر عيني ابن ماهان وهما شاخصتان من الهول قبل أن يبعث برأسه إلى الخليفة كرسالة واضحة المبنى والمعنى لكنّه لم يدَعِ النشوة تُسكره ، فلا تزال أمامه مهمّة أثقل ، أن يحظى برأس الأمين نفسه ، ليثبت لسيده المأمون أنه رجل المهمات الصعبة .

تابع زحفه نحو بغداد درّةِ المدن وعاصمة الزمان ، يقضم في طريقه المدن والدساكر دون أن تضعف شهيّتُه للمأدبة الكبرى .

أفاق الأمين ضحىً على صوت كوثر يهمس في أذنه بدلال : "أرجو أن تكون قد نمتَ هنيئاً ليلةَ الأمس يا مولاي ، فأمامنا يوم طويل للنزهة في دجلة .. تبسّم الأمين وهو يفرك عينيه بفتور ، وألقى نظرة حانية على كوثر وكأنه يومئ له بالموافقة . ثم صفّق بيديه فإذا القهرمانة سلطانة في حضرته تنتظر إشارة منه :

ــ جهّزي عشراً من أجمل القيان يُجِدن الضرب على الدفوف ، والغناء على أنغام المعازف ، واحمِليهنّ على حرّاقة الأسد الهصور .

ـــ أمرك مولاي ، طال عمرك ودام سرورك .

تمدّد الأمين وسط الحرّاقة على فراش بطانته من إستبرق ، واتكأ على نُمرقة ذهبية الديباج، يسرّحُ الطرف في الشاطئ عن يمينٍ وشمال ، فتبدو لعينيه عرائسُ المروج تغازل جدران القصور ، وباسقاتُ النخيل تمنع الشمس من مسارقة النظر . قرّت عينه ، وصفا ذهنه من صُوَر الحرب الدائرة قريباً منه ، وتوشكُ أن تهدّد ملكه بالزوال .

إنه الآن مستريح البال فوق أجمل حرّاقاته وأفخمها بصحبة كوثر فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها .

هذا ما قاله المؤرّخون ، فبربّكم هل صدّقتم أنّ رجلاً في أتّون المعركة يخرج في رحلة نهرية للاستجمام وكأنه في رغد وسلام ؟ الأمر لكم في أن تصدقوا أو تكذّبوا ، فإن شئتم تابعوا القصة كما يروونها لكم بشيء من الخيال المباح . أشار الأمين بإصبعه فحضر الطعام ، فلم يُصِب منه إلا قليلاً ، ثمّ أمر بالأشربة التي أحلّها بعض الفقهاء فهيّئت كؤوسها ، وبدأ العزف على الطنبور تترنّم على صوته القيانُ بأعذب الألحان ، انطلقت إحداهنّ تصدح بهذا الصوت :

         أما وربِّ السكون والحـرَك         إنّ الـمنايا كثيرة الشِــرَك

         ما اختلف الليلُ والنهـار ولا        دارت نجومُ السماء في الفلَك

         إلاّ لنقلِ السلطـان من مـَلك        انقضـى ملـكُه إلى مــلِك

فما إن انتهت من البيت الأخير حتى انتفض الأمين كالملسوع ، وأطاح بكأس الشراب ، ثم صاح بأعلى صوته :

ــ أين سلطانة ؟

ــ بين يديك يا مولاي .

    ــ ما هذا الهُراء الذي أسمع ؟

    ــ المعذرةَ يا مولاي ، أقسم بالله لا أعرف من أغرى هذه الحمقاء بتلك الأبيات .

ــ ماذا ؟ لا تعرفين ! سحقاً لك ولجواريك . أيها الحرس ، خذوها وألقوها للأسود الجائعة .

هل تصدّقون هذه الرواية السخيفة عني ؟ أنا الذي عُرفتُ برقّة القلب ، وحبّ الغناء ، ونظم الشعر ، ورواية الحديث عن رسول الله آمر بإلقاء النساء إلى الأسود الجائعة ؟

أيّ قلب إذن هو قلبي ؟ وأيّ افتراء كبير على سيرتي ؟

 

انطلق الحرس لتنفيذ الأمر ، يُصمّون آذانهم عن توسلاّت سلطانة ، أمّا الأمين فغادر الحرّاقة مُغضَباً متطيّراً ، ومن ورائه كوثر يجرجر أذياله .

تابع طاهر بن الحسين زحفه نحو بغداد ، فالتقى عند مشارف المدينة بجيش هَرثمة بن أعيَن ، ليُحكما الحصار حول عاصمة الخلافة . المجانيق تقصف قصر الخُلد فتغادره زبيدة مع أولاد الأمين إلى قصر أبي جعفر ، فلا يسلم هو الآخر من القصف .

تصرخ زبيدة من إحدى غرفه : "قاتلكَ الله يا بن مراجل ، أما ترى ما يفعله جندك الخراسانيون ؟ واهاً لقريش ! أضحى ملكها نهباً لبني ساسان . أين عيناك يا هارون تريان قصورك يعيث الموالي فيها فساداً ؟ كأن البرامكة ما زالوا أحياء ، أو كأنهم بُعثوا بعد فَناء !

لم يَبقَ مع الأمين في قصر الخُلد إلا نفرٌ قليل من حاشيته وقد قبعوا جميعاً في إحدى قاعاته التي نجت من الهدم ، ينتظرون موتاً محتوماً ، أو معجزة مستحيلة ، أمّا كوثر فانتظر مقدم الليل ليهرب من إحدى نوافذ القصر ، ويستسلم للجند الخراسانيين ، فكان كمن يستجير من الرمضاء بالنار . ظلّ جند طاهر يفترسونه أياماً حتى قضى نحبه من الهلع والألم . هذا ما رواه السرد القصصي ولم تروِه كتبُ السِيَر .

 

 والآنَ سأقصّ عليكم ــ أنا الأمين ــ حكايةَ اليوم الأخير من عمري ، فهذا أفضل من أن تأخذوها عن الرواة وقد رأيتم ما صنعوه بسيرتي ، وعسى أن تُسعف قاصاً مخيّلتُه فيبدعَ منها نصاً فنياً حافلاً بالدلالة والمغزى .

اشتدّ حصار جند طاهر وهرثمة ، وضاق الخناق عليّ حتى إنّي جُعت في إحدى الليالي فلم أحصل على رغيف ودجاجة إلا بشِقّ النفس ، فلما هممتُ بالطعام برز لي رأس اين ماهان المقطوع فانتابتني رِعدة من الخوف ، ثم إذا سُرّي عني وعدتُ إلى الطعام ، رنّ في أذنيّ صوتُ أمي : "َأضعتَ ملكك باستهتارك فذُق ما جنتهُ يداك" .

لم تزل الصورة والصوت يتداولان بصري وسمعي حتى غِبتُ عن الوعي ، وحين أفقتُ كان رسولٌ من هرثمة يعرض عليّ الاستسلام مقابل الحفاظ على حياتي ، قلتُ في نفسي : إن هرثمة كان مولىً لأبي ، وهو أرفقُ بي من ذلك الخراساني الذي يُسرّ مقتلي ، فلأنتهزِ الفرصة قبل أن تطير .

وسَط ليل بهيم كان مركبٌ صغير يمخر عباب دجلة ، يُقلّ الأمينَ في حراسة ثلّة من جند هرثمة ، وقبل أن يصل المركب إلى برّ الأمان اضطرب واختلّ توازنه ، ثمّ انقلب بمَن فيه . فقد كانت حرّاقةٌ ضخمة تابعة لطاهرٍ بن الحسين تتعقّبه ، وما زالت به حتى أغرقته . لقد خشي طاهرٌ أن يحصد هرثمةُ بشِماله ما زرعهُ هو بيمينه ، فآلى على نفسه ألاّ يرجع لسيده المأمون إلاّ برأس أخيه على سنان .

سبح الأمين بما تبقّى فيه من قوة إلى الشاطئ ، ومن بعيدٍ لمح ضوءاً شاحباً ينوس من كوخ صغير ، فأغذّ الخطا نحوه ، كان بالكوخ عجوزٌ هرِم لم تحُلْ شيخوخته دونَ أن يبذل للخليفة ما وسعه الجهد من حفاوة ، ويوفّرَ له الدفء في ليلة كهذه قارسة البرودة ، حُبلى بالعجائب :

    ــ ادنُ مني أيها الشيخ الجليل فأنا أشعر معك بالأمان .

    ــ لا بأس عليك يا أمير المؤمنين ، ستكون بأمان بإذن الله .

ما كادت نفْس الأمين تهدأ قليلاً حتى اقتحمت الكوخَ موجةٌ غاضبة من جند طاهرٍ ، شاهرين سيوفهم .

بادره أحدهم بضربة سيف فشجّ رأسه شجّة منكرة ، انكفأ إثرها على وجهه وجعل يتقلّص لائذاً بجسده :

   ــ اللهَ ، اللهَ في دمي ، ويحَكُم أنا ابن عم رسول الله ، أنا ابن الرشيد ، أنا أخو المأمون .

وما إن أتمّ كلامه حتّى انقضّ عليه آخرُ ، فحزّ رأسه من قفاه ، ثمّ رفع الرأسَ بيده مقهقهًا والدمُ ينزّ منه :

ــ ستكون أجملَ هدية لسيدي طاهر ، وأسنى جائزة لنا .

ألقى العجوز نظرة أسىً على الجسد المسجّى بلا رأس ، واسترجع بصوتٍ تخنقه العبرات ، ثمّ تطلّع من كوّة الكوخ إلى السماء .. كانت سحبٌ سوداءُ كثيفةٌ تتراكض وتتجمّع كأنها جبال، ومن حينٍ لآخر يلمع من خلَلها برقٌ يخطف الأبصارَ ، يتبعه قصفُ رعدٍ شديد ، ثم لمْ تلبث السماء أن أغرقتْ بغدادَ بطوفان من الدماء .

 

عدنان كزارة                    




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !