مسح الغبار عن وجه تحفة كرم الله شغيت
صدرت حديثا عن دار المرتضى للطباعة والنشر الترجمة العربية لكتاب المستكشف البريطاني (ولفريد ثيسيغر)The Marsh Arabs عرب الهور، والتي لم تكن الترجمة الأولى كما أشار المترجم (الدكتور سلمان عبد الواحد كيوش) في مقدمته، فقد ترجم هذا الكتاب تحت عنوان (المعدان ) من قبل الأستاذ حسن ناصر، إلا أن الترجمة التي نحن بصددها تميزت باعتمادها على مرجعية الأرض التي انطلق منها النص الأصلي.وهو عمل يستحق الثناء على المؤلف في دقة التقاطه للتفاصيل وعلى المترجم في عناءاته في إيجاد المرادف الحقيقي لما كتبه المؤلف خاصة في التسميات الغارقة في المحلية، والتي لا تتحقق إلا عن دراية كبيرة بتفاصيل تلك البيئة ومفرداتها، وأحداثها الذي يصعب الاهتداء إلى مجايليها، مما يعطي هذا العمل(وأنا أعده ترجمة وتحقيقا) أهمية توثيقية تسد فراغا كبيرا في المكتبة العراقية والعربية عن عالم الأهوار، والذي آمل أن يتصدى لذلك الأمر من يجد في نفسه الأهلية لذلك خاصة وقبل أن يرحل من بقي من أبناء ذلك الزمن من تاريخ الوطن.
يسترسل المؤلف على مدى خمسة وعشرين فصلا في سرد تنقلاته بين قرى أهوار جنوب العراق، موضحا في كل فصل منها قضية مرت به متوصلا إلى هدفه من وراءها، وهي أما وصف لبيئة الأهوار أو توثيق لظاهرة معينة اجتماعية كانت أو حياتية .
لقد كان المؤلف ولعاً بالأهوار وعاش فيها لما يزيد عن ست سنوات، وكثيرا ما صرح بشعوره بلذة الحياة هناك(ص70)وبأنه يجد متعة دائما حين يكون مع البدائيين(ص309)، مبديا شكره لله على ذلك بأن لا أثر للحداثة الرتيبة الكئيبة(ص73)، فقد كانت الطبيعة ومخاطرها جزءاً مهماً من المتعة التي أحس بها المؤلف في معيشته في الأهوار حيث يقول في ص/275): ستفقد الحياة الكثير من إثارتها لولا المخاطرة).وعلى الرغم من ولعه هذا فقد لمَّحَ بين حين وآخر بشعوره بالوحشة والكآبة إذ ربما كانت تأتيه لحظات يصحو فيها على غرابته عن تلك البيئة، يقول في ص99(حينما تركني الآخرون عند الفرات شعرت بوحدة موحشة)وفي ص109(وكان القصب اللا متناهي يوحي بالكآبة من بين النور الباهت)،حتى إنه كان يزور المدينة( البصرة) كل شهرين لجمع بريده والاستحمام وكان يعتبر(( أن قضاء بضعة أيام في مبنىً مريح هو تغيير مرض ٍ)) كما في ص/251.
وقد سرد المؤلف بعد فصوله التمهيدية وبدرجة عالية من الكثافة الخلفية التاريخية لأرض الرافدين منذ أقدم العصور حتى العصر الذي استبيحت فيه بغداد على يد المغول والتتار ، موضحا فيه كيف انحدر العرب من صحراء ما وراء الفرات الى الريف وتبدل النظام الحكومي بقانون الخيام العشائري، وكيف أن الأهوار بمتاهاتها المضلة من القصب منحت ملاذا للمهزومين ، حتى تشكل النموذج العشائري بصورته الحاضرة على يد الكثيرين من الأصول التي سكنت العراق لآلاف السنين والذين نجوا وبقوا على قيد الحياة في مكان منعزل في الأهوار محتفظة بدستور الصحراء وقانونها، الذي كان المثل الأعلى والغاية التي سادت حياة المعدان وشكلت النموذج الكامل لسلوكهم، ابتداءً من الضغائن والعداوات والثأر وانتهاءً بعاداتهم وطرق سلوكهم بأدق تفاصيلها، وهذا من الاستنتاجات المهمة للمؤلف والتي توصل إليها من مخالطته لأولئك الناس.
ولم ينسَ المؤلف وهو يصف أشياءً غريبة عن بيئته وواقعه أن يتوخى الدقة في كل ما يقوله فهو لا يأتي على ذكر شيْ ٍ ما إلا وأردف بذكر أبعاده وقياساته طولا وارتفاعا ووزنا، وصولا إلى أدنى القياسات فيمثل بمقدار أصبعين مضمومين أو بالبوصة والميل والقدم والذراع والأكر.....الخ.
كما لم يغفل المؤلف أن يطعِّم كتابه بشذرات من الميثولوجيا الساحرة لعالم الأهوار والتي اختلط بعضها بإرث ديني تأصل من خلال غياب المعرفة، مشكلا حواجز أمام انطلاق السكان إلى ما وراء عالمهم الضيق.
وقد فصّـل المؤلف الكثير من عادات وتقاليد سكان الأهوار وطرق معيشتهم ونظامهم الاجتماعي والعشائري عبر أحداث عاش تفاصيلها وشارك في صيرورتها.فعندما يتحدث عن النظام الإقطاعي تراه يذكر كل ماله علاقة بذلك من الشيوخ والحاشية والأتباع(ص78) وسلوك الشيوخ وتصرفاتهم مع الفلاحين والنظام السلطوي(ص34)وفرض الضرائب على الأعمال (ص84)والشتم والتهديد والوعيد(ص53)حتى لقد استبدلت سلطة الدولة بسلطة الشيوخ(ص19). وقد ذهب بعيدا في وصف شخصيات رفاقه من الشيوخ من الكرم والبخل وقوة الشخصية، والاستهتار بحياة الأتباع من الفلاحين وإجبار الناس على العمل(ص188)، ومعاقبة الكل دون استثناء حتى رؤساء العشائر(ص287)، وقد يصل الأمر أحيانا إلى الاستهزاء بالأموات(ص85-86)، وان الشيخ بإمكانه الزواج من أي امرأة تعجبه ويكون ذلك تشريفا لأهلها ومن دواعي سرورهم. وعلى الرغم من إكرام الشيوخ له ، إلا إنه لم يتردد في أن يصف فظاظتهم (ص189) وعدم استلطافه لهم، ملقيا باللوم عليهم في هجرة الفلاحين بعيدا عنهم.
كما تحدث عن كرم الضيافة عند الناس وهي من عاداتهم المتأصلة ، وعن طريقة تقديمهم للطعام وكيف أنهم يقدرون ويحترمون الكمية على النوعية، وإلحاحهم في وجوب المشاركة في الأكل، وكيف أن المضّيف يقف على رأس الضيوف حتى يلبي احتياجاتهم. وقد ارتبط بموضوع الضيافة بناء المضايف وهي خاصة بمن توارثوها عن آبائهم، وتخصيص مكان للضيوف مرتبط بالبيت أو هو جزء منه، مسهبا في وصف تفاصيل تلك المنشآت البسيطة التي لا تعدو مكوناتها عن بعض القصب. متنبئا ً باختفاء المضيف في الخمسين سنة القادمة التي تلي صدور كتابه(ص305).
ومن ضمن ما اهتم به الرحالة ثيسيغر هو التركيب الاجتماعي لمجتمع المعدان وقيامه على نسق خاص تشكلت الرتب الاجتماعية فيه على ضوء صفات خارجية لا علاقة لها بالمؤهلات الفردية، فالمال والأملاك قد أعطت المنزلة العليا للشيخ، والانتساب للنبي(ص) قد أعطى الشرف للسادة، وكذلك الألقاب الأخرى كالحاج والزاير......الخ.بينما كانت المهن والدين سببا لدنو منزلة ناس آخرين كان المعدان يزدرونهم، كالحيساوي (زارع الخضر) والبربري(صياد السمك لغرض البيع)، والحائك والصبـّي..وغيرهم.مشيراً إلى أن ذلك ناتج من التصاقهم الشديد ببيئتهم وعملهم معتبرين أن كل عمل ما عدا الزراعة عيبا، وأنهم لا يغادرون أماكنهم إلا في أوقات الضرورة(ص84و42).ولم يترك المؤلف فئة من السكان إلا ووصف عملهم والصفحات 297 وما بعدها حافلة بذلك.
ولقد كان من المهام الرئيسية التي شكلت للمؤلف مدخلا إلى حياة سكان الأهوار هو اتخاذه للتمريض مهنة رئيسية عرف بها وذاع صيته بينهم حتى نال ثقتهم في ذلك، وتجده في أغلب الفصول يأتي على سرد أعمال قام بها وكيف أنقذ حياة الكثيرين .وقد أخذت تلك القصص حيزا كبيرا من كتابه، وكان يعلل حبه لتلك الصنعة بأن عمله الطبي يعطيه إحساسا بالقدرة على الإنجاز(ص310)،كما لم يخفِ جانبا مهما من أهدافه ألا وهو تحقيق المتعة من خلال وجوده في تلك البيئة التي أحبها ومن أكثر مظاهر ذلك إسهابه في وصف رحلات الصيد لا سيما صيد الخنازير الذي أخذ حيزا واضحا من صفحات الكتاب، وضّح فيها نظريته معللا قيامه بذلك بان الخنازير هي العدو الحقيقي لأبن الأهوار، رغم أن أشكالها الداكنة وعملية تغذيتها عند حافات جزر القصب عند المساء تعد بالنسبة له جزءاً متتماً لمنظر الهور (ص275). في حين إن الناس كانوا يتساءلون عن سبب وجوده بينهم وتحمله صعوبة حياتهم، وقد عده البعض جاسوسا (ص43) وهو يسخر من ذلك بقوله ..ما هي الأسرار العسكرية التي أستطيع كشفها في الأهوار(ص320). كما يصف مضيفيه بالدماثة لكنهم حريصون على التخلص منه ويعاملونه على أنه نجس(ص143)، ويقول في مكان آخر إن أحد السادة يستغرب كيف يسمح الناس للكفار بتدنيس بيوتهم (مشيرا إليه) ويرد عليه المضيّـف بأن الإنكليز أطهر منا(ص172)وكذلك الحال عند إقامته مع الفرطوس وشربهم للماء في إناء واحد(ص155).
ومن اللافت للنظر أن ثيسيغر كان تسجيليا في كل ما كتب، انطباعيا في بعضه، لا يخفي رأيه في المسائل الإنسانية والطباع البشرية، مفضلا السكوت إن تعلق الأمر بمسألة عرفية أو دينية، متحاشيا أن يثير حساسية هؤلاء الناس في معتقداتهم وعاداتهم(ص264)، أو أن يدخل معهم في متاهات تبعده عن هدفه الأساس متجنبا ما قد يعرضه للتعنيف كما حصل في إحدى المرات.
ومن جملة ما توصل اليه من مراقبته لحياة الناس وتسجيليته التي أشرت إليها أن النظام الإقطاعي رغم استغلاله لجهود الفلاحين وجنيه الأرباح من ورائهم، إلا إنه كان البديل الأفضل لعدم توفر مؤسسة للري تحل محله، هذا أولا، وثانيا إن الشيوخ هم فلاحون من الدرجة الأولى وعلى دراية بتفاصيل الزراعة والري في مناطقهم، وثالثا إن عامل الربح الشخصي يدفعهم للبقاء في الأرض وإدارتها، ورابعا إعطاؤهم للفلاحين حصة من الحاصل وبعض الأمن والسلام(الحماية) في تواجدهم على أراضيهم(ص188).
ومن ملاحظاته الأخرى انعدام السرية في أفعال وحركات الناس وخصوصياتهم، وهو ناشئ من طبيعة بيوتهم المتلاصقة والمبنية من القصب(ص116)، وأن بعض الأعمال لا تقوم بها النساء مثل حلب الجاموس، وأن رجال العشائر لا يحبذون المرور بمقاطعات العشائر الأخرى وهم عـُزَّل (ص99)، وأنه لم يجد أثرا لامرأة منفلتة بين العشائر معرِّجا على حياتهم الجنسية وتحفظهم الشديد (ص174). كما لم ينس أن يذكر ملاحظاته على طبيعة الأسماء الغريبة لديهم ومناسبة كل اسم منها.
وقد وجد المؤلف أن العاهة في كثير من الأحيان لا تمنع صاحبها من أن يعيش بشكل مثمر ضمن حياة المجتمع، فقد قابل الكثيرين من العميان والصم والبكم خلال سني تواجده في الأهوار (ص240)،ففي قرية الدبن وجد طفلا ولد أعمى وهو يتجول بحرية في القرية وحولها، ويذهب لمسافات قصيرة بمفرده ليجمع الحشيش.وهذا يجرنا إلى حديثه عن المهارات التي يتمتع بها سكان الهور والتي اكتسبوها من خلال مراسهم الطويل لبيئتهم وخبرتهم التي اكتسبوها في تجاوز صعابها، وقد أكثر المؤلف من ذكر تلك المهارات مبديا إعجابه بها، ساخرا من نفسه لو حاول تقليدهم، ومن تلك المهارات فراستهم في إيجاد طريقهم عبر متاهات الهور (ص233)، ومعرفة العشيرة من اللكنة التي يتحدث بها الشخص(ص271)، وتقديرات الشيخ فيما يخص الزراعة وبناء السدود ونقصان المياه وزيادتها(ص187).
ويمر الكاتب على التعليم موضحا أثره في حياة القرويين متمنيا أن لا ينجرف الشاب الذي يدخل المدرسة ليصبح إنسانا هامشيا في إحدى المدن، وهو قدر الكثيرين ممن نالوا نصيبا من التعليم في كل مكان من الشرق الأوسط، فهو يرى أن مكان الفلاح في حقله وأنه سينتهي بمجرد مغادرته لبيئته، فتعليمه الهزيل لا يكفل له تحقيق أحلامه.ومن هذا المنطلق فأن أغلب الناس يعتقدون أن التعليم شيء سيء فهو يأخذ أبنائهم منهم(ص259).
لقد وثق ثسيغر كثيرا من الأحداث المهمة في ذاكرة المجتمع الذي عاشه كان من أبرزها على سبيل المثال معركة العيسى وآل فرطوس (ص164) ومصرع الشيخ فالح بن مجيد الخليفة في الفصل السادس عشر، ( شارحا تفاصيل مهمة لمراسيم العزاء والفاتحة والاستخلاف وغيرها)، وفيضان عام 1954 والجفاف في العام الذي يليه مقيما حياة الفلاّحين الاقتصادية في كلا العامين، وتغيير طريقة حياتهم ونوع الأعمال التي أجبروا على ممارستها بعد أن كانو يزدرونها(ص283)، ومن أروع الصور التي قرأتها أيام الفيضان وصفه لعواء الكلاب فوق أسطح البيوت والبقرة الواقفة على سدة وقد غمرها الماء وهي تأكل ما تطاله من سعف النخيل (ص280)، ومما استنتجه المؤلف أن انخفاض مناسيب المياه عام 1955عجّل في نزوح ٍ هائل إلى المدن لكنه لم يسببها إشارة إلى ما ذكره عن افتتاح حقول النفط في البصرة وهجرة الفلاحين إليها للعمل والكسب مضيفا إلى ذلك السخط المتنامي لدى المتعلمين من أبناء الهور على حياتهم وسلطة الشيوخ وابتزازهم، وهم يحلمون بالهرب إلى بغداد حيث الفرص العظيمة والتنوع والإثارة(ص285).
لقد أحالنا كتاب الرحالة ولفريد ثيسغر إلى تراث ضخم ومهم لسكان الأهوار من الحوادث والقصص والأشعار تقع مسؤولية جمعه وتقصيه وتوثيقه وإخراجه إلى الوجود على المؤهلين الذين انحدروا من أولئك الأسلاف الطيبين، يؤيد قولي هذا الهوامش المهمة التي أضافها المترجم الدكتور سلمان عبد الواحد كيوش، والتي تكمن فيها المتعة الحقيقية في قراءة الكتاب.
لقد تهيأ لتحفة ثيسيغر (عرب الهور) من يمسح الغبار عن وجهها، فجودة الترجمة تتجلى في شعورنا بأن النص الذي نقرأه هو نص عربي، وأنا دائما ما أذكر قول د.حياة شرارة هذا، والمقياس الصادق لذلك سلاسة الأسلوب ومتعته وخلوه من العثرات اللغوية والجمل والمفردات الفجة والانقطاعات.ولقد شعرت فعلا بأن النص الذي أقرأه هو نص عربي عراقي بكل ما فيه من الأجواء التي وردت فيه، لا يعكر صفو ذلك إلا ورود الأسماء الإنكليزية لبعض الطيور والأسماك بين سطوره.
وأخيرا لقد بـز َّ (كيوش) كل الشعراء القادمين من المدن المنقوعة بأشعاره التي زيّـن بها بدايات الفصول، وحين قال:
سقف بيتي (بارية)/ وقدماي فوق أخرى/ولأني أجهل فقه المخمل/تراني ألمع مثل (اللـيط)
التعليقات (0)