أختطف من فاس، ثم من طنجة بعد مرور أقل من سنة على اعتلاء الملك الحسن الثاني عرش البلاد، ثم اغتيل رفقة زوجته وابنته.
جريمته، رفض خيانة وغدر رفيق دربه المهدي بنبركة، فكان مصيره التصفية الجسدية من طرف رجال الدليمي، تحت إمرة الجنرال محمد أوفقير سنة 1962.
نازلة اختفاء ميشيل الحريزي وعائلته ودواعي تصفيته في ظروف غامضة، ما زالت تنتظر حضور شجاعة الكشف عن تفاصيلها. فمن هو الحرزي؟ ولماذا اغتيل؟
ميشيل الحريزي.. قد يكون هذا الاسم غريبا في نطاق مغرب "الوطنية والمقاومة والتوق إلى التغيير"، لكن حامله أحد المغاربة المسلمين ورفاق درب المهدي بنبركة مع فجر الاستقلال.
اسمه محمد الحريزي أطلق عليه الفرنسيون اسم "ميشيل" باعتباره كان من أوائل أبناء سيدي قاسم الذين حظوا بقسط وافر من التعليم في مغرب كانت تسود فيه الأمية بامتياز، وذلك لتمييزه عن "الأهالي".
تكلفت به الحركة الوطنية بعد فقدان والديه وأشرفت على تعليمه، ارتبط بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وظل قريبا من المهدي بنبركة وأحد رفاق دربه رغم تعيينه بالداخلية في بداية مشواره.
ظل محسوبا على المقاومة وتألق بين أقرانه، إذ كان من القلائل آنذاك الذين حصلوا على الإجازة في القانون بالديار الفرنسية.
فيما بين 1956 و1960 ظل الوضع غير مستقر بالمغرب، لم تستطع الحركات السياسية، التي ناضلت من أجل الاستقلال، ولا السلطات التحكم فيه. وفي نهاية 1959 كانت بلادنا تجتاز مرحلة غليان ومواجهة حادة بين الملكية وحركة المقاومة. سعى الحسن الثاني، ولي العهد وقتئذ، جاهدا إلى التقليل من تأثير قوى التحرر والإنعتاق الكلي، إلا أنه فشل كليا مع المهدي بنبركة عدوه الأول دون منازع آنذاك.
في أواخر دجنبر 1959 لم يستسغ ولي العهد أن يحاضر المهدي بنبركة في الطلبة والتلاميذ نخبة المستقبل ورجال الغد، حينئذ كان العملاء و"البركاكة" و"الذين قلبوا الكبوط" منتشرين في كل مكان.
خلال ذلك الأسبوع كان من المقرر أن يلقي المهدي بنبركة محاضرة على طلبة جامعة القرويين وتلاميذ ثانوية مولاي إدريس بالعاصمة العلمية، وفي 18 دجنبر 1959 اختطف محمد الحريزي من قلب مدينة فاس من طرف زوار الليل.
تزوج محمد الحريزي بمواطنة سويسرية تدعى "إيريكا"، أنجبت له بنتا كان عمرها لا يتجاوز ثلاث سنوات لحظة اختطافه.
يومان قبل اختطاف محمد الحريزي، تعرض كل من عبد الرحمان اليوسفي والفقيه البصري وآخرون من قادة الاتحاد الوطني إلى الاعتقال. آنذاك كانت عناصر "الكاب 1" تسعى بكل الوسائل لمنع المهدي بنبركة من إلقاء محاضرته بفاس. وإذا كان المعتقلون قد عانقوا الحرية من جديد، فإن محمد الحريزي عكس زملائه، لم يظهر له أي أثر.
بعد اختطافه من فاس اقتيد محمد الحريزي إلى معسكر مولاي إسماعيل بالرباط، وهناك حاول الجنرال أوفقير أن يفرض عليه الخضوع لرغبته الرامية إلى اتهام المهدي بنبركة بإعداده لانقلاب ضد الملكية، وذلك باستعماله كشاهد إثبات للإقرار بالتهمة الخطيرة للتخلص من العدو الأول لولي العهد الذي تربع على العرش بعد حين، لكن رفيق بنبركة رفض الانصياع، فكان لزاما عليه أن يواجه رجال الجنرال، وعلى رأسهم أحمد الدليمي، حديث الالتحاق بالمخابرات وقتئذ، والذي يعرف حق المعرفة محمد الحريزي، منذ الطفولة بسيدي قاسم، خصوصا وأنه تألق في الدراسة، وهو يتيم الوالدين، وقد ذاع صيته في المدينة، وسط المغاربة والمعمرين.
بعد الاختطاف تحركت الزوجة "إيركا" وقدمت والدتها بالديار السويسرية، شكاية ضد الجنرال أوفقير، ولتهدئة الأجواء طلب هذا الأخير من الدليمي "فبركة" سيناريو هروب محمد الحريزي ومغادرته للمغرب بمعية زوجته وابنته، بعد سنتين من الاعتقال التعسفي دون وجه حق.
كان مصيره سيظل مجهولا منذ اختطافه الأول، لو لم تكن زوجته السويسرية أقامت الدنيا ولم تقعدها للكشف عن مصير زوجها، إذ ضغطت سفارة سويسرا على البلاط، فكان لزاما البحث عن مخرج لوضع حد للانتقادات الدبلوماسية، فكان المخطط التالي:
اقترب الضابط العلام أحد أبناء سيدي قاسم، من الحريزي، وهو في زنزانته في غضون سنته الثانية، ووعده بمساعدته على الفرار وتمكينه من الوثائق اللازمة لمغادرة المغرب. وكان العلام هذا تربطه علاقة قرابة مع أحمد الدليمي.
في شتاء 1960، اقتيدت عائلة الحريزي إلى فيلا بحي السويسي بعد تهريبه من المعتقل، وهناك استقبلهم أحمد الدليمي وهو يبتسم متظاهرا بأن أوفقير هو الذي كان وراء الاختطاف، وسمح لمحمد الحريزي بالاتصال بأصدقائه المقربين، وداع خبره في الأوساط السياسية. وبعد أيام تسلم جوازات سفر مزورة، ثم اقتيد رفقة عائلته إلى مدينة طنجة لمغادرة المغرب. وهناك قام الزوجان بالاتصال هاتفيا بذويهم بكل حرية، كما تمكنا من مكالمة أصدقائهما بالخارج لإخبارهم بأن العائلة على أهبة مغادرة المغرب.. آنذاك اعتقد الكثيرون أن عائلة الحريزي غادرت فعلا المغرب.
إلا أن رجال الكوميسير الطيب، نائب الدليمي، سيقومون باعتقال عائلة الحريزي وتسليمها لعناصر "الكاب 1". وبعد أيام تحركت والدة "إيريكا" من جديد، فتم إصدار مذكرة بحث دولية من طرف الشرطة السويسرية والتي ظلت بدون مفعول مادامت السلطات المغربية قد تنكرت لاختفاء محمد الحريزي وعائلته على ترابها الوطني وادعت أنه غادر المغرب بمعية زوجته وابنته.
اقتيدت العائلة إلى فيلا بحي السويسي (رقم 9) بزنقة مولاي إدريس، وهناك تمت تصفيتها بكل برودة سنة 1962، ثلاث سنوات قبل اختطاف المهدي بنبركة من مقهى "ليز" واغتياله بفيلا "بوشيش" بضواحي عاصمة الأنوار.
من الأشخاص القلائل جدا الذين سلطوا بعض الأضواء على قصة محمد الحريزي، رشيد سكيرج، رئيس مصلحة الاستعلامات العامة تحت إمرة الجنرال محمد أوفقير، إذ صرح لمجلة "نوفيل أوبسرفاتور" في منتصف أكتوبر 1966، أن "الحريزي وعائلته أعيدوا إلى الرباط بعد فبركة سيناريو الهروب"، وأضاف سكيرج :"تكلف الدليمي بتصفية العائلة، حيث قدم محمد لأسود القصر لافتراسه، في حين قتل الزوجة "إيريكا" وطفلتها".
لقد ظل رشيد سكيرج على علاقة بالحركة الوطنية. التحق بصفوف الأمن بأمر من المهدي بنبركة منذ الأيام الأولى للاستقلال، وكلفه بمراقبة ما يجري في الأوساط الأمنية.
برزت قضية محمد الحريزي من جديد بعد أن نشرت جريدة "لاتريبون دوجنيف" في 18 أكتوبر 1976 مقالا جاء فيه "أن سكيرج، نائب مدير الأمن المغربي ( وهو الدليمي وقتئذ) أدلى بتصريحات خطيرة عن قضية اختطاف عائلة الحريزي، مفادها أن هذا الأخير اختطف وتعرض للتعذيب لاستدراجه للاعتراف بالإعداد لانقلاب يقوده المهدي بنبركة ضد الملكية".
تخلص المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان من هذا الملف بتسليم تعويض قدره 50 ألف درهم لشقيق محمد الحريزي وانتهى الأمر.
لقد أدى محمد الحريزي ثمن قربه من المهدي بنبركة غاليا، إذ فقد حياته معية زوجته وابنته الصغيرة، ولا يعرف إلى حد الآن مكان دفنهما، كما هو الأمر بالنسبة لبنبركة.
التعليقات (0)