القدس العربى .. عزت القمحاوي
في الشتاء يمكن أن يفقد المصري رشده بسبب الفساد، وفي الصيف يضيف الطقس سببا ثانيا لانصهار المخ وتسربه من الأذنين.
احتمالات الوقوع في حبائل الخبل بسبب الحر قدر لا يمكن للإنسان أن يتلافاه، خاصة إذا لم يكن لصا أو رجل أعمال أو صاحب منصب يرفل في نعيم مكيف الهواء. لكن الإصابة بالكمد من أخبار الفساد يشتريها المصري بفلوسه في صحيفة الصباح، وإن كان المواطن حويطا وتجنب تبديد ثروته وصحته على شراء الصحف؛ فسوف تكعبله الأخبار مجانا وبالمصادفة البحتة في البكاء الليلي الشهير ببرامج التوك شو، حيث لا تخلو قناة من مذيعة تُسبِّل بغواية النضال، أو زعيم متخف في صورة مذيع يلوح بسيفه على قلق لأن الريح تحته؛ ريح الفضائية التي قد تكون خاصة أو مملوكة للدولة؛ فالنضال حق مشروع لكل المذيعين، تماما كحق المقاومة الشرعية للاحتلال!
نجح النظام في أن يجعل الحياة مزحة ثقيلة والنضال مسخرة؛ حيث لا مخاطرة على سلامة المناضل، بل سلامة عقل الجمهور الذي يشاهد النضال.
ولأنني مؤمن بمقولات جي دي بور وبيير بورديو حول عدم صلاحية التليفزيون للنضال الجاد، بل عدم صلاحيته لأي شيء جاد، فإنني أشتري الأذى بحر مالي.
وعلى سبيل المثال فإنني أكتب الآن، في درجة حرارة 47 مئوية وأمامي عدد واحد من جريدة المصري اليوم مانشيتات وإشارات صفحته الأولى كالآتي:
بلاغ للنائب العام ودعوى قضائية للمطالبة بكشف أسماء المتورطين في الرشوة الألمانية.
سليمان أمام النيابة: تخصيص أرض مدينتي تم بحضور رئيس الوزراء..والمشروع حقق 13 مليار جنيه للدولة!
أزمة العدالة تتصاعد: المحامون يجددون الإضراب ويعقدون اجتماعا طارئا اليوم.
مصادر قضائية تكشف حل دائرة باستئناف القاهرة بعد إصدارها أحكاما ضد وزير العدل.
فورن بولسي: مصر الـ 49 من 60 دولة الأكثر فشلا في العالم.
ضابط ومحام يتبادلان الصفعات ورئيس المحكمة يصلح بينهما.
خيري رمضان يكتب: مصر في خطر.
حتى الإشارة إلى حوار عادل إمام داخل العدد تتضمن انتقادا حادا لبيع القطاع العام: رمينا القطاع العام وكأننا نرمي طفلا سفاحا. حتى الممثل السابق الذي اختار لنفسه لقب الزعيم بعد أن قدم مسرحية بهذا العنوان، لديه انتقادات، على الرغم من أن انتقاداته للمعارضة تجعل منه جنديا معجزة وزعيما فكاهيا.
كل هذا الغم اشتريته بجنيه واحد، ولا يوجد في الصفحة الأولى خارج نطاق الغم إلا إشارة للمونديال وخبر على عمود واحد عن ارتفاع قياسي في سعر الذهب.
وأما تفسير العناوين الكوابيس ، فيشير إلى أن الرشوة الألمانية من شركة مرسيدس لمسؤول كبير جدا تحتفظ المصري اليوم باسمه بطريقة لذيذة، ولم يعد ينقص إلا أن تقول: وأول حرف من اسمه عاطف عبيد رئيس الوزراء السابق!
وأما سليمان، فهو محمد إبراهيم سليمان وزير الإسكان السابق الذي خرج من الوزارة بقضايا فساد وتقديرات غير رسمية لثروته بثلاثين مليار جنيه وقلادة النيل مثله مثل نجيب محفوظ وأحمد زويل والبرادعي المشتوم!
وليس السابقون من الفاسدين بأفضل من اللاحقين، ففي حين يمكن اعتبار عبيد وسليمان ركيزتين من ركائز دولة الفشل؛ فإن وزيرين ولدي خالة هما أحمد المغربي وزير الإسكان الحالي ومحمد منصور وزير المواصلات الذي غادر الوزارة بسبب حوادث القطارات، اشتريا جزيرة تطل على بحيرة ناصر أمام السد العالي في مواجهة معبد كلابشة بمبلغ ثمانين مليونا من الجنيهات نظير 238 فدانا (الفدان أربعة آلاف وخمسمائة متر) مع فندق يضم 248 غرفة وخمس فيلات!
والأهم من هذا أن الجزيرة قطعة من الجنة، إن جاز للجنة أن تكون حارة في الصيف مثل طقس أسوان. مكان شهد له بذلك الرئيس الفرنسي الراحل ميتران، المثقف الحفي بأشواق روحه وجسده؛ فكانت متنزهه المفضل عندما يحل ضيفا على مصر في شتاء أسوان الدافىء.
الفرق بين وزير الإسكان السابق والحالي أن السابق متهم أمام النيابة بتهمة التربح من البيع للمستثمرين بأسعار رمزية وتسهيل نهب المال العام، أما الحالي فاشترى وسهل لنفسه.
وبما أن الصفقة هي شُغل الوزير لنفسه فقد اختار الوزير البزنسي جزيرة فاتنة بأكبر بحيرة صناعية في العالم، بينما يضطر هشام طلعت مصطفى المتهم بالقتل إلى إنشاء بحيرات صناعية صغيرة في مشروعه مدينتي الذي يفوق القاهرة التاريخية من حيث المساحة!
وليس أمام المقبل على الجنون إلا أن يستريح بجنيه واحد آخر، يشتري به نسخة من إحدى صحف الدولة ليستمتع بشروح رئيس تحرير الصحيفة حول حكمة الرئيس ونزاهة قراره بوقف صفقة بيع جزيرة آمون!
ولا أحد ممن يمدحون قرار وقف الصفقة يتساءل: لماذا لم يدخل الوزير السابق السجن، أو لماذا لم يخرج الوزير الحالي من الوزارة؟. وهو في الحقيقة لا يرى نفسه مطالبا بهذا التفسير، لأن القارىء الذي تحمله الجريدة المعارضة أو المستقلة على الجنون تأخذه الصحيفة الحكومية إلى الموت، مثل مريض تعاطى علاجين متضادين في المفعول!
التعليقات (0)