"زاوية ابو علي" -مقهى وجلسة نقاش و...متحف اثري

"زاوية ابو علي"
مقهى وجلسة نقاش و...متحف اثري

صهيب أيوب

أصل الى ساحة شارع البلدية حيث مبنى بلدية الميناء القديم. في الساحة، ينتصب تمثال الطبيب الراحل يعقوب اللبان (1887-1968)، و في جانب منها تقع كنيسة القديس مار جورجيوس. لا تظهر في المكان علامات التدين او المذهبة او الطائفية. الكاتدرائية الارثوذكسية يخيم عليها الهدوء نفسه المقيم في جنبات الساحة، فيخيل للزائر ان المكان قد اخلي من ساكنيه. في جانب آخر من الساحة، قداسة من نوع آخر، هي قداسة التنوع الذي تنعم به الميناء دون سواها من مناطق طرابلس. إنه التنوع الذي يعد من اهم عناصر المناعة الذاتية التي تحمي هذه المدينة، على الرغم من أنها تلقت بعض ويلات الحروب.

لقاء في الزاوية

النخبة "الميناوية" المختلفة بأمزجتها وطوائفها، واصولها، ومعتقداتها الفكرية، تلتقي في مقهى يملكه ابو علي الشيخ. مقهى ضيق وصغير يطلق عليه رواده من المحامين والاساتذة والمهندسين والاطباء واعضاء المجلس البلدي والاختياري، "زاوية ابو علي". التسمية ليست مبالغة، بل هي تجسيد واقعي يُسقط معنى قديم على طابع حديث، حيث تدور مناقشات وأحاديث بين رواد الزاوية - المقهى. فلا يمكن لزائر ساحة يعقوب اللبان، الا ان تجذبه نظرات رواد هذه الزاوية وأحاديثهم في "قعداتهم" التي توحي بالتالف والود والوئام.دخان السجائر الذي يجمع هؤلاء "المعتقين" بروح الميناء يمتزج بنسائم البحر المطل من بين زوايا البيوت والابنية المواجهة لساحة يعقوب اللبان.همهمات خافتة تدل على لياقة اجتماعية. التقي في الزاوية، الاستاذ جورج دروبي ويني كوزما ومحمد صيداوي ومصطفى الشيخ (ابو علي).

سيرة فتى من المهاجرين

روى أبو علي سيرته في مدينة الميناء التي تربطه بها ذكريات الطفولة والعيش اليومي، على الرغم من انه من اصول كريتية (نسبة الى مهاجري جزيرة كريت اليونانية)."اصلي من كريت اليونانية، اتى جدودنا الى هنا عام 1896. قسم منا سكن في الميناء، وخصوصا في حي بات يعرف بحي "الكراد" أو حي مهاجري كريت في منطقة تعرف بـ"الحمام المقلوب". وراحت العائلات الكريتية المهاجرة تتوزع في حارات الميناء وأحيائها، وصرنا اليوم نشكل 1400 صوت انتخابي. منذ صغرنا، نحن أبناء عائلة "شيخاكي" (قبل ان نحذف منها "آكي" ونبقي على شيخ تسهيلاً للفظها بين الناس)، نسكن في شارع البلدية. تعلمت في مدرسة مار الياس، وتعرفت الى جو الميناء بكل اختلافاته. عملت بعد ذلك في ميكانيك السفن وخلط المعادن واملك شهادة خبير محلف لدى المحاكم في شؤون السفن البحرية التي كانت تصنع قديماً في ميناء طرابلس، وكانت صناعة متخصصة و مزدهرة. وذلك في مؤسسة محمد يحيى التي عملت في هذا المجال منذ عام 1950 حتى بداية الحرب الاهلية التي افقدتنا عملنا. بعد ذلك افتتحت عام 1988، مقهى في الحي الذي تربيت فيه. في صباي كنت اقضي اوقاتي مع الرفاق في زيارة " الزير" ( الجزركما تسمى على الطريقة الميناوية)، وارتياد صالات السينما التي كان عددها خمس في الميناء قبل أن تقفل كلها منذ سنوات. وهي "رابحة " و"السلوى" في ساحة "الترب"، و"كليوبترا" مقابل البحر، و"راديو" في شارع يعقوب اللبان، و"فيكتوريا " في ساحة البيئة. اعتقد ان الميناء فقدت خصوصيتها الفريدة كمدينة، منذ إقفال صالات السينما فيها".

مقهى ومتحف

تحتضن زاوية ابو علي ذات الطراز الشرقي، مجموعة كبيرة من التحف النحاسية اليدوية الصنع.
يقول إن عمله قرب البحر يعني له الكثير. والنحاس عنده ترجمة لحبه الميناء وبحرها القريب. المقهى الصغير الذي يملكه يبدو متحفاً لمنتوجات يدوية نحاسية. منها تابلوهات تمثل "الياطر" (اي المرساة) وأخرى تمثل نوافذ الغواصات الصغيرة. ولقطع القذائف المتناثرة من ايام الحرب، حضورها كمنافض للسجائر، الى جانب مناضير بحرية تزين جدران المقهى، إلى جانب بعض نماذج من الاسفنج البحري والنجمات والاصداف التي اشتغل عليها لتخرج بحلة تزيينية موفقة. في جلستي على رصيف زاوية ابو علي الذي بات مساحة تابعة للمقهى الضيق، اكد لي الاستاذ جورج دروبي (احد كبار اساتذة اللغة الفرنسية في الميناء واكثرهم شهرة، إلى جانب عضويته في المجلس البلدي)، ان ما يميز الميناء هو نسيجها الاجتماعي المتنوع من كل الطوائف. انهيت جولتي الليلية في أحد مرابع شارع" مينو" مع شلة من الاصدقاء "الميناويين" الذين راحوا يحدثوني عن مدينتهم وحالها الحائرة بين الحرية والانغلاق.