"جهاد النفس في الاسلام"
للعلامة السيد محمد علي الحسيني
لم يٶکد الدين الاسلامي على أية مسألة مثل تأکيده على موضوع جهاد النفس حيث منحه أهمية قصوى و إستثنائية و شدد عليها کثيرا، وقد قال الرسول الاکرم"ص":"مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس."، حيث نلاحظ هنا بأن الرسول الاکرم"ص"، قد سمى جهاد النفس بالجهاد الاکبر فيما سمى الجهاد ضد أعداء الاسلام بالجهاد الاصغر، وفي هذا الکثير من المعاني و العبر التي علينا تدارکها.
القرآن الکريم يتضمن العديد من الآيات الکريمة التي تتناول النفس و أهمية تزکيتها و تنقيتها من الشوائب و الادران العالقة بها، نظير: (ونفس وماسواها فألهمها فجورها و تقواها قد أفلح من زکاها و قد خاب من دساها) و(إن النفس لأمارة بالسوء إلا مارحم ربي)او(أحضرت الانفس الشح) و(ولايجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويٶثرون على أنفسهم ولو کان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) او(ولا أقسم بالنفس اللوامة) او(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية) وفي کل هذه الايات لو أمعنا النظر فيها بدقة و روية نجدها تسلط الاضواء على قضية النفس و کأنها واحدة من أهم مکونات الشخصية الانسانية لو إمتلك الانسان زمامها.
من هذا المنطلق، وفي ضوء الآيات الکريمة أعلاه، ومن أجل أن نفهم لماذا أعطى الرسول الاکرم"ص" کل هذه الاهمية لجهاد النفس و ماهي الاسباب الکامنة وراء ذلك، فإننا لابد من أن نضع الشخصية الانسانية على بساط البحث نسعى لسبر أغوارها و البحث في جوانبها المختلفة ومن هذا المنطلق فإننا لو تناولنا شخصية الانسان من ناحية علمية و موضوعية لوجدناها تتکون من جانبين أساسين هما:
اولاـ العقل.
ثانياـ النفس، والذي يتکون بدوره من مجموعتين من العوامل هما:
أـ عوامل عضوية: نظير الاکل و الشرب و النوم.
ب ـ عوامل غريزية: نظير الجنس و حب الذات و حب التسلط و الغرور و الحسد و غيره.
ولو دققنا في مجموعتي العوامل النفسية لوجدنا بأنه من غير الممکن أن يعيش الانسان من دون العوامل العضوية، لکن حياته تستمر من دون العوامل الغريزية غير أنها لن تکون حياته طبيعية و إعتيادية بمعنى إنها ستعتريها منغصات و اضطرابات من جراء الکبت أو النأي بالنفس عن العوامل الغريزية، کما إن الإسراف و المبالغة في العوامل العضوية تٶدي من ناحيتها أيضا الى نتائج و تداعيات سلبية على الانسان، وفي هذا الخضم و الصراع المتداخل المحتدم، يبرز دور الجانب الاول من الشخصية الانسانية أي العقل، والذي هو بمثابة المنظم و المنسق و المرتب و المرشد للعوامل العضوية و الغريزية.
تتبع مسألة تزکية النفس و تهذيبها و تنقيتها من حيث تنظيم العلاقة مابين مختلف عواملها و العقل بحسب ماأوضحناه عن جانبي الشخصية الانسانية، نجده يحدد الطابع و الاطار الظاهر للشخصية الانسانية، وکما هو معلوم فإن القرآن الکريم طرح ثلاثة أنواع للنفس الانسانية هي:
1ـ النفس الامارة بالسوء، وهي النفس التي تکون العوامل العضوية او الغرائزية أو کليهما معا مسيطرتان عليه تماما فتعطل دور العقل کظابط و منظم و تکون الغرائز او العوامل العضوية أو کلاهما معا هما اللذين يسيرانه، وفي هذه الحالة من النفس تکون الشخصية الانسانية مهيأة و مناسبة لإرتکاب المعاصي و الآثام و الذنوب، بمعنى إن الانسان هنا يکون مهيئا للخضوع من خلال عوامله الغرائزية و العضوية لشر الشيطان و أحابيله واللافت هنا إن معظم القرارات التي يتخذها الانسان هنا تکون غير سليمة.
2ـ النفس اللوامة، فهي التي نجد فيها حالة من الصراع الضاري بين العقل و العوامل النفسية العضوية و الغرائزية حيث يسعى العقل لإمساك زمام العوامل النفسية و يحد من طغيانها و جبروتها و غلبتها على الشخصية الانسانية، ومن أهم بوادر هذا النوع من النفس أن الانسان يلوم نفسه على مافاته من الخير او ماارتکبه من أخطاء، والندم الحقيقي هو أول درجات السلم الذي يرقى بالانسان نحو التکامل و النقاء و الصفاء، أما القرارات التي يتخذها الانسان هنا فإنها قلقة نوعا ما و تسعى للإتجاه صوب المنحى و الاتجاه الصحيح.
3ـ النفس المطمئنة، في هذا النوع من النفس، يکون العقل مسيطرا و بصورة کاملة على العوامل النفسية الغرائزية و العضوية على حد سواء بحيث تسير کلها وفق ضوابط و اسس واضحة يتم خلالها تلبية الاحتياجات الانسانية بما تجعلها محکمة و قويمة، وفي هذه الحالة، نرى الانسان يتوجه لربه و لزوم طاعته و لايخضع لسواه، وتکون القرارات التي يتخذها في هذه الحالة؛ قرارات صائبة و في مکانها تماما.
من هنا من خلال العلاقة بين العقل و النفس الذين هما سر و اساس شخصية الانسان و مساره و إتجاهه و مصيره النهائي، ذلك إن سيطرة العقل على النفس تعني تقويم الشخصية الانسانية و جعلها مهيئة لأداء مهمتها الانسانية و الرسالية حيث إن العقل و کما ورد في الحديث الشريف: (أول ما خلق الله العقل قال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك. بك آخذ، وبك أعطي؛ وبك أثيب، وبك أعاقب)، ولهذا فإن کل هذا التبجيل و الافضلية التي منحها الله سبحانه و تعالى للعقل، إنما من الدور الحيوي الذي يلعبه في حياة الانسان فيما لو عمل الانسان بنفسه على تهيئة الظروف و العوامل اللازمة لذلك.
ونعود للحديث الشريف الذي کان رابط و أساس موضوعنا هذا و الذي رکز على أهمية جهاد النفس و منحه الافضلية و الاولوية على غيره، حيث إننا نرى اليوم و في غمرة اجتياح الموجات التکفيرية و المتطرفة التي تزرع الموت و الرعب و الدمار هنا و هناك باسم الجهاد في وقت نجد فيه أن أکثرية هٶلاء مغرر بهم و منقادون تحت ضغوطات عوامل نفسية غرائزية في أغلبها إذ أن دور العقل معطل أو قاصر عن أداء المهمة المناطة به، ولذلك فإننا ندعو اخواننا و أخواتنا الى الاهتمام بجهاد النفس و منحه الاولوية لأنه سيجعل من الانسان المسلم في نهاية المطاف صاحب شخصية متکاملة نسبيا و بإمکانه اتخاذ القرارات المناسبة التي تخدمه أولا و تخدم الوسط الذي يعيش فيه ثانيا و قبل هذا و ذاك تخدم دينه و آخرته على حد سواء.
التعليقات (0)