فراغ أجندة "المتظاهرين" لما بعد اسقاط الأنظمة... هي المشكلة الحقيقية للدول التي جازفت شعوبها بدخول النفق المظلم لما بعد انهيار النظام الحاكم وسقوط وجوه تعودنا عليها كسياسيين... كانوا مستبدين أم لا؟ هذا ليس المهم ولكن الأهم، هل سقط بالفعل الحاكم الحقيقي لتلك الدول؟! وإن سقط ما هي الاستراتيجية التي ستطبق لخلق نظام جديد معياره الديمقراطية التي يحلمون بها؟! أجزم بأن تلك الجموع لم تعي الحقيقة المؤلمة بأن خسائر الزلازل ليست وحدها المؤلمة في ساعة حدوث الزلزال ولكن الرعشات الخفيفة ما بعد كوارث الزلازل خسائرها مضاعفة وأشد ألماً من الزلزال نفسه... إن لم تكن مستعدا له بشكل كامل أو تمتلك دراية كاملة عن الحدث وتوابعه.
من هنا يأتي الدمار والتفتيت لديموغرافية الوطن! حيث يبدأ أجزاء من الشعب المهلهل أمنياً والمسطح فكرياً الالتفاف حول أدوات التفتيت، (الأثنية - المذهبية - الطائفية - السلطوية - الحزبية - الدينية)، لتكوين بنية بشرية قابلة للتفاهم والالتقاء على وحدة المصير... فيتشاركوا بواحدة من تلك الأدوات السابقة وتبدأ رحلة التكوين المشوه للوطن السابق على صور كانتونات منفصلة لا تجمعهما إلا جغرافية مؤقتة ورثوها عن النظام السابق. في هذا الفصل من المأساة يكون الوطن قد تحددت الديموغرافية الجديدة له، ولكن هذه المرة هي ديموغرافية قابلة للاشتعال من دون فتيل متفجر للانفصال والتقسيم كل على حسب الأداة التي استخدمها. وبالطبع الدول المحيطة بتلك الدولة وشعبها يتشارك مع أحد الاجزاء "الموبوءة" بالتقسيم اللامباشر لمجتمعها المغلق، سيدعم هذا الفصيل ضد الآخر!
سنصل في لحظة، عندما يتكرر المشهد السابق مع الأدوات التفتيتية الأخرى للدولة "الموبوءة" من جهات أخرى، إلى مرحلة الصراع الداخلي والفتنة وهذا ما نسميه بالحرب الأهلية!! وليس أقل دلالة على بشاعة مستقبل تلك الدول "الموبوءة" إلا الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي والحاضر الذي نشهده لتلك الدولة. فكيف ولنا في العراق أنموذجاً ليس أقل تعبيراً عما حدث في لبنان ولكن هذه المرة استطاع الغرب الامبريالي ومعهم الصهيونية احتلال العراق بشكل مباشر، وتفعيل أدوات التقسيم والانفلات بشكل سريع... ماذا حققت العراق بعد ما يزيد على ثمان سنوات من وعود الديمقراطية التي يسوقُّها الغرب على عقول الشعوب المنهزمة فكرياً في أغلبها والضحلة معرفياً بالتاريخ القديم والحديث أيضأً.
خاتمة الحقيقة هي أن جزء لا يستهان به من الشعب ممن يخرجون في المظاهرات لم يعوا "ماذا بعد" للنماذج التي أسقطت أنظمتها كــــ مصر وتونس وليبيا!! الأولى بقى النظام العسكري الحاكم (وهو متعاون بشكل كامل مع الأميركان) خلف الستار فترة ومن أمامه في فترة أخرى، ولكن ستتغير بعض أوجهه مع إعطاء الشعب جرعات من هيروين الديمقراطية الزائفة. والثانية نفس الأولى ولكن بصورة أشنع من مصر بحيث أن الأسوأ قادم لا محالة مع تصعيد الإسلاميين بعد انكشاف الحقيقة، وإن كان هذا التصعيد متوافق أيضاَ مع مصر إن وعيَّ الإسلاميون المصريون بسرعة حقيقة ما جرى من التفاف من طرف العسكر على الثورة.
أما الثالثة "ليبيا" فهي تتحدث عن نفسها بصراحة لمستقبل أسود من حلكة الليل من طرف الانتقالي الذي يتصارع على أحقية شخوص ليبية للظهور على المشهد السياسي المستقبلي للبلد بسبب أن المجتمع الليبي قبلي جداً جداً.... فهم بكل أريحية مقبلون على صراع قبلي طويل الأمد... فالفضائح بدأت نجومها بالسطوع في ليل حالك الظلام مبتدءا بتأليف حكومة انتقالية والتي أعتقد أن الفشل وإن لن يطول تكوينها ولكن سينال من استمراريتها. "ماذا بعد" هذا ما يجب أن يفهمه شعوب المظاهرات... بمعنى لقد أسقطنا النظام ولكن ما هي خططتكم لتكوين وطن متماسك ونظام ديمقراطي غير "مفيرس" من قِبَل "الامبريالية التفتيتية".... أين أجندتكم لما بعد الاسقاط وتدمير البلاد وانشقاق العباد ما بين مع وضد أطماع الغرب ومن يدور في فلكهم من أبناء جلدتنا للأسف؟!!!!
التعليقات (0)