يمارس الشاعر المغربي " علي العلوي " كتابة قصيدة الوطنية المفعمة بالبوح والنبرة
الواضحة والألم الدفين في مكنوناته النفسية . فهو يربط كتابة القصيدة بعالم الأحاسيس والمشاعر الوطنية وإضاءة المناطق الأقرب تواصلا مع نوازع النفس لديه ، ولذلك نقرأ في شعره بعدا عن الحدث السياسي المباشر والواقعي ، فالحدث السياسي اليوم نجده متداخلا في قصيدته بطريقة ضمنية حيث يصغي لأصوات داخلية تدعوه لوضع الواقع السياسي والمجتمعي داخل وطنه رهن إشارة القصيدة بأسلوب ضمني غير واضح .
الشعر عند الشاعر المغربي " علي العلوي " يؤسس لتجربة شعرية مختلفة عن العديد من التجارب الشعرية المغربية المنتشرة حاليا . هذه التجربة إن تمت متابعتها فإنها ستضع قدمها في طريق الوصول إلى تجارب شعرية عربية كبيرة أخرى سبقتها من تجارب الشعراء المعاصرين .
المجموعة الشعرية للشاعر علي العلوي " أول المنفى " لا تبتعد عن تجارب وأعمال شعرية أخرى قرأناها وسجلنا إعجابنا بها واستمتعنا بقراءتها ، سواء من حيث أسلوبها الصافي والراقي في الكتابة الشعرية الحداثية والحديثة أو من حيث تمكنها من الاقتراب من بعض الرغبات والمشاعر ملؤها التطهر والصدق والأمان بعد الغربة والمنفى الإنساني والسياسي واقترابها من أحاسيس الوطنية والإنسانية المرهفة .
مجموعة على العلوي الشعرية " أول المنفى " تعطينا اليقين على وجود شاعر كبير وراءها ، بحيث من خلال قراءتها يبدو لنا كأن الشاعر يحيا فوق أرض مليئة بالألم والموت والتعاسة ، والإسقاطات الغريبة التي نقرأها في المجموعة توحي لنا بوجود الكثير من الأخطار والحوادث التي يكون المنفى والموت والدم عناصر وقوعها وحدوثها . وكما لا يمكن في هذه القراءة أن نغفل الأثر البالغ للعديد من الشعرا الفطاحل والكبار في إغناء تجربة الشاعر ، فهناك العديد من الأساليب الشعرية التي كان يمتاز بها شعراء القرن العشرين الذين وصموا ديوان العرب الأول بقصائد عظيمة وخالدة من أمثال نزار قباني والسياب وصلاح عبد الصبور ... نجدها في بعض قصائد الشاعر تبصم بصمتها القوية وهذا لا يدخل في نطاق التقليد طبعا حتى لا نصنف الشاعر علي العلوي ضمن هذا الإطار ، بل يدخل في باب الاغتناء الفكري بتجارب شعراء كبار ونسج تجربة شعرية جديدة قريبة إلى هذه المدارس ولكنها مستقلة بذاتها .
" همس الوداع " و " أول الموت " و " غياب " و " سنابل الحزن " و " الطيف المفقود " وغيرها من قصائد الديوان والتي يصل عددها 24 قصيدة ، من خلال هذه القصائد وغيرها يمكننا أن نقرأ عن الموت والوداع والغياب والألم والفراق والمنفى والرحيلب والبكاء والفقد والصمت والفراغ والرماد والظلام و .... كلها عبارات تشي بمشاعر غير جميلة وغير محببة للحياة ، وتدفع المرء دفعا إلى تبني حياة الظلام والضياع . إذن الشاعر يعيش في عالم قاس وغير عادل ، لا يمكن للسعادة أن تحتمل وجوده ولا تريد استقباله قط ، بل هناك من يريد إبعاد هذه السعادة من حياة الشاعر ، ففي قصيدة " همس الوداع " يؤكد الشاعر تشرده ورفقائه في أدغال العزلة من أجل الرغيف ، بل يعتبر نفسه ومن معه مجرد أنشودة لترتيب الغياب إلى عوالم القبر والموت يقول الشاعر :
... في المرة الأولى
توحدنا كما لوح
بأسلاك الوريد .
والآن ليس لنا
سوى عمر
يبدد هذه الذكرى
وليس لنا
سوى قبر
تكسر بين أقداح النبيذ .
وفي قصيدة " أول الموت " يستدعي الشاعر أرواح الذين رحلوا وماتوا من أجل قضية عادلة ومن أجل أن يعيش الناس من بعدهم في وضع مريح وفي حياة سليمة ملؤها الحب والحنان والكفاف . إن الشاعر هنا ينقل إلينا تجربة أناس ضحوا بكل شيء من أجل إسعاد الآخرين ودافعوا عن الكرامة الإنسانية . وكان احتفاله / احتفالنا بهم يليق بهؤلاء الذين تمكنوا من غزو مخيلاتنا جميعا والسيطرة على دوافع تفكيرنا الإنساني والقيمي داخل قلوبنا يسكنون بدون دفع أجور الكراء أو ما شابه ، يقول :
هذا المساء .
سنحتفي بالعابرين إلى العراء .
بأول الأموات
والكلمات
والأرض التي أضحت هباء .
سنصوغ
أول صرخة للحزن
من أحزاننا
ونصوغ أسئلة
تلاشت في السماء .
هذا النشيد المفعم بالحزن وتذكر الأموات يصعد في فضاء أسطوري عظيم ويجعل من الأموات الراحلين رمزا لإعادة صياغة الأسئلة التي تلاشت في السماء وذهبت بدون رجعة ، هذا النشيد سيجعلنا نتذكر ونصوغ تلك الأسئلة التي ماتت بموت هؤلاء الميتين هو ثمرة نضالهم وتضحيتهم ، فما أروع هذا النشيد إذن ....
لم تكن مهمة الشاعر علي العلوي سهلة في إخراج هذا الديوان إلى الوجود ، فاستحضار كل هذه المشاعر الأليمة والسوداوية دفعة واحدة لا بد أنها جعلته يعيد شريط الذكريات ويستحضر الكثير من الصور التي مر بها ومرت بها الكثير من الشخصيات التي استنبط منها قصائده الجميلة ، بل كان استحضاره لواقع أحد أصدقائه الذين ذهبوا سدى في زمن غابر ، نجد هذا في قصيدة " جرح الذاكرة " ، تلك الذاكرة التي انجرحت بمجرد تذكر هذا الصديق الذي قضى ، وحتى المنفى لم يكن وسيلة ناجعة للنسيان وعدم التذكر :
يا صديقي
كل يوم ينقضي
يترك في ذاكرتي جرحا
وفي أمكنتي منفى
فلا الجرح شفى جرحي
ولا المنفى ملاذي
أين نمضي ؟
كيف نمضي ؟
أسئلة تعددت في الديوان ، ولم يجد الشاعر لها جوابا ، بل استعصى عليه الأمر في البحث عن أجوبة لها . وكيف يجد لها جوابا وهي مثل الطيف لا تكاد تظهر لتغيب ثانية . تبقى الإشارة إلى أن الشاعر علي العلوي مازال مستمرا في طرح تجربته الشعرية في العديد من المنابر والمواقع الثقافية المنتشرة عبر العالم ، وهذا ما يثلج الصدر ، فعكس البعض من مبدعينا من جربوا حرقة الإبداع ونشروا منتوجاتهم وبعدما اصطدموا بواقع القراءة وتوقفوا إلى الأبد . فشاعرنا علي العلوي لازال مصرا على الكتابة والإبداع رغم كل الظروف المحيطة بنا .
عزيز العرباوي
التعليقات (0)