الشاعرية المتوازنة في:
"لم يعد لي إلا أنا"
للكاتبة الأردنية: محاسن الحمصي
بقلم: خليل الفزيع
القصة القصيرة من الفنون الأدبية التي لا تستهوي القراء فقط، ولكنها تستهوي أيضا الكتاب الذين وجدوا في هذا الفن السردي وسيلة لاحتضان بوحهم حول أمور الحياة والناس، وهي أمور وإن كانت تترك أثرها في النفوس، لكنها في نفوس المبدعين أكثر تأثيرا، وبعمق هذا التأثير وبقوة القدرة على تصويره، يأتي الإبداع متناسقا مع حجم المضمون ومنسجما مع ما يعنيه من مؤشرات ذات أبعاد نفسية واجتماعية مختلفة، وكثيرون سلكوا طريق كتابة القصة القصيرة، وانمحت آثارهم سريعا، وقلة هم الذين استطاعوا أن تبقى وستبقى آثارهم محفورة في ذاكرة الإبداع، كما هو الإبداع السردي، ومنهم الكاتبة الأردنية الأستاذة محاسن الحمصي التي قدمت لقرائها مؤخرا مجموعتها القصصية الأولى (لم يعد لي إلا أنا) ورغم ما قد يوحية العنوان من ذاتية مفرطة، لكن في هذه المجموعة وباحترافية متقنة، تمكنت الكاتبة من أن تحول ذاتية المعنى إلى فضاءات إنسانية أوسع، ولم يسيطر عليها الانسياق في الاتجاه الذاتي بمعناه الحرفي، بل تجاوزته إلى التفاعل مع ما حولها ومن حولها لتقدم قصصها بروح المراة المتعالية على همومها وانكساراتها، ولتصنع من تلك الهموم والانكسارات سدا يمنع مشاكلها الصغيرة من أن تشغلها عن ما هو أهم من القضايا ذات الصلة بالتوق الدائم لما هو أفضل وأجمل وأروع في الحياة، ومع خروجها من شرنقة الذات، ظلت مسكونة بهموم المراة العربية وقضاياها العامة، دون ان تقع في فخ العداء السافر للرجل، كما هو حال بعض الكاتبات العربيات اللواتي أعلنوها حربا شعواء على الرجل، متناسيات أنه الأب والأخ والحبيب، مما يعني غياب التصالح مع الذات، وعدم القدرة على فك رموز العلاقة المبهمة بين المرأة والرجل، وما قد يعتريها من التباس في أمور كثيرة.. كما تجنبت الكاتبة تلك البكائية كما تفعل بعض الكاتبات اللواتي لا هم لهن سوى ندب الحظ العاثر الذي وضع في طريقهن الرجل (الظالم) وتلك بكائية لا تزيد المرأة إلا هما على همها، ما دامت لا تسعى إلى تجاوز الواقع، بحثا عن غيره.
لغة المجموعة تسربت إليها تلك الشاعرية التي توحي بما تكتنزه لغة الكاتبة من معان ذات إيحاءات ودلالات عميقة، مكتفية من هذه الشاعرية باناقتها اللفظية دون الانزياح لما قد يشغل المتلقي عن فحوى النص ومعناه، بل هي شاعرية تضيء جوانب من النص دون أن تطغى عليه كفن سردي له ألقه وقدرته على الاستحواذ على اهتمام المتلقي، فالكاتبة لم تسرف في تعاملها مع هذه الشاعرية على حساب سردية النص، وانتمائه المباشر إلى هذا الفن المراوغ، بشكل قد ينحاز فيه إلى لون آخر من ألوان الكتابة.
عناوين القصص التي اقتربت من الخمسين عنوانا، ما بين قصص قصيرة وأخرى سمتها قصص في حجم الكف – قصيرة جدا ـ هذه العناوين ذات إيحات شعرية لا تخفى على ذائقة ووعي المتلقي، يساندها ما احتوت عليه من شاعرية ليست طاغية ولكنها ملفتة، لا تخطئها البصيرة.
من قصتها "من جيب قلبي.. لك وردة" نقرأ: (على بساط الريح.. على شراع آتيك أنا.. كل النساء في دربك أنا.. خد الألماس.. فيروز العينين.. ياقوت الشفاه.. ضفائر الذهب.. غجرية .. حورية بحر.. حسن الخلق والخلق.. العلم والعقل.. جهينة أنا.. أسكب عطري في دورق.. ألملم أحزانك أدفنها في خندق.. من سطور أبياتك.. من حروف معاناتك.. أغزل بساط الحب قصيدة.. وتكون لي وحدي أنا.. أخرج من جيبي أضعها على الجبين المجهد.. لن تتعب معي أنا.. تتشابك الأيدي تحضن الآتي في هدهدة الحلم.. وتجمع شظايا مرآة مكسورة). ص 57.
هذا البوح الشفيف يبدو كمقطع من رسالة عشق شاعري، تفنى فيه الذات، في انسكابها وانسيابها على الجراح، كبلسم يأبى ألا اختراق سجف الظنون مبددا غبش الشك والخوف والتردد، ليكون الاستحقاق تلقائيا بتلك الوردة من جيب القلب.
كلف الشاعرة بالشعر هو الذي دفعها لبعض الاختيارات الشعرية لتكون في صدر بعض القصص، ومع أن الشعر شيء والقصة القصير شيء آخر، لكن ولأن الكاتبة شاعرة أيضا، فقد أتاح ذلك تسرب شيء من لغتها الشعرية إلى قصصها، لكن ذلك لم يشعرني كمتلق بعبء اللغة الشعرية في الطرح السردي، ربما لحسن الاختيار، وربما للقدرة على التنسيق كما باقة جميلة يتم اختيار ورودها بعناية فائقة، ومع ذلك فإني في النهاية أفضل أن يبقى الشعر شعرا، والقصة قصة، غير منخدع بما يقال عن تجسير العلاقة بين الأجناس الأدبية المختلفة، فهو تجسير يطمس ملامح الاستقلالية لكل فن بذاته، ويؤدي إلى فوضى عارمة في المجال الإبداعي.
في سياق اهتمامها بالشعر نجد الكاتبة توزع بوعي أو دون وعي.. كلمات إحدى قصصها توزيعا شعريا كما يكتب الشعر الحديث. ونجد ذلك في أكثر من قصصة، وفي قصة "الصعود العكسي" كتبت:
(حمل دلوا يطفح بالذنوب والعلل..
همت تعانق - بزهو - ضيفها الأثير
القادم من قاع الليل..
تحميه.. تخفيه بين الضلوع..
سكب الدلو وباغتها..
انزلقت..
تدحرجت خلفها الكلمات
أنا الأعظم وأنت الأشلاء
لوحت له بكف الحزن بالقلب المكسور). ص 135.
وبعد البعد أقول أن أي ملحن قدير يمكن أن يحيل هذه الكلمات إلى مقام النهاوند، فالموسيقى الداخلية لهذه الكلمات لا تختلف عن تلك التي يكتنزها الشعر الحديث.
ومن الإنصاف ألا نعتبر الدلو (هنا) هو الدلو، فما يمكن إن تحمله القصة القصيرة من إمكانيات الإسقاطات ذات الدلالات الأخرى يدفعنا إلى عدم التفسير المباشر للنص، إذ يمكن بقليل من التأمل أن نعثر على ما يحمله المعنى الظاهر من المعاني الخفية، وهذا لا يظهر إلا في أعمال الراسخون في الإبداع.
إن يميز الإبداع عن غيره من الكتابات الأخرى في الشأن العام، هو أناقة اللغة ورشاقة الأسلوب، والغوص عميقا في بواطن الأمور، وهذه من العلامات البارزة في هذه المجموعة، وما نأمله هو أن تكون هذه المجموعة بداية لإصدارات أخرى سردية وشعرية قادمة، بعد هذه التجربة الموفقة في مجال النشر الأدبي، وما نعرفة وما يعرفه الكثيرون أن الكاتبة ذات اهتمامات فكرية متنوعة، أرجو ألا تشغلها عن الإبداع الجميل الذي لمسناه في هذه المجموعة، وفي كتاباتها الأخرى عبر الصحافة الورقية والمواقع الإلكترونية.
إشارة:
اسم المجموعة: لم يعد لي إلا أنا
المؤلفة: محاسن الحمصي
الناشر: دار فضاءات للنشر والتوزيع بعمان الأردن
الطبعة: الأولى 2011
جريدة الشرق القطرية: عدد الجمعة 7 أكتوبر 2011
التعليقات (0)