بالكاد انتهى الجدل والسجال الذي رافق مؤتمر كوبنهاجن للمناخ العام المنصرم ، والذي ناقش مستقبل الأرض والمخاطر البيئية في لحظتنا الراهنة حتى تسيد فيلم "أفاتار" AVATAR (القرين) للمخرج الأمريكي "جيمس كاميرون" شاشات السينما في العالم أجمع تسيدا جعله على سبيل المثال أسرع فيلم خيال علمي في تاريخ السينما يحقق أعلى إيرادات وخلال فترة قصيرة جدا، وهو ما جعله يزاحم أفلاما ثلاثة حققت الإيرادات الأعلى في تاريخ السينما كله: "تيتانك" و"سيد الخواتم" و"قراصنة الكاريبي"، وربما يفوقها خلال الأيام القادمة.
الفيلم الذي وصل دور العرض بنهاية عام 2009 الذي كان مليئا بالخيبات التي اعترضت طريق صناعة السينما، ليكون بدوره بداية لعام جديد يمهد لمستقبل جديد ومشرق وغير متوقع، ينتظر تلك صناعة على كل المستويات من أدوار ممثلين، وعمليات إنتاج، وطرق إبهار، في ظل تكامل المستحدثات التكنولوجية واستثمارها بشكل أمثل، مع دخول رسوم الجرافيك وتقنيات الـ 3D (تقنية السينما ثلاثية الأبعاد Dimensions 3) بشكل مؤثر على صناعة السينما، وهو ما يهدد بوفاة أو إقصاء الممثل، أو حتى التقليل من مركزيته في العمل السينمائي كأحد تداعيات هذا العمل المبهر.
قصة الفيلــم:
عشر سنوات انتظار كي يتحقق حلم الفيلم
استغرق رسم كل صورة/ فريم 47 دقيقة
التكلفة: 300 مليون دولار
مدة الإنتاج: أربع سنوات
الوسيلة هي الرسالــة
أحد رسائل الفيلم المتخم بالإبهار الفخم الدقيق بمؤثراته الرائعة والرفيعة أنه يرفع من سقف التوقعات تجاه الأعمال السينمائية القادمة، فمهما قيل سابقا عن السينما وقدرتها على وضع المشاهد في جو مثالي يتلقى فيه الفيلم، وبشاشتها العريضة وجو القاعة المختلف والمظلم وتقنيات التصوير والعرض فإن "أفاتار" وضع سقفا عاليا للأعمال السينمائية التي تعتمد على ذات المبدأ، والتي تحتفي بالإبهار أيما احتفاء حتى لو كان ذلك عبر قصة تقليدية.
هل في ذلك تأكيد آخر وجديد على أن (الوسيلة/ الشكل) هي الرسالة؟ مؤكد طبعا، لكن من خلال ذلك (طريقة التنفيذ والإخراج) وهو ما يبدو أنه جزء أصيل من رسالة هذا الفيلم الفنية.
وهناك رسالة أخرى أيضا، فالفيلم الذي استغرق إنتاجه أكثر من سنوات أربع جعلنا كمشاهدين مندمجين مع ما قدم من صرخة عالية للتضامن مع البيئة/ الإنسان/ الأرض لكن على الطريقة الهوليودية هذه المرة، وكأن الفيلم قصد وتصيد اللحظة التي استعرض فيها عضلاته وجمالياته وأفكاره المختلفة والقديمة أيضا، مع نهاية عام وفي استقبال عام جديد آخر، وبالتزامن مع قمة كوبنهاجن في ظل تنامي الخوف على هذا الكوكب الذي يضمنا جميعا بخيرنا وشرنا، فهل هناك من يتعلم الدرس؟! وهل هناك من يتعاطف أكثر؟!
صراع بين عالمين
يقدم الفيلم لنا قصة شاب أمريكي مقعد يذهب في مهمة عسكرية إلى كوكب آخر يدعى "باندورا"؛ حيث تتواجد قاعدة عسكرية أمريكية تخطط للاستيلاء على غابة تعيش فيها قبائل "النافي" (كائنات ضخمة نصف بشرية ونصف حيوانية)، ويكون دور هذا الشاب المقعد أن يحدث اختراقا في عالم هذه القبائل، ويتعرف على أسرارها ونقاط ضعفها؛ تمهيدا للسيطرة عليها وهو ما يكون من خلال تعرف المقاتل الأمريكي على ابنة زعيم القبيلة بالصدفة (يقع في حبها لاحقا)، التي تنقذه بدلا من أن تقتله؛ لكونها تشعر به مختلفا عن غيره ممن يأتي للغابة من "رجال السماء" (الغزاة القادمون من الأرض).
الشاب المقعد الذي يتحول إلى "قرين" أو "أفاتار" مستنسخ يشبه سكان قبائل "النافي" من خلال ربط عقله بجسد مخلق ومُصنع شبيه بأجساد السكان الأصليين؛ حيث تصبح روحه بجسد مختلف ومن خلاله يتواصل مع تلك القبائل ويتدرج في اكتساب ثقتها، فيمد القاعدة العسكرية بالمعلومات التي تحتاجها للاستيلاء على المواد الخام التي تتواجد أسفل الشجرة المقدسة التي تسكن هذه القبائل أسفلها، وفي لحظة تنفيذ هذه المهمة يحدث التحول في موقفه وشخصيته بعد أن أصبح جزءا من هذه القبائل، وأدرك قيمة الحياة التي تعيشها هذه القبائل، وبذا يظهر الدور المركزي لهذه الشخصية المتحولة فكريا بمقدار ما تحولت من طبيعتها الإنسانية إلى طبيعة سكان "النافى".
فيحاول أن يمنع الهجوم على الغابة.. فيعجز أمام غطرسة القوة، ليحاول بداية إقناع القبائل بترك الشجرة المقدسة حفاظا على أرواح الأهالي، لكنه يفشل أيضا ليكون القصف والتدمير الوحشي من نصيب السكان الأصليين، وهو ما يدفع بالشاب ومجموعة من رفاقه إلى التحول إلى مقاتلين للغزاة الجدد.
إسقاط سياسي
يقدم الفيلم قصة عالمين، عالم مكون من "رجال السماء" (رمز الشر والقوة والمادة والغطرسة والاستعمار)، وعالم آخر افتراضي وخيالي، وخرافي وسحري وجميل ومبدع يضم العالم الذي تعيش فيه قبائل "النافي" على كوكبها المسالم والهادئ إلى جانب الحيوانات والأشجار والنباتات والطيور الخرافية، وهو العالم الذي قدمه المخرج عبر الجرافيك المتقن والمبهر وتقنية الـ 3D فلم يظهر بشكل واقعي، بل تجاوز ذلك التوقع فرسم عالما خرافيا له سحره وجاذبيته ودهشته المختلفة؛ حيث أظهر تفاصيل المخلوقات التي تعيش في الغابة كما نباتاتها وحيواناتها وشجرها التي كانت تضحك المشاهدين الذين يشعرون أنهم يشاهدون الفيلم من داخل الغابة هذه المرة بفضل استخدام النظارات الخاصة.
رمز الفيلم عبر تقديمه تلك الثنائية السابقة إلى إسقاط سياسي أمكننا رصده من حكايته الكلية تارة، ومن خلال بعض الجمل القصيرة التي كانت تبوح وتصرح بالكثير تارة أخرى؛ حيث سنسمع ونحن نشاهد الفيلم جملة على لسان أحد الجنود المنشقين عن "رجال السماء" الرافضين لمنطق الحرب والقتل وتدمير الغابة؛ حيث يقول: "عندما تحتاج شيئا وتجده عند غيرك.. تجعله عدوك.. كي تتمكن من الحصول عليه بالقوة".
كما نسمع جملة الجندي المقعد الذي يقول لقائده: "إن هذه الشعوب لا تطمع في شيء من حضارتنا، فهم لا يسعون إلى ارتداء الجينز ولا يريدون شرب الكوكا كولا"، وهي مفردات من رموز الحضارة الغربية.
وفي مشهد ثالث نسمع عبارة أخرى على لسان قائد الجيش الغازي: "سنواجه الإرهاب بالإرهاب"، وذلك ردا على تجميع قبائل "النافي" وتوحدها بحيواناتها ونباتاتها دفاعا عن الغابة التي قدمها المخرج بكل مكوناتها في شكل هارموني متسق لتخدم فكرة فيلمه.
ذلك الغازي القادم بأطماعه وجشعه بدا غير عابئ بالطبيعة الساحرة وخارقة الجمال ولا بقيمة المكان المقدس الروحية الذي برع المخرج في تقديمه؛ حيث يعيش فيه سكانه بسلام وهدوء، تتواصل فيه قبائل "النافي" مع أجيال سابقة عبر أدوات ومجسات خاصة، يسمعون أصوات من سبقهم بأحلامهم وأمانيهم، يبكون بحرقة شديدة إذا قتل حيوان أو ماتت شجرة.. إلخ من مكونات عالم خرافي متشابك ومترابط رسم بالاتكاء على الأسطورة والخرافة والخيال العلمي، وعبر كل ذلك ربطت عوالم الغابة الضخمة المعلقة بتفاصيلها الصغيرة والدقيقة بعضها ببعض مدللة على ذات المصير المشترك الذي ينتظر الجميع، وهو ما ينعكس على معركة الدفاع عنها أمام الغزاة الجدد.
وهو ما يجعلنا نطرح سؤال: ألا تبدو وحشية الغرب (أمريكا مثلا) وأطماعه هي التي قادته إلى عوالم مختلفة (كالعراق مثلا)، في سبيل حصوله على مصدر قوته وطاقته (النفط مثلا) دون أي اهتمام بالبشر أو الشجر بعد أن سقطت كل الحجج؟ ذات الأمر يمكن أن ينطبق على فلسطين وحكايتها مع غزاتها ومحتليها.
لكنها ذات السينما التي تطرح تلك الأسئلة المتفجرة على الحضارة الغربية نجدها لا تبخل بتقديم الحل من داخلها كما هي العادة في مجمل الأفلام التي تحمل نفس التيمة، فالبطل الغربي ذاته يصطف مع قبائل "النافي" ويقوم بتنظيم القبائل ويجهز مصادر القوة والخطط للمواجهة، فيتحول البطل الأمريكي المقعد إلى قائد عظيم لهذه الشعوب ويتمكن من القضاء على الجيوش الغازية. إنها جزء من مركزية الغرب التي تفرض عليه أن يكون المنقذ دوما مثلما هو المعتدي والمدمر والباطش، حيث يعجز سكان الغابة عن تدبر أمر الدفاع عن أنفسهم أو أن تنجب بطلا قادرا على خوض غمار المعركة للدفاع عن سر وجودهم.
صحيح أن مشاهدة الفيلم تحقق حالة من الاندماج معه بما يقدم من مزج بين الصورة السينمائية الاعتيادية مع الصور التي ينتجها ويطورها الكمبيوتر، لكن تلك الحالة المثالية أعاقها جملة من العوامل، منها: الترجمة العربية التي كان يعيق قراءتها عن الشاشة العريضة الإحساس بواقعية الأحداث وجماليات الصورة، إضافة إلى أسماء الشخصيات أو الأماكن أو الآلهة أو الحيوانات.. إلخ التي أرهقت المشاهد وفصلته في فترات معينة عن الاندماج مع الأحداث في ظل تعقيدها وصعوبة حفظها أو حتى نطقها.
موت الإنسان
في نهاية الفيلم نرى البطل المقعد الذي تحول لقائد تولى مقاومة قبائل "النافي" يتحول من إنسانيته (الأرضية) التي جلبته لدمار هذه الغابة/ الجنة إلى "إنسان أفاتاري" مثل سكان قبيلة النافي الذين انحاز لهم، فبعد أن كان قرينا مستنسخا يصبح مخلوقا يشبهم؛ حيث تنتقل روحه من جسد الإنساني إلى جسده الأفاتاري الجديد، والذي تباركه الآلهة "إنوا" وتمنحه هويته الجديدة.
هذا التحول ذاته هو الذي يجعلنا نستشف رسالة الفيلم التي يرثي فيها موت الإنسان، وإن كان من خلال تحوله كحل أمثل ليكون واحدا من الجنود المدافعين عن كوكب "باندورا" بكل الرمزية التي يحملها ودلالاته الكامنة والمباشرة أيضا، في ظل ما يفعله الإنسان المادي/ المعتدي على كوكب الأرض الذي شاخ قبل أوانه.
قد نفهم حالة رثاء الإنسان أو موته في أن العمل يبشر أيضا بموت الممثل السينمائي هذه المرة، وهو الذي أصبح يرهق ميزانيات إنتاج الأفلام ليكون البديل في تخليق شخصيات برسومات الجرافيك تحاكي الإنسان العادي بما تؤديه من حركات ومشاعر وأحاسيس ربما تفوق ما لدى الإنسان العادي؛ حيث كان باديا على بعض المشاهدين تأثرهم بالمشاعر والأحاسيس التي قدمها الفيلم لمخلوقات الغابة، ربما لصدق اللحظة الدرامية وعمق الصورة وقوة الإحساس بمكوناتها، فالمخرج منحها إمكانيات تعبيرية لم تكن متاحة للممثل العادي.
وهو ما يجعلنا نسأل: هل تعاطف المشاهد أكثر مع سكان كوكب "باندورا" بما يرمز له من سكان كوكبنا الأرض أم أن الأمر كان عبارة عن استهلاك متعة وترفيه تضاعفا بانشغالنا كمشاهدين بمتابعة آخر كرنفالات الإبهار سينمائيا؟
إنه سؤال تختلف إجابته باختلاف المشاهدين ووعيهم بهكذا أعمال، والويل الويل لعشاق السينما لو لم يشاهدوا العمل في قاعة السينما؛ لكوننا سنخسر تجربتهم في تلقي العمل، وفرصة إجابتهم على ذلك السؤال المصيري.
ـــــــــــــــــــــــــ
التعليقات (0)