مواضيع اليوم

"شيزوفرينيا" صحفية؟(الحلقة 1)

حسن محمد لمعنقش

2011-05-19 05:36:24

0

 يقول : الشيخ عبد الرازق بن إبراهيم بن حسن البيطار الدمشقي الميداني في كتابه " حلية البشر " عن الطاغية إبراهيم باشا بن محمد علي أنه :"غشوم ظالم، وظلوم غاشم، خليفة الحجاج في أفعاله، وناهج منهجه في أقواله وأحواله، محتو على الفساد، منطو على الإنكاد، مجبول على الغلظة والقساوة، مجعول من الفظاظة معدوم من اللطافة والطلاوة، ممتلىء منه البذا، متضلع من الأذى، لم يخلق الله تعالى في قلبه شيئاً من الرحمة فينتزع، ولم يودع الله لسانه لفظاً من الخير فيستمع، سفاك لدماء المسلمين، نباذ لطاعة أمير المؤمنين" (1) .
هذا الطاغية دخل مرة المسجد الأموي، وكان أحد علماء الشام، الشيخ سعيد الحلبي، يلقي درسا فيه، وقد مد رجليه . ومر الطاغية من جانب الشيخ ، لكن الشيخ لم يبدل جلسته، وظل مادا رجليه. غضب إبراهيم باشا وخرج من المسجد ، وقد أضمر في نفسه شراً به . وصادف ذلك حقدا على الشيخ الحلبي في نفوس مجموعة من المنافقين الذين أخذوا يحرضون الطاغية على الفتك به، فأمر بإحضاره مكبلا في السلاسل . لكن الطاغية سرعان ما غير رأيه، فهو غير مستعد لأية مشاكل قد تجلبها له الإساءة للشيخ. وفكر في طريقة أخرى يسقط بها هيبة عالم الشام لدى المسلمين ويكسب بها ولاءه في نفس الوقت، فأرسل إليه مع وزيره مبلغا كبيرا من المال، على أن يسلمه له الوزير على مرأى ومسمع من تلامذته ومريديه .
نفذ الوزير الأمر، وفي المسجد قال للشيخ بصوت مسموع : "هذه ألف ليرة ذهبية بعثها إليك مولانا الباشا لتستعين بها على أمرك".
لم يكن رد الشيخ متوقعا بالطريقة التي تم بها، إذ قال للوزير بصوت هاديء: "يا بني، قل لسيدك: إن الذي يمد رجله، لا يمد يده".
تذكرت هذه القصة وأنا أقرأ مجموعة من المقالات "التحريضية" التي كتبها بعض "وشاة الصحافة الجدد" ضد الإسلاميين عامة، وأفراد ماسمي بخلية بليرج خاصة. فالإسلاميون في العالم الإسلامي كسبوا –في مناطق كثيرة- تعاطفا جماهيريا واضحا، لكن بعض العلمانيين –وخاصة الاستئصاليين منهم- أخذوا يحرضون السلطة على الفتك بهم، وبوسائل منها الجانب الإعلامي.
إن هؤلاء "الوشاة الجدد" المندسين في الصحافة لايعدون أولئك المحرضين على عالم الشام، متناسين أن الإسلاميين الذين "مدوا أرجلهم" في مختلف ساحات النضال الشريف، "لا يمدون أيديهم" للشعب بما يتهمهم به زورا مرتزقة الصحافة، سواء تضمن "صك الاتهام" تهمة إرهاب أوغيرها...
إن المثال الآتي يوضح ماسبق.
اعتقل ستة سياسيين –في إطار ماسمي بـِ " خلية بليرج"- لهم مواقف معروفة ضد الإرهاب. ولقد أدانت فعاليات سياسية وحقوقية هذا الاعتقال، ورفضت التسليم بالرواية الرسمية المتعلقة بالخلية المزعومة، بل شككت فيها على الرغم من التحذير الرسمي من أي تشكيك يمسها.
يذكر نموذجنا الصحفي هذا الأمر فيقول:"سارع حلفاء حزب البديل الحضاري وحزب الأمة إلى إعلان براءة قادة الحزبين من تهمة الإرهاب" (2).
كان من الممكن لهذا الصحفي أن يصيغ عبارته هكذا: "أعلن حلفاء حزب البديل الحضاري وحزب الأمة براءة قادة الحزبين من تهمة الإرهاب". لكنه فضل تصديره بكلمة "سارع" التي تعني "بادر"، سواء كانت المبادرة إلى الخير أو إلى الشر. في "لسان العرب": "تسرع بالأمر: بادر به. والمتسرع: المبادر إلى الشر، وتسرع إلى الشر. والمسرع: السريع إلى خير أو شر. وسارع على الأمر: كأسرع، وسارع إلى كذا وتسرع إليه بمعنى" (3).
غير أن استعمال الرجل للكلمة هو بالمعنى السلبي الذي يعادل التسرع في الحكم دون روية ولا تفكير، بدليل مايأتي بعد في كلامه.
فلم يكن إذن لحلفاء الحزبين أن يعلنوا براءة قادتهما مما اتهموا به. بمعنى آخر: كان على أولئك الحلفاء أن يعلنوا إدانتهم للقادة، أو على الأقل السكوت. وإذا علمنا أن هناك رواية رسمية تدين القادة المذكورين، فإن المطلوب من الحلفاء يصبح عدم التشكيك في تلك الرواية، وهو مطلب الوزير الفاشل (4)، وزير الداخلية السابق، ومطلب وزير الإعلام والناطق الرسمي للحكومة.
إذن منذ بداية المقال يوحي صاحبه بإدانة قادة الحزبين، ومعهم بقية أفراد الخلية المزعومة.
ويتابع صاحب المقال كلامه قائلا:
"كثفت آلة الأحزاب الحليفة إنتاج خطاب تشكيكي في التهم الموجهة إلى الموقوفين، في الوقت الذي اقتصرت فيه السلطات على بث أخبار الاعتقالات عبر قصاصات وكالة المغرب العربي للأنباء، دون كشف حيثيات التنظيم الإرهابي، حفاظا على سرية التحقيق" (5).
لنلاحظ أولا إسناد كلمة "آلة" للأحزاب الحليفة :
ماهي هذه "الآلة"؟
المقصود إعلام تلك الأحزاب، بدليل أنه يعطي تلك "الآلة" دور إنتاج " خطاب تشكيكي في التهم الموجهة إلى الموقوفين". غير أن صاحب المقال قد يكون استعمل هذه الكلمة لغرض قد تفصح عنه كلمات وعبارات أخرى استعملها في مقاله، مثل "التنظيم الإرهابي" و"العتاد الحربي" كما سيأتي.
وإذا كان الوزير الفاشل والناطق الرسمي قد حذرا من التشكيك في الرواية الرسمية، فإن الرجل –بمنطق "الوشاة الجدد"- يذكر أن خطاب حلفاء الحزبين "خطاب تشكيكي"، في الوقت الذي يعتبر فيه خلية بليرج المزعومة هي من نوع "التنظيم الإرهابي"!
لقد أصدر الرجل الحكم: "التنظيم إرهابي"! ثم أدى "الوشاية" فقال: "يشككون في الرواية الرسمية"!
وعلى الرغم من أن خطاب الحلفاء "تشكيكي"، وأن "التنظيم إرهابي"، فإن السلطات "اقتصرت" على بث أخبار الاعتقالات لاغير !
فهل بالفعل، إلى حدود يوم صدور المقال، وهو يوم 21 فبراير، "اقتصرت" السلطات على بث أخبار الاعتقالات فقط؟
لنعد إلى شريط الأحداث كما نشرته الجرائد الوطنية، ومنها جريدة "الصباح" نفسها (6):
"يوم الإثنين 18 فبراير 2008، حدث مايلي:
بعد الزوال:
- ذيوع أخبار حول صدور قرارات بمنع المرواني والمعتصم والركالة من مغادرة التراب الوطني.
- الإعلان عن توقيف ضابط الأمن هشام كريواني بتهمة إفشاء السر المهني والدخول على نظام معالجة المعلومات على خلفية القيام بتنقيط كل من المعتصم- والذي تأكد أنه ممنوع من مغادرة التراب الوطني- والمرواني الذي تعذر على الضابط معرفة حالته، وذلك بناءا على طلب الصحفية حنان بكور من جريدة(المساء) آنذاك.
- إصدار الإدارة العامة للأمن الوطني منشورا يتهم الضابط المذكور بنشر معلومات من شأنها أن تمكن متهمين مفترضين من الهروب من العدالة أو تدمير دلائل تساعد المحققين في أبحاثهم من أجل الحقيقة.
الخامسة بعد الزوال:
-إعلان مصالح الأمن المغربية عن تفكيك(شبكة إرهابية) كانت، حسب تلك المصالح، تعتزم القيام بأعمال إرهابية بواسطة الأسلحة النارية والتفجيرات واغتيال شخصيات مغربية وازنة. ويتزعم تلك الشبكة- حسب مصالح الأمن- عبدالقادر بليرج، أحد المهاجرين ببلجيكا.
- وضع 23 من أفراد الشبكة المذكورة رهن الاعتقال الاحتياطي. كما اعتقل أيضا كل من مصطفى المعتصم بمحطة القطار بالرباط حيث كان يتهيأ صحبة زوجته لتوديع ابنتهما المتوجهة إلى فاس قصد الدراسة، ومحمد المرواني أثناء عودته إلى منزله بنفس المدينة.
السادسة بعد الزوال:
اعتقال محمد أمين الركالة من بيته بمدينة فاس. وكان الركالة قد تم استدعاؤه من طرف باشا المدينة، ثم عاد إلى بيته مصحوبا برجال أمن بزي مدني، والذين قاموا بتفتيش المنزل مدة تزيد على ساعة. وقد انتهت العملية بحجز حاسوب السيد الركالة وأشياء أخرى.
في وقت متأخر من المساء:
اجتماع القيادات الأمنية في مقر وزارة الداخلية بالرباط للتداول في ملف الاعتقالات التي مست قيادات إسلامية. وقد ضم الاجتماع:
- ياسين المنصوري، مدير المخابرات العسكرية.
- عبداللطيف الحموشي، مدير المخابرات المدنية.
- الشرقي اضريس، المدير العام للأمن الوطني.
- وزير الداخلية شكيب بنموسى.
يوم الثلاثاء 19 فبراير 2008، حدث مايلي:
صباحا:
- اعتقال عبدالحفيظ السريتي، بعد أن أوصل ابنته إلى مدرستها، وقيام ستة رجال أمن بزي مدني بتفتيش منزله.
مساءا:
- كشف وزارة الداخلية عن أسماء 32 شخصا ضمن "شبكة إرهابية"- حسب الوزارة- ويتزعمها عبدالقادر بليرج، ومن بين المتهمين المعتقلون الستة.
- تأكيد وزير الاتصال- خالد الناصري- أن"المسألة ليست بسيطة"، ودعوته الجميع- بما فيهم وسائل الإعلام- إلى معالجة الموضوع"بكل رصانة ودقة ومهنية".
يوم الأربعاء 20 فبراير 2008، حدث مايلي:
صباحا:
- نشر وكالة المغرب العربي للأنباء بلاغا لوزارة الداخلية يفيد (تفكيك خلية إرهابية خطيرة كانت تستعد لتنفيذ أعمال إرهابية بالتراب الوطني).
- إصدار عباس الفاسي، الوزير الأول، مرسوما وزاريا يقضي بحل حزب البديل الحضاري، مستندا في ذلك إلى الفصل 57(7) من قانون الأحزاب[ اعتبارا لثبوت العلاقة بين هذه الشبكة والحزب وتوفر قرائن تفيد تورط قادة الحزب الرئيسيين فيها] حسب القرار.
-بيان لوزارة الداخلية يعلن "حجز ترسانة أسلحة وذخيرة" كانت بحوزة بعض المعتقلين في الدار البيضاء والناضور، واتهام بعضهم بالتورط في عمليات سطو على مؤسسة مالية باللوكسمبورغ. كما أن البيان أكد على أن الأشخاص المتورطين "لهم روابط مؤكدة مع الشبيبة الإسلامية والحركة الثورية الإسلامية المغربية والحركة من أجل الأمة.
كما كانت هناك محاولات لتنظيم دورات تدريبية في مراكز حزب الله في لبنان عام 2002. كما استعرض الوزير نشأة الشبكة منذ 1980، وتطورها الزمني إلى سنة 1992، حيث "انتخب خلالها محمد المرواني أميرا للشبكة".
وأضاف الوزير أن هذه الشبكة "اتخذت وجهتين في العمل:
-وجهة سياسية أسفرت عن تأسيس حزب البديل الحضاري وجمعية الحركة من أجل الأمة.
-أما الوجهة السرية فاعتمدت العمل المسلح وتنظيم عمليات سطو لضمان التمويل".
وقد حضر إلى جانب بنموسى في ندوته الصحفية كل من:
- الجنرال حسني بنسليمان قائد الدرك الملكي.
- الشرقي اضرس، المدير العام للأمن الوطني.
- محيي الدين امزازي، الوالي المدير العام للشؤون الداخلية بوزارة الداخلية.
لقاء وزير الداخلية شكيب بنموسى بنشطاء حقوقيين وأكاديميين وفاعلين جمعويين وإعلاميين. وكان من الحاضرين: أمينة بوعياش رئيسة المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، ومحمد السكتاوي رئيس منظمة العفو الدولية(فرع المغرب)، وأحمد حرزني رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ، ونعيم كمال عضو الهاكا، الأكاديمي محمد الطوزي، سعيد لكحل اليساري أحد خصوم الحركة الإسلامية من الاستئصاليين، الأكاديمي محمد ظريف، جمال براوي الصحفي وأحد الاستئصاليين أيضا، عبدالمنعم دلمي (بصفته رئيسا لفيدرالية الناشرين) ورئيس تحرير جريدة "الصباح"، رجل الأعمال عبدالعالي بنعمور... وغيرهم.
وقد أقيمت جلسة غداء خاصة أثيرت خلالها الرواية الرسمية لتفكيك شبكة بليرج وكذلك تسرع الوزير الأول في حل حزب البديل الحضاري...
وخلال اللقاء حذر وزير الاتصال من [تبعات التشكيك] في الرواية الرسمية، وأكد على وجود خطر يهدد المغرب، مما يتطلب من الجميع- في نظره- التصدي له.
إغلاق مقر حزب البديل الحضاري بالدار البيضاء من طرف السلطات العمومية وتشميعه بمقتضى قرار الوزير الأول".
فهل بعد هذا يقال أن السلطات " اقتصرت على بث أخبار الاعتقالات عبر قصاصات وكالة المغرب العربي للأنباء، دون كشف حيثيات التنظيم الإرهابي، حفاظا على سرية التحقيق"؟
ولنتذكر أن كل هذا فعلته السلطات المغربية، وذكرته وسائل إعلام كثيرة منها جريدة "الصباح"، حتى قبل أن تبدأ محاكمة أفراد الخلية المزعومة، والتي بدأت يوم يوم الخميس 16 أكتوبر 2008 أي ثمانية أشهر بعد اعتقالهم حسب التصريحات الرسمية.
ثم يقول الرجل:
"خلال كل الأحداث الإرهابية التي شهدها المغرب، شكل الخطاب التشكيكي حجر الزاوية في الدفاع عن المتهمين" (8). ولم يذكر صاحب المقال لماذا نجد دائما هذا "الخطاب التشكيكي" في رواية السلطة.
فلماذا توضع "الرواية الرسمية"موضع الشك؟ هل المشككون- ومن ضمنهم سياسيون ورجال قانون وغيرهم- عديمو الفهم في "أحسن الأحوال"، أو متآمرون في "أسوئها"؟
أليس من حقنا أن نشك، خاصة مع تزامن الاعتقالات التي مست الإسلاميين، مع ما سمي بـِ "الحرب على الإرهاب"، تلك الحرب الأمريكية "البوشية" على الإسلام والمسلمين، سواء في أفغانستان أو العراق، ومن قبل ذلك على الحبيبة فلسطين؟
إن الذي يشك في شعار "الحرب على الإرهاب" كما تمارسه أمريكا على أرض المسلمين، ويردد مع الشاعر أحمد مطر:
أنا ضد أمريكا إلى أن تنقضي هذي الحياة ويوضع الميزان
هي جذر دوح الموبقات وكل ما في الأرض من شر هو الأغصان
من غيرها زرع الطغاة بأرضنا وبمن سواها أثمر الطغيان؟
حبكت فصول المسرحية حبكة يعيا بها المتمرس الفنان
هذا يكر وذا يفر وذا بهـــــ ـــــذا يستجير ويبدأ الغليان
حتى إذا انقشع الدخان مضى لنا جرح وحل محله سرطان
وإذا ذئاب الغرب راعية لنا، وإذا جميع رعاتنا خرفان
هي فتنة عصفت بكيدك كله فانفذ بجلدك أيها الشيطان
ماذا لديك؟ غواية؟ صنها، فقـد أغوى الغواية نفسها السلطان
قرنان؟ ويلك عندنا عشرون شيـ ـــطانا وفوق قرونهم تيجان
يا أيها الشيطان: إنك لم تزل غرا ولــيس لمثلك الميدان
أنبيك أنا أمة تبا ع وتشترى ونصيبها الحرمان

أقول: إن الذي يشك في ذلك الشعار الأمريكي، هو نفسه الذي يشك في "الرواية الرسمية" حول اعتقال إسلاميين شرفاء. ومن حق أي واحد أن يشك، بعدما ظهر للعيان كذب "الرواية الرسمية" لوزارة الداخلية في مصرَ الفرعونِ الصغير حسني مبارك، حول تفجير كنيسة من كنائس المواطنين الأقباط، لما تم إلصاق الجريمة بإسلاميين من فلسطين الغالية. بل الغريب أنه ظهر –بعد الثورة الشبابية- أن للوزارة المذكورة علاقة بالجريمة!!
أجل، من حق أي واحد أن يشك، خاصة وأنه لدينا مثال بارز يدعو للشك، مثال تفجيرات 16 ماي الآثمة، والتي لم تكشف التحقيقات فيها إلى الآن الفاعل الحقيقي.
إن "الخطاب التشكيكي" في "الرواية الرسمية" سيبقى موجودا، طالما أن المواطن يرى ويسمع كذب مسؤولين في قضايا عدة. تكفي الإشارة إلى تصريح للناطق الرسمي السابق للحكومة، نبيل بنعبدالله، فقد سئل:" ألم تتعارض قناعاتكم المبدئية والسياسية والحزبية مع آرائكم الحكومية حتى حينما كنتم تؤكدون في مناسبات عديدة أن المغرب لايعرف الاختطافات، مع العلم أن العديد من الجمعيات الحقوقية الوطنية والدولية كانت تدرك جيدا أن عشرات المغاربة قد اختطفوا وعذبوا في معتقل تمارة؟" فكان جوابه:
"حتى إذا افترضنا أن ماتقولونه صحيح، فهل تعتقد أن هناك ناطقا رسميا سويا في العالم في أمريكا أو في إسبانيا أو في فرنسا...يمكنه أن يقول في ندوة صحفية بحضور عشرات الصحفيين إنكم على صواب وأن بلادنا فعلا تعرف العديد من الاختطافات والتعذيب وخرق حقوق الإنسان، وأن الأجهزة الأمنية فعلا تتجاوز حدود صلاحياتها، وأنها هي التي تتسبب في هذه الانتهاكات..." (9).
وعلى افتراض أن شك المواطن غير مقبول، فمن المسؤول عن ذلك؟
لن نذهب للإجابة بعيدا. فأحد صحافيي جريدة "الصباح" نفسها، والتي يرأس تحريرها خالد الحري، يقول: "المواطن معذور،حتى ولو كان تشكيكه خاطئا في ظل التطور الحقوقي الذي عرفته المملكة، وكذا التقدم العلمي في مجال الأبحاث ونهاية عهد توزيع الاتهامات حسب المزاج، وعذره مستمد من تراكمات سلبية سابقة قدم فيها مسؤولون معلومات تبين أنها غير صحيحة فيما بعد (قضية النجاة نموذجا)، وهو في حاجة إلى تراكمات إيجابية حتى يتسنى له إزالة آخر ذرة شك في مخيلته" (10).
أما صحفينا من فئة "الواشين الجدد"، فيتقمص دور المحلل الموضوعي فيقول: "...الموضوعية تفرض مسافة أمان أمام توالي الأحداث، وإلى حد الآن لم تتضح طبيعة التهم التي اعتمدتها الدولة في اعتقال المتهمين، باستثناء صور العتاد الحربي الذي كان يستهدف المغاربة" (11).
الصحفي يرى أنه، إلى حد كتابة ماكتب، " لم تتضح طبيعة التهم التي اعتمدتها الدولة في اعتقال المتهمين". وعليه، فالموضوعية " تفرض مسافة أمان أمام توالي الأحداث". غير أن صاحب هذا الكلام لم يأخذ " مسافة أمان"، حتى يكون موضوعيا، لما اعتبر "التنظيم إرهابيا"، وأن مابثته قناة مغربية –من صور لأسلحة- أنها " صور العتاد الحربي الذي كان يستهدف المغاربة"!!
"التهم" التي اعتمدتها الدولة غير واضحة إذن، لكنها واضحة لدى هذا الرجل: مجموعة إرهابية (أي عصابة مسلحة)، وعتاد حربي (أي حيازة أسلحة) "يستهدف المغاربة" (المس الخطير بالنظام العام كما في التهم) !!
لنتذكر أن هذا الكلام كان يوم الخميس 21 فبراير 2008، في حين لم يوجه قاضي التحقيق التهم للسياسيين الستة إلا يوم الجمعة 29 فبراير 2008، يوم عُرض المعتقلون الستة عليه بملحقة محكمة الاستيناف بسلا، ورفض اولئك المعتقلون الإدلاء بأي رد على أسئلة القاضي ما لم يتمكن دفاعهم من الاطلاع على محاضر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية… وآنذاك اكتفى القاضي بعرض التهم الموجهة إليهم، وبالتالي قرر متابعتهم واعتقالهم. أما التهم التي وجهها لهم فكانت كالتالي:
- متابعة المعتصم والمرواني بتهم "محاولة المس بسلامة الدولة الداخلية عن طريق ترأس عصابة مسلحة تهدف للإستيلاء على الأموال العمومية، ونهبها والمشاركة في ذلك عن طريق فرق مسلحة، والأمر بإعداد وارتكاب أعمال إرهابية في إطار مشروع يهدف إلى المس الخطير بالنظام العام، وعقد اجتماعات عمومية بدون تصريح مسبق، وممارسة النشاط في جمعية غير مرخص لها". وهي التهم التي تصل عقوبتها، في حالة الإدانة، إلى الإعدام أو المؤبد.
- متابعة السريتي بتهم "محاولة المس بسلامة الدولة عن طريق تولي وظيفة عصابة مسلحة والاستيلاء على الأموال العامة ونهبها وتكوين عصابة إجرامية وتقديم المساعدة فيها، وعقد اجتماعات عمومية بدون تصريح مسبق، وممارسة النشاط في جمعية غير مرخص لها". وتصل عقوبتها من خمس سنوات إلى عشرين سنة.
- متابعة ماء العينين العبادلة بتهمة " محاولة المس بسلامة الدولة عن طريق تولي وظيفة عصابة مسلحة والاستيلاء على الأموال ونهبها".
- متابعة نجيبي بتهمة "تقديم المساعدة للمتهمين في العصابة وعدم التبليغ عن الجناية".
فهل هي مجرد "مصادفة" أن يسبق هذا "الصحفي" قاضي التحقيق في الكلام عن "تنظيم إرهابي"، أي عصابة مسلحة؟ أم تراه كان يمهد الأرضية لقبول التهم؟
وإذا عدنا إلى "العتاد الحربي" المذكور، فقد ظهر فيما بعد أن ذلك "العتاد" أصبح لاغيا بمقتضى قانون المسطرة الجنائية، لما تم عرضه خارج الشروط المذكورة في الفصل 59 من القانون المذكور! (12)، مما شكل فضيحة للقضاء الذي كان يبت في القضية آنذاك!!
وإمعانا في استغفال القراء، يذكر الرجل المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية، موهما أنه يستند إليها فيما كتب، فيقول: "لامعنى إطلاقا لحملة المشككين للدفاع عن براءة المتهمين حتى قبل محاكمتهم، أو على الأقل الاطلاع على محاضر الشرطة. ولامعنى أيضا لإدانتهم مسبقا عبر قصاصة وكالة المغرب العربي للأنباء..."(13).
أما المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية فيوردها كالتالي: "كل متهم أو مشتبه فيه بارتكاب جريمة يعتبر بريئا، إلا أن تثبت إدانته قانونا بمقرر مكتسب بقوة الشيء المقضي به، بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية، ويفسر الشك لفائدة المتهم" (14).
لقد أدان هذا الصحفي المتهمين لما اعتبرهم أفرادا في "تنظيم إرهابي"، ولم يحترم نص المادة التي ذكرها، بل عاب على حلفاء حزبي البديل الحضاري والأمة أن يعلنوا براءة قادة الحزبين.
لكن لماذا قال هذا الصحفي كل هذا الكلام، وتغاضى عن الإشارة إلى "الإدانة المسبقة" الصادرة عن الوزير الفاشل والناطق الرسمي ضد أفراد ماسمي بـِ "خلية بليرج"؟
إن الجواب في قوله أنه "يجب الاعتراف بأن الدولة لم ترتكب إلى حد الآن أي خطإ قانوني" (15)، وأنه يجب "الاعتراف بتطور الدولة في احترام القانون" !!(16).
لعل هذا هو الهدف من المقال كله، في وقت حذر فيه المسؤولان السابقان من مغبة التشكيك في الرواية الرسمية!
ولايكتفي الرجل بماسبق، بل يؤكد على ثابت من ثوابت الذهنية السلطوية، ثم ذهنية الإعلام الذي يدور في فلكها، وهو أن [اتهام الدولة بخرق القانون واختطاف مواطنين عملية تروم "صب الزيت على النار"(17)].
إنه ثابت من ثوابت سلطوية أخرى لعل من أهمها أن:
-التشكيك في الرواية الرسمية إشادة بالإرهاب!
-وأن المطالبة باحترام حق المواطن في التعبير، أو ذكر ظلامة علنا في وسائل الإعلام وغيرها، كل هذا استقواء بجهات خارجية، أو تشويه لسمعة البلد وتنقيص منه!
وما يقابل هذه الثوابت أن مدعيها والمروجين لها هم وحدهم المواطنون الغيورون على الوطن، المحبون للسلام والمدينون للإرهاب! وعلى الدولة –في نظرهم- "استئصال" من يرونه، وبمعاييرهم المختلة، "إرهابيا"، كي تستمر عملية نهب خيرات البلد أراضي وبقعا، وشيكات تحت وفوق الطاولة...!!
ويؤكد هذا الصحفي، في مقاله التالي بعنوان "مؤامرة"، على نفس العقلية في الموقف من أفراد الخلية المزعومة، وهو ماسنراه في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
(يتبع).
_________________
1-حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، تصنيف: عبد الرزاق البيطار، ص 10/11، تحقيق : محمد بهجة البيطار،مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق،دار صادر – بيروت. ط2/ 1413هـ-1993م. 2-خالد الحري، افتتاحية جريدة "الصباح" بعنوان: "المصداقية" ، الصباح، عدد 2447 بتاريخ الخميس 21 فبراير 2008.
3-لسان العرب لابن منظور الإفريقي، مادة "سرع".
4-فشل مثلا في التعامل مع قضية الانفصالية أمينتو حيدر فشلا ذريعا، كسبت من ورائه –للأسف- تعاطفا دوليا. والتعبير "وزير فاشل" سمعته من أستاذنا محمد المرواني حفظه الله في ندوة صحفية حول المعتقلين غير المفرج عنهم إلى الآن.
5- مقال الحري السابق.
6-ترتيب هذه الأحداث مأخوذ مما نشرناه في مدونة "الالتزام" تحت عنوان : "كرونولوجيا اعتقال السياسيين الستة فيما سمي بخلية بليرج"، وذلك على الرابط:
hassanla.maktoobblog.com
7-المادة 57 هي كالتالي: "يحل بموجب مرسوم معلل كل حزب سياسي يحرض على قيام مظاهرات مسلحة في الشارع، أو يكتسي من حيث الشكل والنظام العسكري أو الشبيه به صيغة مجموعات قتال أو فرق مسلحة خصوصية، أو يهدف إلى الاستيلاء على مقاليد الحكم بالقوة أو يهدف إلى المس بالدين الإسلامي أو بالنظام الملكي أو بوحدة التراب الوطني للمملكة".
8-مقال الحري السابق.
9-من حوار مع نبيل بنعبدالله، الناطق الرسمي السابق للحكومة ، وهو الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية (الحزب الشيوعي سابقا)، وهو نفس الحزب الذي ينتمي إليه الناطق الرسمي الحالي الوزير خالد الناصري . وقد علقت جريدة "المساء" المغربية على كلام نبيل بنعبدالله، في صفحة "نتا بركم وانا نفهم" بما يلي: "هل يعني هذا أن مايقوله خلف نبيل بنعبدالله ورفيقه في الحزب، الناصري، هذه الأيام، يجب أخذه على محمل آخر غير محمل الجد...؟"(جريدة "المساء"، عدد 484، الأربعاء 09/04/2008).
10-الصديق بوكزول، مقال:"مشككون..."، جريدة الصباح، عدد 3447، الخميس 12/05/2011.
11-مقال "المصداقية" السابق.
12-أذَكّر بأن الفصل 59 من قانون المسطرة الجنائية ينص على مايلي: "تحصى الأشياء والوثائق المحجوزة فورا وتلف أو توضع في غلاف أو وعاء أو كيس، ويختم عليها ضابط الشرطة القضائية. وإذا استحال ذلك، فإن ضابط الشرطة القضائية يختم عليها بطابعه "(المسطرة الجنائية، تقديم امحمد الأزهر وزميله، سلسلة التشريع المغربي، مكتبة الرشاد، سطات. ط 2/2004، ص 60). وقد تم عرض الأسلحة التي قيل أنها ضبطت لدى بعض أفراد الخلية المزعومة بدون أي شرط من هذه الشروط.
13و14و15و16و17-مقال الحري السابق.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !