أذكُر جيدا تلك الأصوات التي كنتُ أسمعها و أنا في بطن أمي. كان صوت أبي هو المميز من بين كل تلك الأصوات. في الخلفية صوت أمواج البحر يُهدهدني.
في أيامي الأول كنت عنيدا و لا أزال كذلك. كنتُ أُرهق أهلي و أوقظ مضجعهم. كنتُ و لا أزال ممن يمقتون النوم لأنه يذكرني بالموت و العجز و يفرض علي أن أتوقّف عن الفعل و الصنع و الحركة.
كنت و أنا رضيع إذا غالبني النعاس أنطلقُ في بكاء مزعج يستنفر له كل من في المنزل.
عمتي هي الوحيدة التي كانت تنجح في تهدئة أعصابي و السيطرة علي. كانت تضمني إلى صدرها و تلتهم الغرفة ذهابا و إيابا، تُهدهدني و هي تغني في أذني. و من وقت لآخر ترفعني عاليا بين يديها و تنطلق في الرقص كأنني جزأ منها. تظل ترقص بي و ترقص و تُغني و تُغني حتى أنام.
حين كانت ترفعني بين يديها كنت أنطلق في ضحك هستيري فقد كانت حركاتها الدائرية السلسة تُذكرني بحركاتي الانسيابية داخل بطن أمي و تحملني هناك بعيدا حيث هديل البحر.
حين كبرت قليلا زاد تعلقي بعمتي فقد كانت ترسم لي المستحيل ممكنا و علمتني أن من يريد شيئا يصل إليه حتما بالعزيمة و المثابرة.
لم تتعامل معي يوما على أنني طفل صغير بل كانت عمتي تعمد إلى مخاطبة العقل فيّ و تنمية أحاسيسي. كانت تقرأ على مسمعي كتبا لم أكن افقه منها شيئا و بالرغم من ذلك كانت تتوقف عند كل جملة و تحاول أن تبسطها لي.
لم أكن وقتها قادرا على النطق لكن الإحساس بيننا كان آخذا في التنامي.
يوم زواج عمتي انهار العالم من حولي و كنت حزينا بل كئيبا. لم أكن قد بلغتُ السادسة بعد و اعتبرت انفصالي عنها أول مأساة في حياتي. منعني الجميع من الذهاب معها لأسباب لم أتفهّمها إلا يوم تزوّجتُ من ابنة عمتي.
حين كنت صغيرا بين ذراعيها كانت عمتي تعدني بأنها يوم تتزوج ستُنجب بنتا و تُزوجني إياها. تزوجتْ عمتي و أنجبت "فرح".
" فرح" هو الاسم الذي قررنا أنا و عمتي أن زوجتي ستحمله يوما ما.
كنت دائما اسمعها في قرارة نفسها و هي تتذرّع الى الله أن يزرع في قلبي و قلب "فرح" حبا متبادلا فبقدر ما كنتُ عزيزا على قلبها كانت عمتي تخشى أن تجعل من زواجي بـ"فرح" مأساة هي سببها.
كبرتُ و تعلمت كيف يمكن لطفل في عمري أن يكبر و بين أحضانه طفلة صغيرة اسمها" فرح". كنتُ مزهوا و أنا أحملها بين ذراعي رضيعة و امسك بيدها و هي طفلة و أقدمها للناس من حولي: هذه فرح أنا المسئول عن تربيتها و هي زوجة المستقبل.
ختام البرڤاوي
تونس 08 جوان 2010
التعليقات (0)