ما هذا الذي يحدث اليوم في ليبيا.. و في اليمن و البحرين و سلطنة عُمان.. و ما ذاك الذي حدث في تونس ؟!.. الكل يتحدث عن ثورات شعبية و ثوّار و أنا أقرأ و أستمع و أرى .. و أتساءل بسذاجتي المعهودة: يا سبحان الله.. من أين خرجت كل هذه الثورات " المباركة" و أين كان يختفي كل هؤلاء و أولئك الثوار الأبطال ؟ يا سبحان الله، الشعوب العربية أصبحت تنتفض ضد حكامها و تقود الثورة تلو الأخرى لتحرير نفسها من قادتها التي فجأة اكتشفت أنها عدوتها رقم واحد !
من اليمن.. إلى البحرين... إلى ليبيا.. العرب يخرجون إلى الشوارع رافعين شعارا رئيسيا واحدا تعود حقوق ملكيته للشعب المصري: " الشعب يريد إسقاط النظام".
الشعب يريد.. يريد ماذا ؟ .. انه يريد إسقاط النظام !
الشعب إذن، يريد إسقاط النظام !
من هو النظام ؟
المعروف أن المقصود بالنظام هو " نظام الحكم" le système dirigeant . المصريون، و إن اقتبسوا "ثورتهم" من التونسيين، طالبوا منذ 25 جانفي ( يناير) 2011 بإسقاط النظام ، فما كان إلا أن سقط رئيسهم حسني مبارك و غادر حكم البلد. فهل يمكن الحديث هنا، عن نجاح المصريين في إسقاط النظام ؟ حتى و إن ذهب حسني مبارك و صفوت الشريف و شلّة من الأسماء اللصيقة به و التي أصبحت تُعدُّ رموزا للسلطة في مصر، أعود و أتساءل و أسأل: هل سقط النظام في مصر؟ كل الوجوه التي تطلُّ عليّ في القنوات التلفزيونية الفضائية العربية، متأكدة من أن مطلب سقوط النظام في مصر قد تحقّق. لكل هؤلاء أنا أقول: لم يسقط أي نظام لا في مصر، و لا في تونس و لن يسقط أي نظام لا في ليبيا و لا في اليمن، أو البحرين أو سلطنة عُمان أو بعد حين في المملكة العربية السعودية أو قطر أو سوريا أو الجزائر أو المغرب أو في أي بلد عربي آخر. أنا هكذا أفكّر و من سوء أو حسن حظي و حسن أو سوء حظ أمثالي أن الشيخ يوسف القرضاوي لا يفكّر نيابة عنا، و أننا لا نرى بعيني قناة " الجزيرة" و من فيها و من خلفها و من أمامها.. و أننا لا نستوعب لغة قناة " العربية" التي لا أفهم لماذا أطلقوا عليها اسم " العربية" بينما، الذين يعملون بها " يُهرّسون" اللغة العربية!
صحيح أن زين العابدين بن علي لم يعد رئيسا لتونس، و صحيح كذلك أن حسني مبارك لم يبق رئيسا لمصر، لكن ما هو غير الصحيح، أن نظام الحكم في هاذين البلدين قد سقط أو اختفى أو ذهب بلا رجعة. و لكل من هو مقتنع بعكس هذا الكلام، أقول سائلا: من هو نظام الحكم، حتى تحكم عليه بأنه سقط أو رحل أو ذهب ؟ من هو ؟ هل هو الرئيس أو الملك أو الأمير أو القائد الأعظم ؟ هل هو الزعيم "نمبر وان" و رئيس حكومته و كل وزراء حكومته ؟ هل هو الرمز الأول ( الملك أو الرئيس... أو ) و كامل أفراد طاقم حكومته، و ضبط جهاز الأمن؟ هل هو الرمز الأول و كل وزرائه و ضباط جهاز أمنه و ضباط جيشه من أعلى إلى أدنى رتبة ؟ هل هو الرمز الأول و كل الوزراء و ضباط الجيش و ضباط جهاز الأمن و كل ضباط و مسؤولي أجهزة الأمن الأخرى على اختلاف ألوان قبعات أعوانها و كل قيادات أجهزة المخابرات على اختلاف تسمياتها ؟ هل هو الرمز الأول و كل الوزراء و ضباط الجيش و ضباط جهاز الأمن و كل ضباط و مسؤولي أجهزة الأمن المتنوعة الأخرى و كل قيادات أجهزة المخابرات المختلفة و كل نواب الشعب في البرلمان و في كافة المجالس المنتخبة المحلية و الولاة ( كما هو الشأن بالنسبة للجزائر مثلا... لأن التسميات تختلف من بلد إلى آخر) و كل رؤساء الدوائر ؟ هل هو الرمز الأول و كل الوزراء و ضباط الجيش و ضباط جهاز الأمن و كل ضباط و مسؤولي أجهزة الأمن المتنوعة الأخرى و كل قيادات أجهزة المخابرات المختلفة و كل نواب الشعب في البرلمان و في كافة المجالس المنتخبة المحلية و الولاة و كل رؤساء الدوائر و مديري البنوك و عمداء الجامعات و من معهم من موظفين و موظفي الوزارات و الإدارات المحلية و مديري المدارس على اختلاف مستوياتها و أطوارها و تسمياتها؟
قد أذهب بعيدا في سؤالي هذا. و الإسهاب قد لا ينفعني في إقناع الكثيرين و ليس القلّة بأن كل فرد عربي يشغل أي منصب مهما بدا صغيرا أو يتحمل أي مسؤولية تسيير مهما قلّ شأنها، إنما هو جزء من ذلك الكيان الضخم المسمّى " نظام" ( أي نظام الحكم ) .. و قد يضحك البعض حينما يكتشفون أنني أعتقد أن أي فرد منا، حتى إذا لم يكن يشغل أي منصب و لا يضطلع بأي مهمة تسيير على أي صعيد كان، إنما هو كذلك، جزء من النظام.
إن ذلك الغول العملاق المسمى " النظام" ما هو إلا صورة مكبّرة لكائن مجهري اسمه " الفرد". فرد يكذب = نظام يكذب. فرد منافق = نظام منافق. فرد جبان = نظام جبان. فرد يسرق = نظام يسرق. فرد يراوغ = نظام يراوغ. فرد يغش = نظام يغش. فرد خائن = نظام خائن. فرد رديء = نظام رديء. فرد أناني = نظام أناني. فرد جاهل = نظام جاهل. فرد طاغية = نظام طاغية. فرد لا يخشى الله = نظام لا يخشى الله. فرد كسول = نظام كسول. فرد لا يفكر = نظام لا يفكر. فرد مستبد برأيه = نظام مستبد برأيه. فرد وسخ = نظام وسخ. فرد يخون الأمانة = نظام يخون الأمانة. فرد لا ينتج = نظام لا ينتج. فرد يعتدي على مال و دم و أعراض الناس = نظام يعتدي على مال و دم و أعراض الناس.... و القائمة طويلة.
على النقيض: فرد صادق = نظام صادق. فرد لا ينافق = نظام لا ينافق. فرد شجاع = نظام شجاع. فرد لا يسرق = نظام لا يسرق. فرد لا يراوغ = نظام لا يراوغ. فرد لا يغش = نظام لا يغش. فرد لا يخون = نظام لا يخون. فرد كفء = نظام كفء. فرد يفكر في الناس = نظام في الناس. فرد متعلم و مثقف = نظام متعلم و مثقف. فرد عادل = نظام عادل. فرد يخشى الله = نظام يخشى الله. فرد يعمل = نظام يعمل. فرد يفكر = نظام يفكر. فرد يقبل بآراء الآخرين = نظام لا يغلق الباب أمام آراء الآخرين. فرد نظيف = نظام نظيف. فرد أمين = نظام أمين. فرد ينتج = نظام ينتج. فرد يحفظ مال و دم و أعراض الناس = نظام يحفظ مال و دم و أعراض الناس... و القائم تطول كذلك.
إنني أستهلك طيلة أسابيع كمّا مقزّزا من الكلام عن أنظمة الحكم الفاسدة في البلدان العربية، لكني لم أسمع من يتحدث عن مجتمعات فاسدة في الوطن العربي.
نعم نحن العرب، نشكّل مجتمعات فاسدة، و لذا تحكمنا أنظمة حكم فاسدة، حتى أن أحد الأصدقاء يلحُّ على القول بأننا نكوّن مجموعات شيئية و ليس حتى مجرد مجموعات بشرية، و لكن لا نكوّن مجتمعات. في المقابل نريد لأنظمتنا الحاكمة أن تكون صورة طبق الأصل للأنظمة التي تحكم مجتمعات الولايات المتحدة الأمريكية، و فرنسا و بريطانيا و النرويج و السويد و الدنمرك و كندا و هولندا و بلجيكا و ألمانيا... و القائمة لا تقل طول عن طول ضياعنا و بأسنا و تعاستنا و فقرنا و جهلنا.
ما من عربي لا يعرف أنه: " كما تكونوا يولّى عليكم". و مع ذلك، نحن نتحدث عن أنظمة الحكم عندنا، كما لو أنها نزلت من السماء، و لم تخرج من لحمنا و دمنا.
في الغرب، تحكم أنظمة صالحة لأن المجتمعات صالحة.. و لأن الفرد صالح. عند العرب، تحكم أنظمة فاسدة لأن المجتمعات فاسدة .. و لأن الفرد فاسد. و أنا لست مستعدا لأن أخوض مع أي طرف كان، في إشكالية: من ظهر الأول الدجاجة أم البيضة ؟ أي من المتسبّب في إفساد الآخر: أنظمة الحكم العربية هي التي أفسدت مجتمعاتها ( إن يمكن الحديث عن مجتمعات ) أم أن المجتمعات العربية هي المسؤولة عن فساد الأنظمة التي تحكمها. لماذا لا أخوض في هذه الإشكالية؟ ببساطة لأنني أعرف منذ نعومة أظافري أن " العود المعوج يظل معوجّا" و أن العطّار لا يُصلح ما أفسده الدهر، و أن كل إنسان عربي بلغ سن البلوغ و هو أعوج ، سوف يبقى أعوجا بل و سيخلّف أناسا معوّجين مثله و ربما أكثر اعوجاجا منه.
إن العبرة بالنتائج... و أنا لا أرى - و هذا رأي الذي لا يلزم إلا شخصي- أي نتائج قد تحققت لا في تونس و لا في مصر، بعد كل تلك الثورات المسماة "مباركة" و بعد كل ذلك القتل و التقتيل و الحرق و التخريب و الهرج و المرج و الصراخ و القفز هنا و هناك ، كما أنني لا أتوهم تحقق أي نتائج لا اليوم في ليبيا و لا غدا في أي بلد عربي ، لأن مأساتنا أعمق من أن تُختزل في إسقاط اسم أو مجموعة أسماء . فكلنا نظام و نحن النظام و النظام ما هو إلا نحن. إن العيب فينا.
يذهب زين العابدين بن علي، يأتي زين عابدين آخر، تونسي مثله لكنه لن يحقق لشعب تونس لا الرخاء و لا الرفاه و لا العيش الكريم و لا الحرية و لا الأمن و لا الديمقراطية.
يرحل حسني مبارك، يخلفه حسني مبارك آخر، مصري الدم و الجنسية، لكنه لن يعطي للشعب المصري لا حرية و لا ديمقراطية، و إن أعطاهم حرية و ديمقراطية، فانه سوف لن يعطيهم ما يكفي من " عيش" ( خبز).
يختفي معمر القذافي، فيأتي بدلا منه قذافي آخر لا أحد يشكّك في ليبيته، لكنه سوف لن يقدم للشعب الليبي أكثر من الوهم و كثيرا من السرّاب. و عندنا في الجزائر، يرحل بوتفليقة، و لا أنتظر منذ الآن، من يقنعني بأن بديل بوتفليقة سوف لن يكون لا أحسن منه و لا أسوأ منه.. لأن ذلك البديل، ببساطة سيكون بوتفليقة لا أكثر و لا أقل.
شهيّة طيّبة.. بالصحة و الهناء... مزيدا من التلذّذ بالأطباق التي تقدمها لنا " الجزيرة" و " العربية " ، و لكن علينا أن نعلم بأن الشمس أقسمت بألا تشرق إلا من الغرب.. و على الغرب، و على الغرب وحده (!) و أننا مهما أسقطتنا من أسماء و أوهمنا أنفسنا بأننا أسقطتنا أنظمة حكم، فإننا في الشقاء ننعم ، و إلى الأبد بإذن الله. لأن الأجدر بنا كلنا أن نُسقط أنفسنا أولا... فالمرض فينا.. في كل واحد منا، و ليس في أنظمة حكمنا وحدها.
جمال الدين حريز
كاتب صحفي جزائري
03 مارس 2011
التعليقات (0)