لم يرد الشاعر ساري منذ تسلله الأول، أن يضخّ في شرايين المكتبة العربية ديواناً شعرياً « رغم قدرته وتميزه في ذلك»، ومرد ذلك إلى التوجّس من التجربة ومآل تحيّزها وتشكلها، لهذا استتب به الأمر، وأخضع تجربته لسنوات عديدة، وكانت النصوص تتوالد وتتناسل بهيبة، ولم ينظر إلى إيقاعات الدواوين الشعرية التي تفرزها المطابع كلّ يوم، لأنه آمن أن لحظة الولادة التي ستجيء ذات قلق، سيكون معمارها أكثر نقاءً، لأن هذا المعمار الفني كان مناط العين، يطلّ على آفاق جديدة.
« عند أمس الحديقة»، ليست باكورة الشاعر ساري، بل هي مصفاة أراد منها أن يتأمل القارئ موازين الشعر التي خفقتْ، وأُلبِستْ حلية جاء بها من أعماق التجربة وميادينها،
لم يأتِ عنوان المجموعة الشعرية الأولى « عند أمس الحديقة» للشاعر ساري مصادفة، أو رمية في صحن العتبات كما يقال، بل من مسارات التوتر التي أغلق عليها الشاعر منازل شهوتها ودهشتها للضوء منذ أكثر من عشرين عاماً.
ديوان « عند أمس الحديقة» الصادر مؤخراً عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث في 217 صفحة من القطع الوسط، ويضم «12 « حقلاً شعرياً، يرفع من مستوى التّحدّي في الكتابة لتساير العصر وتطرح عالمها المساير للعالم الحقيقي ليكون الشعر حقيقيا فعلا وحيّا، به حياة، إضافة إلى خلق لغة شعرية تنتمي للعصر الذي يعيشه.
وهو إذ يطلق سراح ديوانه الأول، إنما ليستشعر القارىء مذاق البدايات، وعزم الفراشة، وخلخلة الفكرة السائدة عن النشر والتراكم والتهافت على تحبير الورق من غير ضوابط.
« أنا لغة تتجول في اللامكان، اتركوني هنا:، ربما يستدير الزمان، وتنضج هذي السماء كحبة تين، ليسقط قلبي...على، أثر الريح.. بعدي، على أثر الريح ..بعدي..، بددت أيامه، أبدا..أبدا».
المتصفح لديوان الشاعر ساري يقرأ بعين مغمضة، وشهية مفتوحة، لمستواها الفني، ونبض الكائن الحي الموجود داخلنا والمسمى لغة عربية، فالشاعر يحرص بمنتهى الوعي على لغته، ويمارس معها طقوسه الخاصة، وانفلاته من عقد التشكيل السطحي للأجنة اللغوية إذا جاز التعبير، فهو لا يقدم على تقشير اللغة، وتقطيعها بين مساحات النص، بل يُنمّيها منذ شرارتها الأولى في سياق الالتفات إلى الموقع العروضي المواجه والمجابه للدلالات المنقوشة نقشاً على ثوب النص المتشكل من خيط واحد، والذي تتعدد فيه تموّجات اللون والحركة.
« القصيدة تبصر في نفسها، نفسها، مطرا، يتمشّى، على الماء، كم يخدع البرق هذا النظر، كم يفتت حبرك قلب الحجر، ويسيل على أرض هذي الصور، كم تفشّى كهذا المرض
كم تعابث في عبث صار، شيئا..وصورته، صار صيرورة للغرض، صور كله الماء، لا شيء أكثر».
وتقف موسيقى الشاعر ساري على جملة من الهرميات المتخيّلة، إذ أنها لا تتشكل وفق معطيات التفعيلة، بل تأخذ من حواشي اللغة، وافتراقها عن المساحات الصوتية في لحظة التخيّل، مادة إيقاعية خصبة، تسعى إلى تغييرات واعية وكاشفة وفاحصة.
« لا نحن، لا أنا، فاحذر، لنرحل إلى الكلمات وضوحاً يليق بلُبس الحقيقة بين القصيدة والشعر، بين الإله ومألوهه، بين بين، بلا بين أو أين، حلق معي بجناحين من عدم ووجود، بلا عدم أو وجود، لكي.. نخمدا».
بقي الإشارة إلى أن قصائد هذا الديوان كتبت بين عامي «1998_2002»، والملاحظ أن الشاعر ساري، أرد من هذا الاستلال لهذه القصائد أن يربط القارىء بين محطتين أساسيتين في تجربته، المحطة الأولى ، البحث عن الحدائق الأولى قبل هذه الأعوام، والمحطة الثانية، جعل القارىء ينظر بتأمل « بعد أن يكون انتهى من قراءة هذا الديوان « حول مناخ تجربته بعد هذه الأعوام.
مواضيع اليوم
التعليقات (0)