إنها من أجمل الرحلات بالنسبة لي.. رحلة جميلة عدنا عبرها ثلاثة عقود إلى الماضي وبالتحديد 33 عاماً.. رحلة تحكي لنا تاريخاً يراد له أن يطمس وتطمس معه كل معالم وملامح هذا الزمن!
وصلنا إلى قرية "ثلا" ولا يزال حصنها الشهير شامخاً كشموخ الأسرة التي نزلنا ضيوفا عليها.. أسرة "إبراهيم الحمدي"؛ الاسم الذي لطالما تغنى بحبه اليمنيون، ولطالما زينت صور صاحبه جدران غرفهم ومكاتبهم، وتباهى البعض بانه عاش فترته.
قبل الوصول إلى القرية وإلى منزل الشهيد الحمدي شاهدنا في طريقنا مبنىً يخص الأسرة.. كان ذات يوم مكاناً يقيم فيه جنود الحراسة، وهو اليوم مركز للتدريب المهني بعد أن تبرعت به أسرة الحمدي لهذا الغرض.
دخلتُ وأخته الصغرى إلى حيث يرقد أبويهما في قبرين متجاورين.. هنا في قبة صلاح الدين ابن شمس الدين.. قرأنا الفاتحة على روحيهما ومن ثم عدنا إلى المنزل.. المنزل الذي كان يقيم ويعيش فيه حلم اليمنيين الذي لم يستمر!
كنا: أشرف الريفي وأحمد عبدالرحمن وأشواق بكرين ووضاح الجليل ووداد البدوي وأنا؛ أردناها رحلة تفتيش عن ذكرى وحلم لشباب لم يعيشوا ولم يعاصروا تلك الفترة، لكنهم بحثوا في تفاصيلها بتلك القرية وفي ذلك المنزل وبين جنبات غرفه متشققة الجدران وأثاث بسيط امتلكه رئيس دولة!
غرفة نوم خالية من أي شيء يدل على أن صاحبها كان حتى ميسور الحال؛ فضلاً عن زعيم دولة! لا سرير في تلك الغرفة ولا دولاب ملابس.. فقط فراش ووسائد من" التبن"!
إلى الجوار ثمة غرفة أخرى ذات أثاث بسيط.. قيل لنا انها "غرفة استقبال كبار ضيوفه"!، نتأمل متسائلين: أهذا هو قصر الشهيد الرئيس؟ أصحيح أنها غرفة استقبال الضيوف؟! الإجابة: نعم. لقد عاش الحمدي في هذا المنزل قبل وبعد أن أصبح رئيساً، وعلى نفس الأثاث الذي لم يتبدل مع علو منصبه ومرتبته.
على أحد أرفف هذه الغرفة صورة ببرواز تحمل شعاراً مرسوماً فيه ثلاثة أيد متكاتفة، ومكتوب عليها "اتحاد عام هيئات التطوير اليمنية يونيو – 1973"، وفي أسفلها عبارة " الحرب ضد التخلف".
كانت أخته صفية تتحدث إلينا مشيرة بيدها إلى الأثاث: هذه هي حياة الحمدي. أضافت: تحمل منذ صغر سنه المسئولية وكان يساعد والده القاضي في ذمار وكبر وعاش مهموماً بالوطن وبالشعب.
هنا في هذا المكان كان الرئيس الشهيد في زيارة لأخته صفية، ودخلت هي بعد يومين من تلك الزيارة (أي يوم استشهاده) لزيارته.. لكنها لم تكن تعلم أنها زيارة الوداع!
في ذلك اليوم المشؤوم ألحت عليه وهي في منزله أن يبقى ليتناول غداءه، لكنه أصر على الخروج ملبياً دعوة "قاتله".. تقول صفية: انها بكت في ذلك اليوم وهي تترجاه وتتوسله البقاء. سئلت لم البكاء؟ فقالت انها تشعر وكأن شيئاً ما سيحدث وأنها ترى أخاها للمرة الأخيرة.. وكان ما شعرت!
انتقلنا إلى غرفة أخرى.. هي للدقة "مخزن" يحتوي على جل مقتنيات وذكرى الشهيد وذاكرة تاريخه، تستوطنه ذكريات بسيطة لذلك العهد: كتب وأوراق وصور وأشياء أخرى خيبت ظن لص ذات يوم؛ فغادرها خالي الوفاض!
قبل سنوات كسر لص نافذة هذا (المخزن الذاكرة).. لص لم يتعرف عليه أحد، لكن بالتأكيد صدم بعد أن لم يجد شيئاً يستحق، وإن كان لصاً بالوكالة لاشك سيكيل لمرسله اللعنات. لقد عاش الزعيم الحمدي ورحل نظيفاً، وربما لم يجد "اللص" بداً من الترحم عليه، وهو يستحضر لصوص المال العام وماذا فعلوا بهذا الوطن وإلى أين أوصلوه!
كان المكان مليئاً بالغبار الذي غطى على مقتنيات الحمدي، وبدا واضحا ان أحداً لم يدخل هذه الغرفة منذ زمن.
وبفضول معرفة المزيد عن حياته فتشنا تلك الغرفة ووجدنا مقتنيات ثمينة لم يلتفت إليها "اللص"!
وجدنا صوراً وكتباً وصحفاً ومجلات متناثرة وحقائب قديمة.. تحكي بعض تاريخ ثلاث سنوات من "الحلم"، وعلى طاولة قديمة راديو ومسجل ومرايا ظلت شامخة رغم مرور الزمن إلا من تكسر صغير في أسفلها.
كان كما يقول من عرفوه يحب قراءة الشعر والكتب السياسية والمجلات والكتب القومية.
ونحن نتأمل ونتفحص هذه المقتنيات؛ وفتش ابن أخته إحدى الحقائب ووجد "كرت شخصي" مكتوب عليه: "مع تحيات: المقدم إبراهيم محمد الحمدي نائب رئيس مجلس الوزراء "صنعاء- اليمن".
"الشهيد عبد الله"
صعدنا إلى السطح ورأينا بجوار هذا المنزل منزلاً آخر يحيط به سور، ويفصل بينهما باب باللون الأزرق.. إنه منزل شهيد آخر من هذه الأسرة كما قال لنا "إبراهيم" نجل "عبد الرحمن" الشقيق الأصغر للشهيد، مشيرا إليه: هذا بيت عمي الشهيد عبد الله ولم يفتح منذ سنوات طويلة.
عبدالله هو الشقيق الأكبر للحمدي "قائد قوات العمالقة" أيام كان هناك عمالقة!
كان ذا شخصية قوية ومهابة، وكان يحب شقيقه "إبراهيم" حباً كبيراً.. تقول الأخت الصغيرة لهما: ذات يوم سأله إبراهيم ماذا ستفعل ياعبد الله إن حدث لي شيء؟ فأجاب بثقة وقوة: سأحرق صنعاء وسأجعل كل أم تلد طفلاً ينتقم لك. لكن الرئيس الذي كان دائما يسعى لتحقيق الأمن والسلام لوطنه رد عليه: إذاً أسأل الله أن نموت معاً في يوم واحد، وكان ما سأل!
ولأن قاتل إبراهيم كان يدرك مالذي يمكن أن يفعله عبدالله في حال أصيب أخوه بمكروه فقد قرر التخلص من الأخوين معاً مبتدئاً بعبدالله.
وبرغم حب "الرئيس" لأخيه الأكبر لم يكن الأخير ليحصل على أي مميزات. يحكى أنه وفي الاحتفالات الوطنية، وفيما كان الجنود يقومون بالاستعداد للعرض العسكري قال له: ستنزل تستعرض مع القوات ولا تظن لأنك شقيق الرئيس ستأتي وتجلس بجواري في المنصة.
"الصديق الذي رفض الحمدي توظيفه"
اشتهر الحمدي بالنزاهة وعدم المحسوبية حتى مع أقربائه وأصدقائه.
روى لنا محمد مهيوب (62 عاماً) -كان أحد أصدقائه- قصة تشير إلى تحلي الحمدي بتلك الصفات.
كان مهيوب وهو من أبناء محافظة تعز قد تخرج من كلية الآداب في القاهرة بجمهورية مصر وعمل بعد عودته في كلية التربية. وذات يوم طلب من الرئيس الحمدي أن يوظفه في وزارة الخارجية، لكن الأخير رد بالرفض وقال: لا أريد محسوبية.. اعمل واجتهد إلى أن تصل للمنصب الذي تستحق. ومرة أخرى طلب منه إعطاءه قطعة أرض فأصدر توجيهات بمنحه أرضاً تكفي لبناء منزل صغير على أن يتم خصم ثمنها من راتب محمد الشهري!
أضاف مهيوب ان الرئيس ذات مرة وجه له بصرف مبلغ خمسة آلاف ريال من صندوق الرئاسة وتخصم من راتبه الخاص (أي راتب الرئيس).
احمرت عينا محمد ووارى دمعة خجلى، واستطرد: بعدها ذهبت إلى بريطانيا في دورة وعدت ولم أجد وظيفتي قالوا لي "رح لك"!
وهكذا دون سبب فقد الرجل وظيفته عام 89 ولربما ان السبب علاقته بالرئيس إبراهيم.
تقول صفية: كان إبراهيم قريباً من المواطنين والمساكين والأطفال والمسنين ويحب اليمن أكثر من نفسه، وكان يتحاشى تعيين أحد أقاربه في منصب حكومي.
"أستاذ الحمدي"
التقينا بالأستاذ الذي قام بتدريس الحمدي.. رجل في الثمانين من عمره.. حدثنا بحب الوالد لولده وفخر المعلم عن تلميذه المتفوق!
يقول العزي محمد منصر: كان إبراهيم مستقيماً، ذكياً في دراسته ويحفظ القران الكريم، وكان متواضعاً يحب الناس حتى بعد أن أصبح رئيساً " ما كان به مثله أبداً".
"الوحدة حلم الحمدي"
لطالما راود الحمدي حلم الوحدة بين الشطرين اليمنيين، وعشية مقتله كان ذاهباً للقاء الرئيس سالم ربيع علي للمشاركة في احتفالات ذكرى الثورة والبدء في الحوار من أجل تحقيق الوحدة. لكن يد الغدر اغتالته قبل تحقيق الحلم في عهده. تقول صفية أنه كان يقول لها: قريباً ستنزلين إلى عدن وأبناء عدن سيأتون إلى صنعاء.. سيكون اليمن واحداً.
"شعرت باليتم يوم استشهد".
تقول شقيقته الصغرى انها عندما كانت في الابتدائية ترى الفتيات في المدرسة بملابس وأحذية فاخرة في حين كانت هي تلبس حذاء عادي، تضيف: كنت أقول لإبراهيم "لماذا لديهم ملابس وأشياء فاخرة ونحن لا؟ وكان يقول لي ألا تريدين أن تكوني الطبيبة الخاصة بي؟ الم تحلمي بأن تكونين ذات يوم طبيبة؟ ستكونين كذلك حين تكملي دراستك.
تستطرد شقيقته التي لم تدرس طب بل اللغة الألمانية في جامعة صنعاء: مات أبي وأمي لكنى لم أشعر باليتم إلا بعد وفاة أخي إبراهيم.
هكذا أتي الشهيد إبراهيم الحمدي في ثلاث سنوات مرت كحلم، وهكذا توارى الحلم، وهكذا عاش حياته بهذه البساطة حتى بعد توليه الحكم.
ما نعيشه اليوم يجبر الجميع على استذكار هذا الزعيم بمناسبة وبدون مناسبة، ويجعلنا نتساءل هل سيأتي حمدي آخر ينتشل البلد مما هو فيه؟!
فكرة
ونحن نتجول في منزل الحمدي تحدثنا حول فكرة تحويله إلى متحف يضم كل مقتنياته ببساطتها وبكل ما يتعلق به منذ طفولته وحتى استشهاده، خطبه وصوره وكل شيء يخصه.
هو تاريخ والأمم تحافظ على تاريخ زعمائها وعظمائها حتى بأشيائهم البسيطة.. أشياء بسيطة ستقول للعالم هكذا عاش وهكذا رحل.
التعليقات (0)