(مقالي في جريدة الوفد يوم الثلاثاء 10 مايو 2011)
استمر حبيب العادلي وزيرا للداخلية 14 عاما، لتكون أطول مدة يقضيها وزير داخلية مصري في منصبه، ساعده ذكاؤه في فهم نفسية سيده "مبارك"، استعان بجميع الوسائل التي تؤكد ولاءه لولي نعمته، أوحى له ولأسرته الحاكمة بأنه كفيل بحمايتهم من الغوغاء والعامة، وأنه قادر على بث الرعب في نفوس من لا يرضى عن السياسة التي وضعها رجال حاكم وصل إلى كرسي الرئاسة بالمصادفة، استطاع بألاعيبه إحكام السيطرة على أفراد الأسرة المغرورة التي ظنت أنها تلقت توكيلا إلهيا بحكم مصر إلى يوم الدين. الحاكم الطاغية يحتاج إلى من يحمي عرشه ممن يهدده، استطاع "العادلي" تمثيل الدور ببراعة، كان كالحاوي الذي يقدم للمتفرجين الحيل التي تثبت أنه قادر على الإتيان بالأعاجيب، ونالت خدعه استحسان الأسرة التي انعزل أفرادها عن الشعب في قصور محصنة وبقوات أمن تحيط بها في كل مكان تذهب إليه. اخترع "العادلي" حوادث إرهابية هنا وهناك، وأتي ببعض ضحاياه من الشعب ليعلن أنهم الإرهابيون الجناة، لينال إعجاب سيده الذي يطمئن على كرسيه وعلى مستقبل ابنه وأحفاده، ومع الأيام أدرك "مبارك" وأسرته أنهم لا يستطيعون الاستغناء عن "العادلي"، فقد كفاهم التفكير في أمنهم واستقرارهم، ومنحهم الفرصة التخطيط لمستقبل التوريث، لكن المارد الذي ظل كامنا خرج من قمقمه ليظهر عملاقا حطم أحلام الأسرة ونسف إمبراطورية "العادلي" التي رآها تنهار أمامه في ساعات قلائل، ولم يصدق ما يحدث فكان مثل "نيرون" الذي أحرق روما، فأطلق الخارجين على القانون، يعيثون في مصر فسادا، ويبثون الرعب في النفوس، لكن إرادة شعب مصر كانت أقوى، لأنها قوة ذاتية، وليست قوة مصطنعة.
عثرت على تفسير جميل لعلاقة "العادلي" بالرئيس السابق "مبارك" قدمه لواء الشرطة السابق عاصم جنيدي مدير مركز معلومات مجلس الشعب، في دراسة ضمن كتاب "ثورة 25 يناير: قراءة أولية ورؤية مستقبلية" الصادر عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، والذي شارك فيه مجموعة من الباحثين والمتخصصين، وحرره الدكتور عمرو هاشم ربيع. يشير "جنيدي" إلى أن وزير الداخلية الأسبق تعامل مع الرئيس السابق ناهب مصر الأعظم بنظرية "وطي دماغك يا باشا"، ويوضح أن الشخص المكلف من إدارة الحراسات الخاصة بتأمين الشخصيات المهمة كان يطلق عليه "الكونستابل"، وأنها درجة وظيفية لخريجي أحد معاهد تخريج كوادر الشرطة التي يسمح لخريجيها بالترقي حتى رتبة "مقدم" وتتم إحالتهم إلى المعاش بعدها، وكان ذلك قبل إنشاء معهد أمناء الشرطة. ويلازم الكونستابل الشخصية المهمة، وفي بعض الأحيان يغير خط سير السيارة، وعندما يستفسر الشخص المهم عن السبب يرد عليه "معلومات يا فندم"، ويتكرر منه ذلك مرارا، وفي إحدى المرات يصيح في وجهه "وطي دماغك يا باشا.. وطي دماغك يا باشا" فيخفض "المهم" رأسه دون أن يدري ما يحدث، في الوقت الذي يتضاحك فيه الكونستابل والسائق بسبب الرعب الذي انتاب الباشا، وبعد فترة قصيرة يقول الكونستابل "خلاص يا فندم.. أنا كنت شاكك ف الواد اللي كان شايل كيس أسود على ناصية الشارع اللي فات"، ويصل الحال بالرجل "المهم" صاحب المركز المهيب والمكانة الرفيعة إلى أن يسلم نفسه للكونستابل تماما، يتحكم فيه كيفما شاء، ففي نظره هو الحامي والضامن لحياته.
النظرية التي ذكرها "جنيدي" تنطبق على "العادلي" و"مبارك"، فالأول هو الكونستابل الذي يدافع عن الثاني ويوهمه بأنه يقظ لأي محاولة للاعتداء عليه أو المساس بأمنه، وأسلم "مبارك" نفسه لحبيب العادلي الذي أصبح أهم الوزراء وصاحب الكلمة المسموعة التي لا يمكن لأحد أن يرده فيها، ولا سلطان عليه، حتى لرئيس الوزراء نفسه، لكن الأيام أثبتت أن الإمبراطورية التي صنعها "العادلي" كانت من ورق، وأنه لم يستطع إنقاذها ولا حماية نفسه ولا انتشال الرجل "المهم" من الضياع، واستحق أول رصاصة ضده بالحكم عليه بالحبس 12 عاما.. الرصاصات ستتوالى، لتقضي تماما على جسد نظام ما زال يتمتع بحلاوة الروح، لكن سيأتي حين تفيض فيه الروح الشريرة، وتعود إلى مصر روحها الجميلة.
التعليقات (0)