" لمكة رب يحميها"
كنت في حوار عائلي أناقش مع شقيقتي جديد العائلة وظروف العمل وأحوال الغربة, فإذا بالنقاش تطور لنناقش مسألة المرض, "نجانا الله وإياكم" فكان أن قالت وبكل تلقائية "كم يحزنني أمر الملك,كلما رأيته في شاشة التلفزيون, يظهر عليه الإرهاق والتعب, ربما يعاني من مشكلة صحية... "فضحكت من قولها وغيرت موضوع الحوار.
الشخصيات المهمة من قبيل "الملوك والرؤساء وأيضا بعض الشخصيات العسكرية الوازنة" تُحاط بعناية طبية بشرية فائقة, ولا يمكن لأي أحد أن يتصور حجمها أو نوعها... فتراهم كلما ألمت بهم نازلة, يُنقلون على عجل عبر طائرات خاصة إلى أكبر المستشفيات, وينزلون ضيوفاً على خيرة أطباء الكون... تراهم لا يستحيون من التوجه إلى أكبر العواصم, مثل نيويورك, أو باريس... من أجل تلقي فحوصات روتينية, ربما يمكن أن يتلقوها وهم داخل بيوتهم.
" ... كم ساذجة طيبة القلب أنت يا أختي...؟"
كلما رأيت شخص الملك إلا وأتذكر قول شقيقتي, كلما فكرت في قولها إلا وأتذكر من لا يراؤون على شاشة التلفاز ولا يعرف عنهم أحد شيئاً ولا يُنظر إليهم, ولا يُسمع إلى صوتهم, ولا يرد إليهم بال...أولئك الذين تعبوا من مقاومة الحياة, ثم مقاومة المرض, فاستسلموا في النهاية, وقبلوا رحمة أبدية تعفيهم من معاناة دنيوية, وتعفي أهلهم ومحبيهم من معاناة مضاعفة...
"أحمد" صديق طفولتي, ذهب في عمر الزهور, كان قوياً نشيطاً مليئاً بالشباب والحيوية, كان سعيداً بزيارتي له, استقبلني بحرارة, وأبدع في الابتسامة لكي لا يُشعرني بمعاناته,عندما رأيته, فزعت من تغير شكله, عظام بارزة, وجلد يغطيها..
وعدته أنني سأزوره في اليوم الموالي, لكن الموت سرقه قبيل شروق شمس اليوم التالي...لقد آلمني الأمر بشدة... رحمك الله يا أحمد".
والدتي المقعدة, تعاني في صمت... ذهبت كل الحواس... وبقيت الروح تتحرك في جسدها النحيل, لا حركة, لا كلام... هناك أمل فقط... أمل في العيش قليلاً من الوقت لعلها ترى ابتسامة أبنائها حولها, تحس بهم تشعر بهم تحضنهم ويحضنونها, لكنها أبداً لا يمكن أن ترجع كما كانت... تحرك يدها اليسرى بصعوبة, تشير إلى مكان الألم...
هذا كل شيء... هي رحمة الله ترعاها, هي ابتسامة أبنائها ورعايتهم لها هي التي تزرع فيها أملاً جديداً مع شروق شمس كل يوم, هي مشيئة الله التي صنعتها. وهي نفسها التي صنعتنا, وجعلت قدرنا وقدرها أن تتألم, ونتألم لألمها, هي الأقدار جعلتها تتعذب كل يوم... كل كلامي معها حمد لله وشكر على نعمة أنعمها عليها, كنت أقول لها " أمي, إن الله يحبك, وجعلك تتألمين ليعلم مدى إيمانك... فلترضي الله بإيمانك..." تكون هذه الكلمات كالثلج في صدرها, ترفع رأسها قليلاً إلى أعلى وتقول بصوت غير مسموع, "رضينا بالله" .
لن تَسَعَنَا كلماتنا لنذكر أسماء من قضوا في صمت ولنتذكر كيف قضوا وكيف أمضوا آخر أيامهم وهم يصارعون, يكافحون, يحاربون من أجل الشفاء, لكن بلا جدوى... فكثير من المشاهير من فنانين ورياضيين, عاشوا التهميش فطالهم النسيان ففاجأهم المرض, وضيق اليد, فمنهم من قضى نحبه, ومنهم من ينتظر... هذا الإنتظار هو الذي جعل من لا مهنة له يتقن فن الدفاع عن بعض الأمراض المستعصية عن طريق إنشاء جمعيات فارغة ليجعل لنفسه تاريخاً فوق معاناة من ألم بهم المرض, فالمحظوظون منهم تسلقوا مجال السياسة في ظرف وجيز, أما من خانه الحظ فينسحب قاصداً مكاناً آخر لعله يجد فيه أملاً يتسلق به سلم الكبار...
فكما للشخصيات الكبيرة, أطباؤها وطباخوها وخدمها وحشمها, فلنا رب يحمينا...
انتهى ....
عبد الله بولحيارا
التعليقات (0)