كانت صدفة جميلة ذات مساء عندما استمتعت بعبقرية سكير متشرد زار الصيدلية لطلب المساعدة وكذا استعراض عضلاته الثقافية...فلم يكن ليعبر عن واقعه إلا ليردفه بمقولته المحببة إليه " للضرورات أحكام" ، محملا مسؤولية تشرده إلى ضرورات لم يذكرها...حاولت الصبر وتحمل تلك الرائحة التي كانت تنبعث منه لأنه أذهلني عندما بدأ يطرح علينا أسئلة أدبية عن نجيب محفوظ والمعري....ثم أسئلة في الدين وأحاديث لم يسبق لي أن سمعت بها، لا بل أخذ يتحدانا في حل حسابات رياضية معقدة....كان يسعى للقول باختصار أنه مثقف وعبقري وعلينا أن نتجاهل منظره السيئ ونعامله على هذا الأساس..تأملت السكير المتشرد جيدا وأدركت أن العبرة لا تكمن في مراكمة الأفكار بالحجرة الضخمة لمخنا، فلا لزوم للأمر ولا فائدة ترجى منا لخدمة المجتمع إذا أطلقنا العنان لأنفسنا وسلمناها بيد الإدمان على ممارسات خبيثة...فسرعان ما نغدوا عبادا لأشياء كنا ننوي التسلية بها فقط فإذا بها تستعبدنا وقد تقذف بنا إلى حالة يرثى لها كما هو الحال مع هذا المتشرد ، فالعفن والقذارة تنبعث منه وهو مازال يردد ما يعرفه من معلومات ويبرر واقعه بقاعدته الشهيرة، بشفتين مدنستين بالخمر وبحباله الصوتية المبحوحة الثملة "للضرورات أحكام"...أتذكر أن في بلادنا الكثير ممن يرددون القاعدة ذاتها في مناسبات كثيرة..فكم من دكتور جامعي يصحح أوراق الامتحانات معشرا ومصفرا ولاعبا القمار على أوراق الطلاب وهو في حالة النشوة على شاطئ السعيدية وعذره هو ارتفاع درجة الحرارة...وكم من المسؤولين الحكوميين و المحليين ينامون يومهم ويقومون ليلهم موزعين ميزانياتنا على عاهرات باريس في" سفريات العمل" ثم يعودون لفرض زيادات ما أنزل الله بها من سلطان تحت ذريعة صندوق مقاصة أو مقسومة واكراهات دولية.. وكم من مسؤول أمني يرجى منه الحفاظ على أمن وأعراض المواطنين فإذا به أول من يضرب بكل القيم عرض الحائط ويكون رأس حرباء في شبكات الدعارة والمخدرات...وكم من إعلامي أدمن البارات وما تزال يديه تقطر من الهام الخمر فيمضي حاملا قلمه منددا بواقع فساد المسؤولين وسلبيات المجتمع..وكم من شاب وشابة يرجى منهم حمل مشاعل التغيير فإذا بهم يقبعون خلف الحاسوب طيلة اليوم مضيعين أوقاتهم في دردشات فارغة وممارسات إباحية يوفرها الإنترنت بسهولة ... وكم من فتاة تتاجر في عرضها بدعوى الحرية وأوهام العلاقات الغرامية وإشباع غريزة تجبرت في ظل غياب الرادع الأخلاقي...وكم وكم وكم في دولة الحكومة ذات 35 جثة هامدة جاثمة على أنفسنا طيلة سنوات عجاف.
عندما كان الغرب في حالة ضرورة رسخ لقاعدة جوهرية وهي أن الحاجة أم الاختراعات،ومضى الغربيون يدشنون ثورات صناعية ،فلاحية وتكنولوجية. فاخترعوا ما يقضي حاجتهم وحسنوا من مستوى معيشتهم وفرضوا تواجدهم على العالم. الضرورة عندهم جعلتهم يضحون بدمائهم من أجل ترسيخ روح المواطنة الحقة وانتزاع حرية التعبير...أما نحن فغثائية القواعد في قواميسنا لا نتوانى لاستغلالها في تبرير أفعالنا المشينة لقيمنا وحضارتنا، فالضرورة عندنا وفق المنطق السكايري الذي يحكمنا، هي أم الفساد والخبائث . عندما نكون في حاجة ما نفسد في الأرض شر فساد ولا نتأخر في هدم بقايا ما بناه الشرفاء....فبئست القوم أفعالهم وبئست الضرورات المفبركة!!!!!!!
التعليقات (0)