مواضيع اليوم

"جمعة" رواية للدكتور ياسين سعيد نعمان

محمد البذيجي

2010-01-15 12:40:19

0

جمعة" امرأة من الماضي، صعدت فجأة من قاع الذاكرة، ..

حيث نامت هناك ما يزيد على خمس وثلاثين سنه. لكن نومها هناك لم يمنعها من أن تعبر الزمان والمكان في رحلة العمر المتشظي بحوافر الخوف والأوجاع والظلم والأحزان.

لم تكن تحتاج في عبورها هذا سوى القليل من الأمل لتعيد جمع الشظايا، وتواصل الارتحال عبر ندبات الحزن وفوهات الآلام.

لم تجردها السنون من جمالها حتى بعد أن تكسرت عضلات وجهها إلى أخاديد، وغارت عيناها وسط أهداب حافظت على اصطفافها المتناسق.. عيناها المشعتان بِحَوَر أثقلته الأحزان وبريق أطفأت جانباً من جذوته الدموع.

لا يحتاج المرء إلى وقت طويل لكي يعيد رسم الصورة للأسيل المتورد بفورة الشباب، وضجيج الصِّبا، ولفحات هجير الشمس، ودلال الأنوثة المطلة من ربوة العمر على سهوب تتعانق مع السماء عند نقطة لا نهائية المدى فيما يشبه التوحد الذي يجسده التماهي مع الأصيل قبل أن يبتلع الأفق قرص الشمس.

كما إنه لا يحتاج إلى جهد ليعيد بناء الأهداب المتراصة بتأهب، والشاردة بتحفز، لتطويع الأحلام المتمردة، وكأنها نبل انطلق من قوس رام لا يخطئ الهدف. كل هذا لأن جمال "جمعة" قُدّ من صخر جبلٍ ما من جبال اليمن، وحمل معه سر هذه الصخور التي تقادم عليها الدهر حتى اكتشف الإنسان جمالها الكامن فيما احتفظت به من حاجة إليها وهو يعمر الأرض ويطاول في البنيان ويفاخر بالتزيّن كعنوان للثراء والتميّز.

ولأنه كذلك، فما عليك إلا أن تحرك ناظريك بين أخاديد وجهها لتكتشف الينابيع والأودية والجداول والشعاب التي تنتهي جميعها إلى فمها المحاط بشفتين ما تزال آثار الوشم الأخضر تخضب الأسفل منهما على الرغم من الشقوق التي ارتسمت بقوة عليه، وكأن لهاث الزمن قد أخمد بركانه وأفرغه من شحناته وأحاله بقعة هامدة فقدت حساسيتها في إيصال رعشة اللذة إلى بقية الجسم الكبير.

ما عليك إلاّ أن تتأمل في أهدابها لترى الزمن يتدفق كشلال في صور محروقة الأطراف، ينبعث منها دخان ونيران وأشلاء.. صور مآذن وأسواق وقصور تحاصرها الأكواخ، طوابير الجائعين يتحلّقون حول نفايات القصور، أطفال وصبايا يغنّون للمستقبل يناشدونه أن لا يتخلى عنهم، شوارع مضيئة ومنازل معتمة.

ترى كم من الخيول عبرت فوق هذا الوجه! وكم من الفرسان أو القراصنة احتوتها هذه الأهداب!
سألت نفسي وأنا أشاهدها فجأة في شارع علي عبدالمغني بصنعاء تتجول بلا هدف بقامة فارعة انتصبت خارج فعل الزمن وتأثيره.

كانت الدهشة بادية على محياها وهي تشاهد ذلك الزحام المرعب والضجيج المنبعث منه. كل شيء يبعث ضجيجه الذي يقدر عليه.. لكي تثبت أنك موجود لا بد أن يكون لك ضجيجك الخاص.

رحت أتأملها وقد أوت إلى زاوية في مفترق الشارع مع شارع جانبي وكأنها تحتمي من الضجيج، لكن سيارة فارهة ضجت بفراملها على مقربة منها. أطل منها رأسان من المقعدين الأمامي والخلفي، طلبا منها الصعود بلهجة أقرب إلى الأمر منها إلى الغزل. توارت داخل نفسها من المفاجأة، لكنها سرعان ما انتزعت نفسها من حالة الخوف التي سيطرت عليها، وتبسمت بسخرية وصرخت:
- مكاسير نواميس ما تعرفوش حتى أصول الغزل.. كل شيء عندكم بالهنجمة والنخيط.

في هذه اللحظة قررت أن أتحدث إليها.. اقتربت منها. بدت محبطة وغريبة. كل شيء حولها متغير، أما هيئتها فلا تدل على أنها خارج الزمان والمكان. سألتها:
- كيف أنت يا جمعة؟!
لم تلتفت إليّ في البداية، وراحت تواصل حديثاً مع نفسها لم ينقطع منذ أن تخلصت من أصحاب السيارة.. "هؤلاء الملاعين ما عاد يميزوش، لكن حتى اللي قد هيه من حق الشوارع مستحيل تمشي بالأوامر والنخيط، أيش الذي غيَّر الناس تقول؟".

لم تكن تنتظر جواباً من أحد، رمت بسؤالها كمن غرق في سديم الإحباط مما أصاب الناس من تغيرات. ولو لم أنادها بـ"جمعة" لما ألقت بالاً لسؤالي عن حالها. بدا لها اسم "جمعة" قادماً من وراء السنين! ترى من هذا الذي يناديها بهذا الاسم الذي تناثرت أحرفه مع الزمن وتشظى بفعل قانون الذكورة الذي طبق عليها في أسوأ صورة!

تطلعت في وجهي. دققت النظر لكن خجل الأنثى منعها من التركيز أكثر مما يسمح به الموقف. ولكي أساعد ذاكرتها على تخطي كل تلك السنين، قلت لها:
- سبحان الله يا "جمعة"! من كان يصدق أننا سنلتقي بعد كل هذه السنين!

لم تكن، كما بدا لي، في حاجة إلى مزيد من التوضيح، فبسرعة كبيرة قادها شريط الذاكرة إلى الحي الذي ترعرعت فيه مع هذا الفتى الذي ينتصب أمامها الآن كهلاً في هذا الشارع الذي يضيق بمن فيه من شدة الزحام. الفتى الذي كان يغير طريق مدرسته عنوة ليمر من أمام منزلهم، ويتجرأ أحياناً ويطلب ماءً بارداً من أمها الطيبة –فقد كانوا من القلة الذين يمتلكون ماءً بارداً في الحي- وذلك ليخطف نظرة من وجه "جمعة" الصبيح الباسم. ربما تذكرت الآن كيف كانت تشجعه على ذلك، ولكن بدون ابتذال، حتى إذا ما أيقنت أنه قد تعلق بها، راحت تمتنع عن الظهور عليه لأيام طويلة، ثم يشق عليها أن تراه وقد غلبه الانتظار فتتكرم عليه بإطلالة تنتزعه من كابوس الانتظار الطويل وتغرقه في حلم جميل يعوض عناء الانتظار الممل.

أما هو فلم يجد تفسيراً لهذا اللغز إلاّ حينما اكتشف أنها صارت حلماً للكثيرين من أترابه من أبناء الحي.
ذات يوم، تكاشفوا فيما بينهم، فإذا جميعهم يهيمون بها حباً. لكن باله لم يهدأ إلا حينما شهد الجميع بعفتها. ظل طوال الحديث عنها متحفزاً ومستنفراً، لا يشارك في الحديث، يراقب زلة لسان من هنا أو هناك، لكن مشاعره هدأت حينما وجد الجميع يتحدثون عنها بإعجاب. اكتشف مع تقدم الأيام أنها لم تكن تغازل إلا لتكتشف جمالها في تلك السن المبكرة، وترضي بذلك غرور الأنوثة المتفتحة كوردة شقت درعها بعنفوان لتخرج إلى النور.
كان والدها يخط الحي بعصاه في هيبة لا تخطئها العين وهو في طريقه إلى الجامع أو إلى الدكانة التي يمتلكها ويديرها في أعلى الحي. جانب من هيبته يعود إلى سمعته العطرة وتعاونه مع أبناء الحي في أي ضائقة أو مشكلة.

وعلى الرغم من أنهم لم يكونوا يعرفون له أصلاً حينما هبط في الحي فجأة برفقة زوجته التي كانت حاملاً في الشهر السابع بولده الأول، إلا أنهم تآلفوا معه وكسبهم بعفته ونزاهته وكرمه وقوة بيانه. في البداية، نسجوا حوله القصص، فقالوا إنه سرق خزنة الإمام وهرب إلى عدن، وقالوا إنه خان شريكه التاجر في المخا وأخذ أمواله واستقر بعيداً عن الأنظار، وإن أبناء التاجر يتعقبونه، كما إن والي عدن أرسل في طلبه بناء على شكوى تقدم بها هؤلاء الأبناء. وقد تولى نشر هذه القصص عن الرجل شخص اسمه حسن الأعرج، نصفه صومالي، ولا يُعرف له -هو الآخر- أصل سوى أنه يعيش في "صندقة" خشبية مع صديقه اليهودي في "الخساف"، وكان يأتي إلى الحي ليزور لاعب الكرة المشهور الذي تعرف من خلاله على معظم أبناء الحي. ثم أصبح يلف المنازل منزلاً منزلاً ينقل أخباراً من هنا وهناك عن أعضاء المجلس البلدي وبيع شهادات الميلاد لغير أبناء عدن، وعن "بنجلة" الشيطان وخطف الأطفال، وعن الناس الذين اعتنقوا المسيحية. ثم صار يوظف علاقاته للقيام بدعايات انتخابية لأكثر من مرشح في وقت واحد، ويبرر ذلك بأنهم كلهم أصحابه. وفجأة اختفى حسن الأعرج، وانقطعت صلته بالحي، ومع المدى تبين أبناء الحي أن الرجل الذي حل بينهم رجل خير، واستقر رأيهم على أنه من رجال الله الطيبين، وسموه الحاج المخاوي، وعرف بهذا اللقب الذي اخترعه أصحاب الحي، وأطلق على دكانته دكانة الحاج المخاوي.

أما زوجته فقد كانت امرأة صالحة؛ تطعم الجائع، وتكسو الفقير، عفيفة اللسان وطيبة القلب، ولذلك فقد أحبها سكان الحي، ويروون حكايات كثيرة عن كرمها وأخلاقها ومساعدتها للأسر الفقيرة.

وإلى جانب "جمعة "، كان للحاج المخاوي ولدان يكبرانها بسبعة أعوام وخمسة أعوام. وكانت حياة الأسرة هادئة، فقد وفر لها الحاج المخاوي الظروف اللازمة، سواء بماله أو بأخلاقه وعلاقاته. ومع الأيام، توسعت تجارته، وافتتح دكانة أخرى في الحي المجاور، وجعل في كل منهما أحد أولاده.

لكن الولدين لم يكونا بمنزلة والدهما ولا بأخلاقه. فقد جعلت التجارة منهما شيئاً مختلفاً، وشكلت أخلاقهما على نحو مغاير، ربما لأنهما ورثاها جاهزة، ولم يتعرفا بقدر كافٍ على الوجه الآخر لها كنشاط إنساني يجسد مكانتها في حياة المجتمعات وتعميرها ويحميها من الانفلات نحو الجشع والاستغلال وتدمير العلاقات الإنسانية.

لم تعد دكانتاهما موئلاً للمحتاجين كما كانت دكانة الحاج المخاوي التي ازدهرت تجارتها بحب الناس. ولذلك فقد كثر اللغط حولهما، وجافاهما أهل الحي، فقررا بيع الدكانتين، وشراء مستودع أكبر وسط المدينة.

عند هذه الحالة التي آلت إليها الأسرة، غادرتُ إلى الخارج للدراسة، وعدتُ بعد خمس سنوات ولم أجد للأسرة أثراً. كانوا قد غادروا، وكل ما عرفته من أهل الحي أنهم رحلوا ذات مساء ولا أحد يعرف إلى أين توجهوا وإلى أين استقر بهم المقام.

اختفت "جمعة"، هكذا، وفي لحظة، عبرتُ فوق الزمن الطويل. هنا في مدينة أخرى من مدن اليمن التي كانت ذات يوم تبدو نائية، وفي شارع علي عبد المغني، رحت أبحث عن إجابة للسؤال القديم. أين ذهبت "جمعة"، وأي سر حملته معها؟ وأي مدينة ابتلعتها وأي حياة تعيش؟

لكنني هذه المرة لا أبحث عن إجابة في مخيلة استغرقها اليأس، أو اللامبالاة أحياناً، كما يحدث مع الأسئلة التي استهلك الزمن إجاباتها، فأحد وجوه الحقيقة ماثل أمامي الآن يسترجع شريط ذكرياته ويتأهب لحل اللغز الذي شغل محدثه هذا الذي انبثق فجأة من وسط الزحام والضجيج ليتقاطع مع لحظة استعصت عليه للإجابة على أسباب هذا التحول الذي أصاب الناس الذين لم يعودوا " يعرفوا حتى كيف يغازلوا ".

كنت بالنسبة لـ " جمعة " في تلك اللحظة كمن انبثق من جوف صخرة صماء ليعيد لها الثقة بأن الأرض لم تصر يباباً بعد، وأنها لم تزل ولادة على الرغم من تيبس رحمها الذي أنهكه الحمل الكاذب لفترات طويلة.

كررت سؤالي كي أبسط لها تعقيدات الذاكرة:
- كيف حالك يا بنت الحاج المخاوي؟
كانت الذاكرة كما يبدو قد أسعفتها، فردت على الفور:
- سبحان الله كيف الدنيا صغيرة، ووفية لما تشتي تكون وفية! كنت أحس بغربة شديدة إلى أن سمعت صوتاً ينادي " جمعة " وسط هذا الضجيج. لم أنتبه للاسم لأنني قد نسيته من زمان. ما عادنيش اسمي " جمعة ".. لكن رنة الصوت شدتني بقدرة الله سنين إلى الوراء. عبرت بي عمر متعوب. هذا الصوت جعلني أتصالح مع اسمي القديم. وينك من زمان؟! تخلصتُ من سؤالها الذي شعرت أنه كان يحمل نفس اللغز مع عتب شديد أفصح عنه وجهها والطريقة التي ألقت بها سؤالها. سألتها:
- وما اسمك الآن؟
- إسمي.. كل زوج يعطيني اسم. الأول قال إن اسم " جمعة " ما يناسبش مركزه، وسماني " جوهرة ". ولما اكتشف إن إخواني حرموني من الميراث، قال لي" ما انتِ ولا جوهرة "، وطلقني وسار. والثاني سماني " فضيلة " وحكم عليّ ما أخرجش من البيت ولا أشوف أحد ولا أحد يشوفني.. قلت له: محدش يشوفني ممكن، لكن ما أشوفش أحد مش ممكن، أيش عمياء! قال: إذا ما سمعتِ الكلام با تكوني عمياء. المهم كان يغلق عليّ الباب بالقفل ويروح الشغل ويرجع بعض الأحيان نص الليل، ولما نفد صبري قلت له: الفضيلة الناس ما يغلقوش عليها الباب بالقفل ولا يحبسوها، الرذيلة هي وحدها اللي يخبئوها لأنها معيبة، وأني مش رذيلة تستحي مني أو تخشى من المعايرة. ضربني، وثاني يوم تركت له البيت، ولحقني عند أمي بقائمة حساب بمخاسيره، وأتسلفنا ودفعنا له جزء والباقي أعطيناه فيه سند. أما الثالث فسماني " ولاء "، ولما سأله القاضي عن سبب تغييره لاسم فضيله، أجاب بتأفف: هذا الاسم يختزن ثقافة تقليدية ذات أبعاد متحيزة ضد المرأة! وعلى الرغم من أنني لم أفهم كلامه كله، إلا أنني قلت لنفسي يـَ لله ولاء ولاء، أيش جنيت من " فضيلة " طبعاًً استعنت بكل ثقافتي المحدودة لأترجم كلامه. وعندما خرجنا من عند القاضي قلت له ونحن في السيارة:
- فهمت كلامك إنك من أنصار المرأة، وهذا...

ما خلانيش أكمل الجملة التي رتبتها بعناية علشان أظهر له بأنني مثقفة. قاطعني بحدة وقال:
- ما يروحش بالك بعيد، خليك بنت ناس يا " ولاية ".
- ولاء. صححت له الاسم. قال:
- كله زي بعضه، ولاء، ولاية.. المهم من الآن وصاعد تسمعي الكلام وبس.
نزع القناع عن وجهه.. أدركت أنني وقعت في فخ آخر. حاولت أن أطرد الأفكار التي هاجمتني، ما أعطانيش فرصة، راح في حديث طويل عن تضحيات المرأة، وقال:
- مسكينة المرأة، عليها دائماً أن تضحي. مجتمعنا هذا قاسي وتغييره يحتاج إلى وقت طويل.. وحتى يتحقق هذا التغيير لازم نتعايش مع الواقع. تصوري واحد صاحبي غرق في ديون وأنقذته زوجته!
علقت على كلامه متسائلة:
كيف أنقذته. أكيد كان معها ثروة ودفعت ديونه.. الزوجة المخلصة لازم تعمل مثل ما عملت زوجة صاحبك.

غمز بعينه اليمنى وأطلق ضحكة فيها قدر من السخرية، وقال:
- أيوه، قربت تفهمي.. كان معها ثروة، لكن مش فلوس. أنت أيضاً معاك ثروة مثلها، علشان كذا لازم أختبر إخلاصك. صاحبي الثاني كان مسكين مهضوم في عمله، كتب أجمل القصائد، وأروع المقالات، باع إبداعه رخيصاً. مدح هذا وذاك ولم يحصل سوى على الفتات.. أصابه الإحباط. أنقذته زوجته، كانت صاحبة ثروة هي أيضاً. فتحت أمامه الطرق المغلقة والحواجز الملغمة فتبوأ المناصب، وفتح الله عليه.
لم أستطع أن ابتلع تفاهته، فقد أدركت أنني أمام شخص حقير. قلت له بغضب:

- لا فتح الله عليك يا سافل يا منحط، وقف السيارة قبل ما أعمل لك مصيبة وأفرج عليك أمة لا إله إلا الله.
وبعد مشادة عنيفة أوقف السيارة نزلت منها وسمعته يقول:
- أما أنت متخلفة صحيح!
رديت عليه وقد شعرت بانعتاق ورغبة في البكاء:
- خلفوك لطاهش الحوبان يا اللي ما تستحي على عمرك.. قال إيش..
" اسم يختزن ثقافة تقليدية ذات أبعاد متحيزة.. " حزوا راسك الفارغ يا عديم التربية.
عدت إلى بيتنا سيراً على الأقدام. كانت أمي قد ودعتني فور خروجنا من عند القاضي وذهبت إلى البيت. طوال الطريق وأنا أكلم نفسي مثل المجنونة وأتساءل:هل هناك ناس بهذه الأخلاق؟!

عندما شرحت لأمي المسكينة الذي حصل، بكت وتأسفت على حظي النكد. ثاني يوم أخذتني إلى " السيد" علشان يفك لي العمل.
في البداية رفضت وقلت لها:
- خلاص.. لو في عمل كما تقولي خليه يبقى لأنني قررت ألا أتزوج مرة أخرى.
صاحت أمي وقالت:
- أني مجنونة أخليك في البيت مطلقة!
- أيش با يقولوا الناس؟!
- أي ناس يا أمي.. هؤلاء هم الناس اللي تخافي من كلامهم، كلهم عاهات، با ألزم بيتي والمخارج الله والذي عنده كلام يغلق عليه في لقفه النتن.

كنت أستمع إلى حديثها المفعم بألم عميق تجترّه من وجدان قرّحته التجارب الفاشلة. وكان خيط الذكريات يتداخل مع الحديث فتنط " جمعة " الصبية الفاتنة بطيفها المتألق الأنيق من قاع الذاكرة لتحل محل " جمعة " المرتحلة عبر زمن قاحل لم يستطع أن يقتلع خصوبتها التي توزعت على جسم صقلته الأيام الكالحة والتجارب المريرة، وأقول لنفسي: أي وفاء تتحدث عنه هذه المرأة التي رمت وراءها ثقل السنين العصيبة ومرارة الدنيا لتراها وفية في لحظة، هي أقرب إلى الثانية، وحّدتها مع صباها الذي أطاح بقلوب الفتيان في حيها القديم وأشعل فيها جذوة الحب العذري الذي يأتلف مع الحياة بعد ذلك ليغدو أشبه بوشم غائر في القلب لا تؤثر فيه السنون ولا تجتثه الأحداث.. ذلك الحي الذي شهد ولادة الرعشة الأولى المبشرة بربيع الحب.. أي وفاء لهذه الدنيا التي حرمتنا من الحديث حينما كانت كل كلمة تحمل معها حلماً بالسعادة.. وتجمعنا الآن في حديث كل كلمة فيه تلخص خيبة الأحلام! سألتها:
- وهل أخذتك أمك إلى السيد؟
- حلفت أمي أغلظ الأيمان أن تأخذني للسيد أو نغادر المدينة التي استقرينا فيها منذ أن غادرنا مدينتنا القديمة. كنت أكره الارتحال، وأكره على وجه الخصوص أن أترك هذه المدينة على الرغم من أنني لم أشهد فيها يوم حالي. كل أيامها كانت مرة. ومع ذلك، للمرارة أحياناً وقع خاص تنتظم فيه الحياة على نحو يصعب العيش خارجها. لذلك وافقت وذهبت مع أمي إلى"السيد".



في ديوانه، الذي يتصدره مجلس يضم كنبة عالية يجلس عليها " السيد " في هيئة توحي بالرهبة لمن يشاهده للوهلة الأولى وهو يتطلع إلى فريسته بعينين نافذتين وملامح تدل على فراسة تلخص كل مؤهلاته في هذا الميدان، قال لأمي بهمس قصد أن يكون مسموعاً:

- اتركي لي فرصة أعالج الشابة من العمل المعمول بها كما قلت. أنا أعرف كيف أغور وراء هذه الأعمال إلى أعماق الآبار المحروسة بالجن. المهم تسمع الكلام " وتعتقد " في قدرتي على معالجتها، وإلا ما فيش فائدة من العلاج.
كان يختار كلماته بعناية. لم يؤكد أن هناك عمل، أما العلاج الموصوف فكان عبارة عن استعراض لقدراته بصورة مجردة وكأنه يضع لنفسه خطة رجعة للمحاججة عند أي مشكلة.
- كيف " تعتقد " يا سيدنا؟ سألته أمي.
- تسمع الكلام. وكل الذي أقوله يمشي.
- حاضر. أجابت أمي بخشوع. وتوجهت بكلامها نحوي:
- سمعت كلام السيد؟
- سمعت، وأعتقد – ثم خفضت صوتي – أنه دجال.

نظرت أمي بهلع نحو السيد ظناً منها أنه سمع الجزء الأخير من الكلام، لكنها تنهدت بعمق حينما رأته يتبسم ويهز رأسه علامة الرضى مما يعني أنه لم يسمع سوى ما دل في كلامي على الاعتقاد!

أمضيت شهراً كاملاً أتعالج عند السيد، وكل العلاج كان عبارة عن أسئلة عن تاريخ العائلة كنت أرد على القليل منها بصدق، أما الباقي فأرد عليها بحذلقة وكذب، وكان يتعمد يكرر بعض الأسئلة في مناسبات متباعدة ولكني كنت منتبهة. وعندما يختلف الجواب، ينبهني ويقول في المرة الماضية قلت كذا، فأرد عليه بحذلقة وأقول: ربما الجني اليوم صاحي وشاغلني عن الجواب المناسب. فيتبسم. وسمعته مرة يتمتم " والله ما جنية إلا أنت ".

بعد ما انتهى الشهر، استدعى أمي وقال لها:
- حالة بنتك معقدة، والجني الذي يحرس البئر دخاني.
- أي بئر يا سيدنا وأي دخاني؟
- البئر الذي في بيتكم القديم حيث مات زوجك. تعرفي أنا ما أقدرش أروح هناك ولذلك اعتمدت على رسول خاص، لكن الجني هناك دخاني وهذا نوع من الجن لا يتواجد إلا في تلك البقعة، على عكس الجن هنا يمكن الواحد يتفاهم معاهم أو حتى يصارعهم ويتغلب عليهم، والجني الدخاني ما أحد يلاقي له أثر. لكن الآن هناك حل واحد، ولن نفقد الحيلة والحل.
- ما هو الحل؟ سألته أمي بلهفة شديدة.
- أتزوجها إلى حين ما نقدر نسيطر على الجن.
- وبعد ما تسيطر على الجني، أيش با يكون مصير ابنتي؟
- بعدين تختار تبقى أو تفارق.
كنت أنصت إلى الحوار وأسرح بعيداً عن جو الغرفة الكئيب فيضيع مني جزء من الحديث، وسمعت صوت أمي قادماً من بعيد تسألني عن رأيي.
قلت:
- لا حول ولا قوة إلا بالله. وإيش با تسميني يا عمنا السيد؟!
- اسمك من الآن " عهدة ".
قلت لنفسي: عهدوا بك لعزارئيل يا مخرف، وبصوت عالي:
- لكن أنا أقسمت ما عاد أتزوج، فكيف أتحلل من القسم؟!
أجاب وقد بدت عليه نشوة الظفر بما خطط له منذ البداية:
- بسيطة. مثل هذه الأيمان لا يعتد بها لأنها ترتب مضرة، كأن يقسم شخص على أنه لن يذوق الطعام بعد اليوم.. ومع ذلك زيادة في التحوط نعمل كفارة.

قلت لنفسي الله الله كيف يعملوا مخارج لمّا تكون لهم مصلحة.
تحت إلحاح أمي، توكلت على الله، قلتُ يا خرج الجني من البير يا خرج " الحريو" من الدنيا، ولا يخفى عليك.. فكرت إن هذا الزواج با يحسن حالتي أنا وأمي، وما با يكونش السيد أسوأ من اللي قبله.

تطلعت فيها بتركيز أكبر وقد عاد إليها شيء من رونقها القديم وهي تتحدث بتلك اللهجة الساحرة التي قاومت بها بعضاً من عناد الدنيا ؛ وسألتها:
- ألم يتحمل إخوانك مسئوليتك أنت وأمك؟

تنهدت بعمق وكأنها تشفط هواء الشارع بأكمله فتعيده بزفرة قوية وقد حملته كل همومها وأحزانها. ثم صمتت للحظة وبدت كما لو كنتُ قد نكأتُ جرحاً قديماً في صميم فؤادها تحاشت الحديث عنه إلا بعبارة عابرة حينما قالت إن إخوانها حرموها من الميراث في معرض حديثها عن حكايتها مع زوجها صاحب جوهرة. وعلى الرغم من الدلالة البليغة لتلك العبارة المختصرة، إلا أنني على نحو مقصود أطلقت سؤالي مستفزاً بذلك الإهمال الذي تعرضت له هذه الأسرة: الأم الطيبة الفاضلة، والفتاة التي توفرت لها كل صفات وشروط الحياة الكريمة من جمال وخلق ومعيشة مستورة بما في ذلك التعليم إلى المستوى الذي بدأت معه الأنوثة تزحف إلى جسمها لتعيد تشكيله في هيئة دفعت والدها وأخويها إلى التفكير بجدية في إقناعها على ترك المدرسة رغم معارضة أمها.

حاولت أن أهمل السؤال بتغيير مجرى الحديث، لكنها تداركت بطء الإجابة وأصرت على الرد على سؤالي؛ قالت:
- إخواني باعوا المتجر الذي تعرفه بعد وفاة أبي وأخذوا مني ومن أمي وكالة. وفتح الله عليهم في المدينة الجديدة التي استقرينا فيها. بعد فترة جاء أخي الكبير وقال با نبيع هذا البيت لأنه واسع، وقال لأمي أنت وبنتك ما تحتاجوش غير بيت صغير. لم تعترض أمي. باعوا البيت، وأخذوا لنا بيت صغير في شارع قريب من سور المقبرة بجانب سوق المواشي، وكان العامل حقهم يجيب لنا المصروف نهاية الشهر، وما عاد كنا نشوفهم إلا في الأعياد، وبعض الأحيان حتى الأعياد ما كانوش يزورونا فيها. ثم أصبح المصروف يتقطع من شهرين إلى ثلاثة أشهر. وبعد فترة عرفنا إنهم اختلفوا، وتخانقوا، ولما جاؤوا يقتسموا كان الكبير قد حوش على كل شيء. أخي الصغير تجنن ودقته سيارة جيش ومات. والكبير حول له الله بزوجة لهفت اللي وراه واللي قدامه وهربت مع واحد من إياهم دبر له مصيبة ودخل السجن.

هذه باختصار قصة إخواني. قالتها وكأنها تنفض عن كاهلها حملاً ثقيلاً ظلت تنتقل به من محطة إلى أخرى من محطات حياتها. وهنا في شارع علي عبد المغني حطت رحلها لتستريح على غير موعد مسبق.
لم أعلق.. كانت المأساة أبلغ من الكلمات.
كانت عتمة الليل الحالك تمتص أنوار المصابيح الكهربائية في الشارع العام فتكون مزيجاً من اللون المعتم الذي يبعث الضجر والملل، وبالكاد بتُّ أرى ملامح " جمعة" وهي تحكي مأساتها قلت لها:
- قد وقفتنا طالت في الشارع، ما رأيك ندخل هذا المطعم نتعشي ونكمل حديثنا.
- كيف أدخل المطعم بهذي الثياب المبهذلة! إن رضيت لنفسي ما أرضى لك أنت.

لم تكن ثيابها مبهذلة كما ادّعت. كانت أنيقة بما يكفي للفت الانتباه، ولو لم تكن بتلك الأناقة التي تدير الرؤوس لما تطلعت إليها وأنا أعبر ذلك الشارع لأكتشف أنها " جمعة". بالكاد أقنعتها بدخول أحد المطاعم التي فيها جناحاٌ خاص بالعائلات.

أخذنا طاولة في ركن يطل جانب منه على الشارع ؛ قلت لها وقد قررت أن أفتح الجراح القديمة:
- من كان يصدق أننا سنلتقي بعد هذه السنين الطويلة. صحيح الدنيا صغيرة مثلما قلت، لكنها ليست وفية يا " جمعة ". بعد خمس ثلاثين سنة تعطينا فرصة اللقاء، لكن بعد أن فات قطار العمر. يعني لو كنا ركبنا قطار العمر هذا معاً من المحطة الأولى مش كانت أشياء كثيرة قد تغيرت في حياتنا. ما كنت مثلت أدوار جوهرة ولا فضيلة ولا ولاء ولا عهدة.. إلخ. " جمعة " التي كانت باكورة الحلم لكل فتيان الحي القديم.. هل تعرفي أن هذا الحلم كبير معي.. كان يلقي على مسئولية كَبُر في الدراسة والمذاكرة. طرزت هوامش كتبي باسمك.. كم هي الليالي التي أبحرت فيها بسفينة الذاكرة أفتش عنك في أدغال الحياة، يأتيني طيفك من مكان بعيد، ومن وراء السهوب المقفرة التي جردتها القسوة من عشبها وخضرتها فأشهدك تقاومين العواصف، ويلفك دخان الحرائق، وتنبثقين من وسطه كالعنقاء صافية كوهج الشمس. وعندما عدت من الدراسة ووجدت أنكم قد غادرتم الحي إلى وجهة غير معروفة تمسكت بحلمي بأمل أن تقذف بي الحياة ذات يوم إلى طريق يوصلني إليك. كانت الصدفة آخر رهان أعول عليه، وحينما أيقنت أن طريقنا قد افترق في اتجاهين متباعدين،وأن لا أمل في لقائهما عند أي محطة من محطات العمر تسمح بواصلة الرحلة معاً، سمحت للحلم أن ينتقل تدريجياً إلى قاع الذاكرة.. لكنني أصدقك القول إنه كان انتقالاً عنيداً، لاسيما وأن كل شيء في الحي القديم كان يذكرني بك. كان الحي بمجمله حافظة ذكريات وأشجان، ما إن يقع البصر على أي من محتوياتها حتى تتداعى الحافظة لتلقي بكل المحتويات في شريط طويل من الذكريات يمتد من اللحظة التي بدأت فيها أعي الأشياء وأختصم مع من يسلبني أشيائي.

وكنت أنت أحد هؤلاء الذين كانوا يسلبونني أشيائي الصغيرة كما لو كنت تتمرنين على سلب قلبي. الفرق هو أنني كنت أستعيد أشيائي وحاجياتي منك بالشغب والهياج وتدخل الكبار، أما قلبي فقد تخليت عنه بعد ذلك طواعية، تركته لديك.. لم أطالب بإعادته حتى سوت السنون المسألة على طريقتها. قبلت التسوية على مضض، ثم أخذت السنون تحصد العمر وتقيم من رماد الحب حاجزاً مع الماضي. حينما استقر كل شيء في قاع الذاكرة.

كانت تنصت إلى حديثي، الذي بدا تلقائياً، وتعيد بناء ذاكرتها، فقد كانت تسرح، ثم يتراءى لي أنها تستريح في محطات معينة من الذاكرة فتشع عيناها بما يوحي بأنها قد آبت من سرحانها لتحتضن اللحظة التي يتكثف فيها حلم ضائع، حلم عمر بأكمله.

لم تعلق على حديثي. وعلى الرغم من أنني لمست رغبة جارفة لديها في الاستماع إلى المزيد، إلا أنني قررت أن أعيدها إلى السياق الذي توقفنا عنده قبل دخولنا المطعم، فقد زاد شوقي لمعرفة المزيد من محطات وتفاصيل حياتها، ولذلك حولت مجرى الحديث فجأة، وقلت لها:

- لكن قولي لي كيف كانت تجربتك مع " عهدة ".
- في البداية، ومثلما قلت لك، كان تحسين وضعنا المعيشي البائس أنا وأمي هو الهدف. " السيد " لم يصر على حياة زوجية كاملة منذ البداية، أخذني بالهداوة، أغدق علينا العطف. والحقيقة كان راجل طيب بكل معنى الكلمة، أسكننا في الملحق التابع لدار الشفاء الذي يزاول عمله فيه، وهو بعيد عن منزل عائلته. والملحق مجهز ومؤثث، وكان يستخدمه لكبار الزوار والشخصيات التي تزوره للعلاج من مكان بعيد، وهو يرتبط بالدار بممر مسقوف ينتهي بغرفة مغلقة من ناحية الملحق مطلّة على المجلس الذي يزاول فيه السيد عمله، ومنها تستطيع أن تشاهد الزوار وتسمع حديثهم مع السيد من خلال مشربية صغيرة تقع في ركن الغرفة. وكنت أقضي أوقاتاً أشاهد ما يدور في ديوان العلاج وأستمع إلى الحديث المتبادل بين السيد وزواره. ولما عرف، لم يعترض، زاد شجعني. كان يزوره ناس من كل لون، فيهم ناس كبار يتحولوا قدامه.. يا غارة الله!! اسكت لك ساكت. كنت أسأل نفسي كيف يقدر هؤلاء يلبسوا هذه الأقنعة ويخدعونا نحن المساكين. قلت لا بد أن الحياة وجهين: الوجه المعلن والوجه المخفي. أصبحت لما أشوف واحد ينخط ويأمر وينهي أتخيل الوجه الآخر له، الوجه الضعيف. علمتني حياة " عهدة " كيف أتعامل مع الناس.. زال مني الخوف الذي صنعته الأقنعة. ترآى لي أن كل واحد يمثل.. الجميع يمثلوا: هناك من يمثل القوي وهو ضعيف، وهناك من يمثل الطاعة وهو حاقد، ومن يمثل الحب وهو منافق، ومن يمثل النزاهة وهو لئيم ومن يمثل الأمانة وهو خائن.. رحت أكتشف ما وراء الأقنعة. وراء الأقنعة عالم آخر هو العالم الحقيقي.. هو الصورة الفعلية التي لو تمسك بها الناس لعاشوا في سعادة لأن السلوك سيكون طبيعي وكل واحد سيعرض سجاياه ومواهبه كما خلقها ربنا وحسب ما تسمح به ملكاته.

مر على وضعنا هذا أكثر من ستة أشهر. كنت عهدة أكثر مني زوجة. وخلال هذه المدة زال نفوري من " السيد "، اكتشفت فيه الإنسان الآخر، الإنسان الذي يرى الدنيا بعيونه لا بأسراره التي يبيعها للناس. كل يوم أتأكد أكثر انه بدأ يضجر من القناع. لكن هناك شيء ما يفرض عليه مواصلة لبس القناع.. فالناس لن يقبلوه إلا بهذا القناع الذي عرفوه به. لاحظت عليه الضجر وهو يتكلم مع زواره. لم يعد يتكلم عن الجن ولا عن السحر، يقول للذي يشتكي له:" الحل بيدك "!

- كيف بيدي يا سيدنا؟!
- داخل كل إنسان قوة معطلة، دور عليها واستخدمها وستشفى إنشاء الله.
هكذا بدأ يخاطب مرضاه. طبعاً كثير ما اقتنعوش. لكنه كان حاسم في كلامه. تلقى تهديدات من بعض الكبار اعتبروا نصائحه استهتاراً بهم. تعلق به بعضهم لدرجة أنهم صاروا لا يخطون خطوة إلا بمباركته، فكيف يأتي الآن ويقول لهم " الحل بأيديكم"!

عاش لحظات عصيبة. كان واضح أنه يهيئ نفسه لقرار كبير. لكنه يعرف أن جزءاً من القرار لم يعد بيده بعد أن تعلق به كل هؤلاء الناس.

في يوم من الأيام زارنا في الملحق على غير عادته في وقت لم يكن متعوداً أن يزورنا فيه.
أخذني جانباً وقال:
- إسمعي يا " جمعة " ؛ صححت الاسم: " عهدة " يا سيدي ؛ إزدادت نبرة صوته حدة وقال: لا، من اليوم وصاعد ما عادش اسمك " عهدة ".. أنت لا معمول لك عمل ولا هناك جني ولا هناك بير.
- طيب ما أنا عارفة هذا الكلام من أول يوم.
علقت بلا مبالاة.
نظر إلّي بدهشة، وقال:
- يعني أنت قبلت بي زوج..
لم أتركه يكمل جملته فقد أدركت ما كان يريد أن يقوله، وقاطعته قائلة:
- شوف يا سيدي..أنت كنت ضعيف أمام شبابي وأنا ضعفت أمام نقودك، تقايضنا بالحاجات. لكن أشهد لله إنك رجل شهم. أنت إلى الآن لم تأخذ من شبابي أي شيء وكان متاح لك في أي وقت، بينما أخذت أنا من نقودك ما كفى حاجتي للحياة الكريمة أنا وأمي طوال هذه المدة. وفوق هذا تعلمت معك من الحياة الشيء الكثير، يعني أنا مدينة وأنت دائن.
- ليس هذا وقت الحساب. هناك ما هو أهم. أريد أن أقول لك أنني قررت أن أترك هذا العمل وأجرب حياتي خارجه. أنا ورثته عن أبي، ومنذ أن وعيت نفسي وأنا غارق فيه. كسبت كثيراً، وما ضاع كان أكثر. كان عندي ولدين، أحدهما وهو الأكبر كان يعمل معي، وكنت أعده ليرث المهنة مثلما عمل والدي رحمه الله معي. وفعلاً بدأ يحفظ أسرار المهنة. وفي يوم من الأيام، جاءني وطلب مني أن أسمح له بزيارة "يفرس"، ولما سألته عن السبب قال إن أحمد بن علوان زاره في المنام ودعاه لزيارة يفرس. ولما عاد من الزيارة انطوى على نفسه في غرفة مغلقة. لا يدخل ولا يخرج، وآخر شيء قام به هو أن كتب لي رسالة يقول فيها إن هذا الذي نعمله حرام وأن أحمد بن علوان حمله رسالة لرجل صالح في جيبوتي ليلحقه بعمل هناك يعيش منه بالحلال. كانت تلك أكبر صدمة تلقيتها في حياتي. لم تنجح محاولاتي في ثنيه عن الرحيل. صمم ورحل. لم يكن هناك أحد يعرف هذه الحكاية إلا أمه. ظلت تعايرني صباح مساء وتردد:
- إبنك مسحور، كيف تقدر تداوي الناس وما قدرتش تعالج إبنك!
لم يكن أحد يعرف الجواب إلا أنا. لذلك تحملت السخرية واحتفظت بالجواب. أما هو فقد سافر إلى جيبوتي، وانقطعت أخباره. ومنذ سنتين فقط عرفت أنه يعمل في متجر لبيع القماش، وأنه يزور يفرس كل سنة، ولم يفكر حتى في السؤال عني. أما أمه فقد كان يراسلها سراً وطلب منها أن تكتم السر. وعندما كاشفتها بالحقيقة وأبديت غضبي من تسترها على أخباره، عيرتني بما هو أهم ؛ وقالت:
- وين أسرارك يا أبو الأسرار، لا قدرت تشفي إبنك ولا قدرت تخلي الجن حقك يعرفوا لك أخباره.
بلعت السخرية، لكنها نبهتني إلى أن حبل الكذب قصير.

أما إبني الثاني فأدخلته المدرسة، وأصبح مدرس علوم. وكان يعيبه الانتساب إلى أبيه "المتشعوذ " حسب تصنيف الوسط الذي بات ينتمي إليه. وبسبب ذلك فقد بعدت الشقة بيني وبينه على الرغم من أنه لم يكن يمانع من استلام المساعدة المالية التي أبعثها له شهرياً إلى مقر عمله في عمران بواسطة أمه. مع الأيام صار الطلاب يجاهرون بسخريتهم منه، وكانت المدرسة تعج بالخرافات عن أعمال الجن هنا وهناك، فضاق به الحال، والتحق بالجبهة وقتل في ريمة.

كنت أصغى إلى حكايته، وأقول لنفسي سبحان الله، هم يُضحك وهم يُبكي، حتى أنت يا أبو الأسرار! كيف لو عرف الناس أن همك أكبر من الهموم التي تعالجها!
بدا وكأنه يقرأ ما أفكر فيه فعاجلني قائلاً:
- ضعي في بالك دائماً أن كل إنسان له مشاكله الخاصة التي قد تفوق أحياناً مشاكلك من حيث التعقيد، ولذلك لا تتذمري من الحالة التي أنت عليها فربما كانت أكثر راحة من حال من تعتقدين أنهم سعداء. يمكن للإنسان أن يبحث عن الأفضل دون أن يقارن حاله بحال غيره ويقول لو كنت مثل فلان أو فلان. فلكل إنسان همومه ومشاكله.

شعرت بواجبي نحوه لأول مرة منذ زواجنا، فقد كنت أشعر من قبل أنه لا يحتاجني، لا من قريب ولا من بعيد إلا للفراش إذا ما قرر ذلك. لكن ما أفصحت عنه الأيام مختلف تماماً، كان إنساناً مليئاً بالهموم، أعطته الدنيا، وأخذت منه أكثر مما أعطته. سألته:
- وإيش ناوي تعمل؟
- نرحل إلى مكان لا يعرفني فيه أحد، وأبدأ حياتي هناك. وأسألك إذا كنت ترغبين في الرحيل معي، فالخيار لك.

جاء جوابه مؤكداً ظنوني بأنه قد خطط لهذا اليوم منذ أن عرض علي فكرة الزواج، أو من قبل ذلك، فقط كان ينتظر أن ترمي الحياة في طريقه المرأة التي ستخوض معه النهر الذي لا يعرف له نهاية، وتأكدت من ذلك أكثر حينما استرجعت الأسلوب الذي عاملني به والذي قربني منه وحول الجفوة إلى استئناس. ولا يقوم بذلك إلا صاحب هدف بعيد لا يستطيع أن يجازف به من أجل لذة آنية. لو كان أصر على الفراش من أول يوم لتباعدت المسافة بيننا، لكنه خطط لشيء بعيد، استخدم الكرم والوقت لتقريب المسافة ونجح.
قلت له:
- وهل يوجد لدي خيار آخر غير أن أكون معك! أنا زوجتك والقرار قرارك، فقط عندي رجاء وهو أن توافق على أن تكون أمي معنا.
- أصيلة. من أول يوم اكتشفت معدنك. طبعاً أمك ستكون معنا في أي مكان نذهب إليه. وفجأة لمعت في رأسه فكرة. إلتفت إليّ وقال:
- ما رأيك تدفني كل الأسماء الماضية في حفرة...
لاطفته قائلة:
- وتخلي الجني يحرسهم.
وتبسم وقال:
- ما رأيك باسم " أصيلة "؟
لم أعلق. ألقيت برأسي على كتفي الأيسر، كما أفعل دائماً عندما يعوزني الجواب. لا أدري هل وجد هذا الاسم هوى في نفسي أكثر من غيره! لا شك أنني كنت منتشية به.. الأسماء يطلقها علينا آباؤنا قبل أن نثبت جدارتنا بحملها وقبل أن نختبر في واقع الحياة.. أما أن يكتسبها المرء كشهادة على صفة معينة أثبتتها الحياة، على الأقل في نظر من يطلقها، فهذا ما يجعل الاسم قريباً إلى النفس، وربما أن هاجس الخوف من تغيير الأسماء منعني من التعليق.

على العموم، لم ينتظر موافقتي أو رفضي، فقد انبثق من داخله " الرجل " الذي ظل يتحاشاه خلال الفترة الماضية ليملأ الغرفة التي كانت تضمنا ويتمدد في أرجائها حتى شعرت أنني تقلصت وانكمشت في ركن صغير من الغرفة، انحشرت فيه كي لا يدهمني هذا " الرجل" المتمدد بعنفوان الظفر باللحظة التي خطط لها طويلاً. صاح بأعلى صوته:
- يا أم أصيلة..
هرعت أمي من المطبخ تسبقها ريحة البصل تتساءل عن سبب هذا الضجيج وتستفسر عمن تكون " أصيلة " هذه التي رددت غرف البيت صدى اسمها. بادرتها بالقول:
- اسم جديد يا أمي على طريق مشوار آخر لا نعرف إلى أين ينتهي بنا.

كان الحزن يملأ عينيها، والوساوس تلوك تجاعيد وجهها، وبدت مرهقة كما لو أنني أراها لأول مرة منذ وقت طويل. قلت لنفسي: أمي كل يوم أمام عيني، لماذا لم أكتشف كم هي تاعبة ومثقلة بالحزن إلا هذه اللحظة؟ لا يمكن أن يكون هذا التعب المخيف والحزن الذي أذبل بريق عينيها قد هبطا عليها فجأة. كيف أفسر ذلك؟! هل صحيح أننا نرى الأشياء بعيوننا، لكن الحالة التي تكون عليها تلك الأشياء لا تدركها العين المجردة، بل هي خلاصة تفاعل وجداني مع مؤثرات اللحظة التي يمر بها الإنسان؟ربما. لكن مهما كان الأمر فالحقيقة هي أن أمي كانت حزينة ومتعبة.

 


من بعيد جاء صوت السيد ثقيلاً ومراً كصوت مهماز يلهب ظهر فرس ليحثها على السير:
- أم " أصيلة "، اتركي كل الذي في يديك واسمعيني جيداً. لقد قررنا الرحيل من هنا.
التفتت نحوي بصورة تلقائية وكأنها تستفسر عن أشياء بدت لها غامضة.. بسرعة تجاوزنا تداعيات هذه اللحظة.

مسكينة أمي! منذ زمن كانت قد فقدت الرغبة في الاعتراض على أي شيء. هجرت شخصيتها القديمة التي لم يعد لها مكان في بيوت الآخرين. قبلت بأن تقول نعم لكي توقف التدهور الذي أصاب حياتنا. في هذا الموقف استدعت شخصيتها القديمة بكل ما عرف عنها من حزم، وقالت:
- لا. ارحلوا أنتم. سأعود إلى بيتي القديم.
لم يعلق السيد على قرار أمي. ترك لي مهمة إقناعها وغادر الغرفة.
دار بيني وبينها حديث طويل، معظمة من طرف واحد. كانت تشخص ببصرها إلى سقف الغرفة حينما لا تريد أن ترد على سؤالي أو تعلق على كلامي.
بعد إلحاح شديد همست في أذني:
- كيف أترك أخاك في السجن ولا معه أحد.
نسيت أن معي أخ في السجن. كان قد خرج من حياتنا من زمان بعيد. لأول مرة أعرف أن أمي كانت تزوره في السجن مرتين في الشهر خلسة من الجميع. قلت لها:
- كم أنت عظيمة يا أمي! أليس هذا هو الذي باع بيتنا وحرمنا من كل شيء، وكان هو السبب في تشريدنا؟ نفسي أعرف بس كيف برر هذه الأعمال! إيش با يقول آسف غلطت. الأسف لا ينفع على غلط دمر حياتنا وخلانا ملطشة للي يسوى واللي ما يسواش.

تنهدت أمي، وشخصت ببصرها في فراغ الغرفة الذي بدا شاحباً، وقالت بعد أن رمت بجسمها المنهك على أقرب كرسي:
- يا بنيتي لا تخلي الحقد يأكل قلبك. لو قابلنا كل خطأ بالكراهية والحقد لتحولت حياة البشر إلى جحيم. احسبي كم أخطاء تعرضتِ لها في عمرك هذا الصغير الذي لا يتعدى ثلاثين سنة، كم با تكرهي وكم با تحقدي! صوني نفسك بالحب والتسامح.
- لكن الظلم غير الخطأ يا أمي.. الظلم فعل مقصود وكريه، يحفر في القلب ندوب وجراح لا تندمل. والذي عملوه إخواني بنا هو ظلم وليس مجرد خطأ. هو بداية مأساتنا وسببها. أنت تنظري للذي عملوه بقلب الأم، وأنا أنظر إليه بقلب امرأة حرمت من الأمومة ومن الحياة الكريمة بسبب هذا الذي تسمينه خطأ.
- هذا الفرق بين نظرتي ونظرتك هو الذي جعلني أفكر في البقاء. على العموم قولي لي أين وجهتكم أنت وزوجك؟
- والله ما أعلم. كل الذي عرفته منه إننا سنرحل وإن اسمي الجديد هو "أصيلة".


في المساء، وتحت جنح الظلام، نقلنا أغراضنا إلى سيارة الأجرة. أوصلنا في طريقنا أمي إلى بيتها القديم المهجور وتركناها هناك. كانت بالنسبة لي لحظة فراق شديدة المرارة.. لم أفارقها إلا عند زواجي من صاحب " فضيلة " لأشهر معدودة. ها نحن نفترق هذه المرة بسبب رحلتي المجهولة. أودعت معها ذكريات ثلاثة عقود. وفيما يشبه المحاكمة السريعة لظلم إخواني حملتهم مسئولية هذا الفراق وكل ما ألحقته بنا الدنيا من غبن. قلت لنفسي ها هو الظلم يتواصل ليحرمني من أمي، وإن كان هذه المرة بدون إرادة هذا الأخ المسجون، إلا أن الظلم لا يتطلب أحياناً حرية كاملة لممارسته، إنه استجابة لطغيان القوة.. وحالة أخي أنتجت هذه المرة قوة من نوع ما حالت بيني وبين مرافقة أمي لي، هي قوة عاطفة الأمومة تجاه هذا السجين والتي سهلت عليها مفارقتي.

لم أنتبه للوقت الذي استغرقته في وداع أمي عند عتبة باب بيتها في ذلك الحي الغارق في ظلام مخيف.

من بعيد جاءني صوت السيد يستعجل الرحيل. كان صوته هامساً لكنه مشحون بنفاد الصبر وكأن جحافل الليل تسوقه إلى المخبأ الذي قرر أن يتوارى فيه هرباً من ماضيه مع هذه المرأة التي ساقها هذا الماضي إلى طريقه فأصبحت جزءاً منه.

سألته، وقد أخذت السيارة تصعد بنا هضبة عالية عبر طريق متعرج:
- كيف تستطيع أن تهرب من ماض وتصطحب معك من يذكرك به؟
أجاب، وقد أرخى زمام التحفظ الذي كان يشد لسانه ويمنعه من الكلام في الحب والغزل:
- أصطحب أجمل ما في هذا الماضي. إذا كان هناك من هروب فإنما هو على راحلة صنعتها بإحدى أدواته، ولو لم يكن الأمر كذلك لما ظفرت بك.. ما الذي كان سيرمي بك في طريقي لو لم أكن صاحب هذا الماضي. لقد كافأني على إخلاصي له، وما تسميه أنت هروباً منه أسميه أنا هروباً إليه.

انتبه فجأة إلى أن السيارة على وشك بلوغ المكان الذي اختاره محطة لتغيير السيارة بأخرى وذلك للتمويه حتى يمحو أي أثر لخط سيره والوجهة التي يقصدها.

كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل بقليل حينما وصلنا المحطة. توقفت بنا السيارة أمام نُزل صغير اختاره السائق لمعرفته بالمكان. صرفنا السائق، ونمنا في النزل حتى الفجر، وواصلنا رحلتنا بسيارة أجرة أخرى.

في رحلتنا اللاحقة، خرجنا من الطر يق الأسفلتي إلى طريق صخري وعر، وراحت السيارة تنحدر في خط سير انتهى بوادٍ ضيق تحيط به الجبال وتكسوه الخضرة وبقايا غيل كان على ما يبدو غزيراً في يوم من الأيام. واصلنا السير في الوادي الذي بدا وكأنه بلا نهاية. سألته:
- أين نحن؟
- ستعرفين بعد قليل. هذا الوادي ينتهي إلى البلدة التي سنستقر بها.
لم أسأله كيف وقع عليها اختياره. وعلى الرغم من أنه أحس بهذا السؤال غير المنطوق، إلا أنه تجاهل الخوض في موضوعه واحترمت أنا خصوصيته.

فجأة أحاطني بذراعه وكأنه يدشن مرحلة جديدة في علاقتنا الزوجية.. صحيح أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يحيطني فيها بذراعه، لكني لم أشعر بتلك الذراع وبأنامله تداعب كتفي كما شعرت بها هذه المرة. لا أدري، أهو تأثير المكان والوضع الذي كنت فيه، ومفارقتي لأمي، والغربة التي اجتاحتني في هذا الطريق المجهول، ومحاولتي استئناس حاضر أرحل من خلاله إلى مستقبل لا أحد يعلم ما يخبئه لي إلا الله، أم أنها المشاعر التي كان يضخها الوجدان في تلك اللحظة والتي أكسبت الحواس صفاءً لم تعد تكدره غيوم التردد في ولوج مرحلة العشرة. تطلعت إليه، التقت نظراتنا وكأنني أنظر إلى عينيه أول مرة. أرسلت عيناه شعاعاً يوحي بالألفة والمودة. ما أصدق العيون في تعبيرها عن مكنون النفس.

تراخت أعصابي المشدودة. رحت أستوعب وضعي الجديد بقدر لا بأس به من راحة البال. الدم الذي كان يتدافع في عروقي كلما تذكرت أي حياة تنتظرني، بدأ جريانه ينتظم، وينتظم معه تدفق الأكسجين إلى خلايا الجسم، ومعه يتسرب المكان إلى داخلي بشكل تدريجي.

تآلفت مع محيطي الذي كان وجداني قبل لحظات يلفظه مثلما يلفظ البحر الموتى.

في هذه اللحظة، راح شريط الذكريات يعرض صور جوهرة وفضيلة وولاء. ربما ليجعل التآلف مع الوضع الجديد أمراً لا مفر منه. إنه يعرض الأسوأ لنرضى بالأقل سوءاًً. الذاكرة مخزن الأسرار والأحداث والوقائع. مخزن الأحلام، ما تحقق منها وما لم يتحقق. مخزن الأفراح والأوجاع. مخزن الألم واللذة. تعمل في كثير من الأحيان وفقاً لحاجة الإنسان في لحظة معينة كما تقررها الغريزة لا كما تقررها إرادته. ففي لحظات السعادة، كما في لحظات الحزن، تعرض النقيض، لا لشيء إلا لأنها تلعب دور القوة الخفية لمعادلة مشاعر الإنسان، ليفكر باعتدال، ويسعد باعتدال، ويحزن باعتدال.. يحب باعتدال ويكره باعتدال. عندما تفرح تداهمك الذاكرة بصور من ساعات الحزن، وحينما تحزن تسعفك بمشاهد من لحظات الفرح،وكأنها تُهذب فيك السلوك المسرف الذي يقود في كل الحالات إلى نتيجة واحدة قد تدمر حياة الإنسان، هذه النتيجة هي التي تعمل الذاكرة على تفاديها.

عرضت الذاكرة صوراً لجوهرة وهي تستعد للزواج الأول، وقد امتلأت بحيوية العاشقة التي تضخم فيها حلم الليلة الأولى لدرجة لم تعد قادرة معها أن ترى نفسها غير عروس تتخطف أبصار الصبايا زينتها، ويتماهين مع بهائها، لترى كل واحدة منهن نفسها في مكانها، ثم وقد تلاشت آخر خيوط الحلم بسقوط القناع عن وجه الزوج بعد أيام فقط من استقرارهما في عش الزوجية الذي أصبح – كما قال لها زوجها – مثل عش الدبابير حينما اكتشف أن كل حيلتها هي شنطة الملابس التي دخلت بها إلى العش. تغلبت مرارة الخيبة على ما يفترض أنها أيام العسل بعد أن أسرّت إليه في لحظة صفاء، كتلك التي تلي نشوة الحب بين الزوجين، بموضوع حرمانها من الميراث من قبل إخوانها. هاج - لما سمع – وماج - صدمته الحقيقة، فهدم العش وخرج من بين أنقاضه كدبور لسعته النيران. قذف في وجهها الخيبة التي مني بها وغادر بعد أن قال " ما انتِ ولا انتِ جوهرة ". تسكعت الأيام في جوف حلمها المنكسر قبل أن تستوعب ما حدث. كانت هذه أول تجارب الحياة. كانت تجربة قاسية. لم يستطع قلبها الذي كانت قد أعدته أيام الحب القليلة على عجل، أن يستوعب ما حدث، لكنه راكم عندها إحساساً بالظلم وقدراً من الكراهية لإخوانها الذين حرموها من الميراث. راحت تحمل الفقر والمسئولية وكأنها تبحث عن مبرر لفارس حلمها. لم تستطع أن تستوعب حقيقة أن الفارس لم يكن فارساً وإنما مجرد قرصان خانته الفرصة فأحرق السفينة وغادرها مثل الفأر، وأن الحلم لم يكن سوى بعضا من تهويمات اليقظة الملتبسة بالحاجة الملحة لظل رجل يقيها غوائل الأيام. صدمتها التجربة. قادتها إلى التوقف عن أن تحلم بالفارس، فكل الرجال الذين جاؤوا بعد ذلك لم يمثلوا دور الفارس، ولا هي انتظرت منهم ذلك. لقد رمتها الصدفة في طريق كل واحد منهم، وفي كل مرة كانت تأخذ بالمثل القائل" ظل راجل ولا ظل حيطة! ".. وها هي ذاكرتها تعيد بناء مشاهد من هذا الظل الذي كان يتحول إلى كابوس يؤرق حياتها، فترى أن ظل الحيطة أرحم وأكثر نفعاً في مجتمع كف عن إنتاج " الراجل " صاحب الظل، على الأقل فيما شهدته من تجارب، حتى التقت بالسيد الذي وضعت مصيرها بين يديه في لحظة كانت مرغمة فيها على أن تقايض حياتها الزوجية بمأوى ولقمة عيش شريفة لها ولأمها. قدم لهما اللقمة والمأوى وأجًّل حقه في العشرة الزوجية، كبت رغبته لينضج علاقة زوجية إيجابية من الطرفين. لقد علمته مهنته جانباً من أسرار النفس البشرية.. إن أهم ما في مهنته هو القدرة على التقاط لحظة الضعف التي تجتاح النفس والإمساك بالشخصية منهكةً ليعيد تشكيلها والتعامل معها بسهولة.

تواصل حديثها:
- تخلصت من شريط الذكريات حينما طلبت من السيد أن نتوقف قليلاً في ظل الأشجار الوارقة التي غطت ذلك الجزء من الوادي. جلسنا عند حافة الغيل الذي ظل ينساب معنا منذ أن دخلنا الوادي، يغور فجأة فلا نرى له أثراً ثم يظهر من تحت صخرة ليشكل بركة يتجمع فيه جريانه استعداداً لمشواره الجديد على السطح قبل أن تغيبه الأرض مرة أخرى.

كانت الشمس في كبد السماء، ومن وراء الجبال المحيطة تتزاحم سحب كثيفة تتحول في نهاية فرضة الوادي من الناحية الجنوبية إلى غيوم ينثال منها المزن فيبدو كستارة أسدلت على مشهد من الرواية. سألت نفسي: ترى أي أرض محظوظة هذه التي يعانقها المزن في هذا الوقت من نهارنا هذا؟!

ما أشد الارتباط بين المطر والإنسان في هذه الأرض! إنه عنوان الحياة. الطبيعة تغتصبنا على طريقتها!
هبّت نسائم باردة تحمل معها عبق الأرض. كانت النسائم التي تسبق هطول المطر، تبعتها ريح قوية مصحوبة بزخات من المطر. جاء هزيم الرعد قوياً. طلب منا السائق العودة سريعاً إلى السيارة كي لا تحاصرنا السيول في الوادي.

بسرعة مذهلة سالت الشعاب المطلة على الوادي، وبالكاد استطعنا أن نشق طريقنا نحو التلة اليسرى التي قدمت لنا عرضاً سخياً لطريق طوارئ انتهى بنا إلى هضبة مقابلة للهضبة التي يقع عليها الطريق إلى البلدة التي نقصدها. كان يفصل بين الهضبتين مجرى مائي يتفرع من الوادي نحو أرض زراعية، ظل يسيل لأكثر من ساعتين لم نتمكن خلالها من العبور نحو طريقنا.

استمرت شلالات الماء في التدفق من الشعاب إلى الوادي. كان المنظر خلاباً. من الموقع الذي حاصرتنا فيه السيول أطلينا على قرى متناثرة، امتزج دخان المواقد المتصاعد من بيوتها مع الغيوم الشاردة في لوحة بدت وكأن الأرض تمد يدها بالشكر للسماء على ما أعطت، وتبعث في نفس الوقت رجاءها بمواصلة الغيث.

كان علي في هذه اللحظة أن أستجمع خيالي الذي شتته الارتحال عبر فوهات الأمل الضيقة بحثاً عن التعايش مع " المرأة " التي طالما رسمتها في ذهني لنفسي.

كان علي أن أستجمع نفسي في هذه اللحظة من مرافئ الحياة وأعيد بنائها ليستوعب تلك اللوحة الجميلة التي امتدت على مساحة واسعة هي وما وراءها من معاني.
قلت للسيد:
- انظر! كل هذا الجمال على بعد ساعات قليلة من المدينة الكئيبة التي تبتلع عمرنا بدون شفقة!
لم يعلق.

راح داخلي المتعب والمتحفز يثير الأسئلة كعادته: هل سكّان هذه القرى يرون الصورة جميلة كما نراها، أم إنهم قد تآلفوا معها ولم يبق لهم من الصورة سوى ما يكابدونه من مشقة للحفاظ عليها جميلة من أجل العابرين أمثالنا ممن يشقون اللوحة بعجلة ليصلوا إلى هدفهم. كان هدفنا يقع على حافة اللوحة عند أطرافها الشرقية، أي أنها بالكاد تلامس حافة اللوحة باتجاه الشرق.

الفصل الثاني
كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة عصراً بقليل حينما وصلنا أطراف البلدة التي قرر السيد أن نستقر فيها.

رحت أتطلع بتركيز شديد إلى بناياتها ومعالمها. لم يكن فيها ما يثير الانتباه سوى الهدوء الذي يخيم عليها، أما مبانيها الحجرية فقد توزعت بعشوائية على مساحة كبيرة فوق ربوة يحضنها من الناحية الشمالية جبل شاهق العلو، فبدت وكأنها كفه اليسرى لاتساع الفجوة عند خاصرته بينها وبين بقية نتوءات الجبل من الجانب الأيمن والتي لم تكن مأهولة بسبب وعورتها، ويربطها بمحيطها طريق سيارات ترابي ممهد بعناية ينتهي عند أطراف شارع يشكل مدخل المدينة.. ومن هذا الشارع، الذي تصطف على جانبيه محلات تجارية ومستودعات أقمشة ومفارش لبيع الخضروات والفواكه والقات، تتفرع طرقات ترابية ضيقة قادتنا إحداها إلى أمام منزل لا يتميز بشيء عن المنازل المجاورة له، مكون من طابق واحد، ويحيط به سور مبني من نفس حجارة المنزل، وكل ما حواليه يوحي بالرتابة والملل.

طلب السيد من سائق السيارة أن يتوقف أمام المنزل، وقال: وصلنا!
لم أعلق. حاولت أن أبدد الوحشة التي اجتاحتني بالتفكير فيما وراء السور وأشغل نفسي بجمع بعض الأغراض من السيارة.

انهالت عليّ مزق الضمير المنهكة توبخني على تركي لأمي وحيدة.. وجدت في ضعفي في هذه اللحظة فرصة لتستأسد وتفرض علي سلوكاً فيه قدر من التأفف على ما أنا فيه من حال. هكذا هو شأن الضمير، يستسلم للأقوياء وللمنتشين، يخور أمام نرجسيتهم، يتوارى أمام القوة. ينام في حالة الشعور بالنشوة، ولا يصحو إلا في حالة الضعف والإنهاك.. يتحرك كمارد ليحاسب ويوبخ ويفرض خياراته، ولكن لتبقى مجرد خيارات لا حول لها ولا قوة لأن الجسم الذي صحت فيه غداً منهك غير صاح لشيء. الضمير والنشوة لا يلتقيان.

سمعت صرير الباب يوقظ في نفسي رغبة اكتشاف ما تخبئه المفاجأة فيما وراء السور. ترى أي عش جهزه السيد في هذا المكان النائي!

خطوت إلى الداخل برجلي اليمنى. كان البيت مجهزاً بما يكفي لحياة هادئة ومعقولة. أمضينا المساء نرتب الأغراض وأمور المنزل، ولم نكن نحتاج إلى جهد كبير لأن يداً ما كانت، كما يبدو، قد قامت بالجهد الأساسي في وقت سابق.

سألت السيد عما إذا كان يعرف أحداً في هذه البلدة، فأجابني بالنفي دون أن ينبس بكلمة! وحتى لا أتمادى في مزيد من الأسئلة، قال: لقد رتبت كل شيء بنفسي.

قلت له مازحة: أو ربما الجن حقك ساعدوك!
قال، وقد بدت عليه مظاهر الجدية وعدم التفاعل مع المزحة:
- إنسي هذا التاريخ، أشطبيه نهائياً. إنسي كلمة السيد، من اليوم أنا الحاج..، قلت مكملة بخبث:.. المخاوي.
وبينما راح يفتش عن لقب مناسب، قلت لنفسي: ما أشبه الليلة بالبارحة! ها هو التاريخ يعيد نفسه، ولكن لا أدري هل بصورة هزلية أم أكثر تراجيدية من المرة السابقة!
بعد هذه السنين، أجد نفسي في نفس الوضع الذي كانت عليه أمي منذ ما يزيد على ثلاثة عقود. يفرض عليّ سير الأحداث أن ألعب نفس الدور الذي لعبته أمي مع ذلك الغريب الذي هبط على ذلك الحي من مكان مجهول، واحتفظ بسره تحت كومة هائلة من فعل الخير والسلوك الحسن، مما جعل الناس ينصرفون عن الانشغال بماضيه وقبوله كما يقدمه لهم الحاضر.

هكذا هم الناس منذ الأزل، لا يعنيهم من أمر الإنسان، هذا الإنسان في ذاته، سوى أفعاله المباشرة.. الحكومة هي وحدها من يفتش فيما وراء الأفعال.

في حالة الحاج " المخاوي" لم يكن الأمن بتلك الدرجة من التعقيد، ولم يكن منفصلاً عن حاجة الإنسان كما جعلته السلطات الوطنية فيما بعد. ولم تكن سلطة المستعمرات تهتم لأمر الغرباء كثيراً! أجهزتها لا تسأل عن أصلهم أو من أين قدموا.. ربما لأن أمن الوطن كما صاغته الجمهوريات، فيما بعد، قد شغل الحيز الأكبر من اهتمام الحكومات الوطنية، وهو ما جعل الحاج " المهتدي " – وكان هذا الاسم الذي استقر عليه – تحت عيون المخبرين منذ أول يوم وصل فيه إلى هذه البلدة.

بعد أيام قليلة، قرر الحاج أن ينزل إلى السوق للبحث عن دكانة، فتعرف في المسجد على رجل طيب دله على تاجر يعرض دكانته للبيع في ضاحية البلدة، وبسرعة أنجز مكاتبة البيع والشراء. لم يكن يهمه كثيراً ريع المكان الذي تقع فيه الدكانة بقدر ما كان مهتماً بغسل ماضيه.. كان يريد أن يغسل ماضيه سريعاً بنشاط يقدمه للناس بوجه جديد، ويغسل معه الأموال التي جمعها من عمله القديم.

كان يقضي اليوم في دكانته ينفق أكثر مما يكسب. في الأشهر الأولى راح ينفق على المخبرين والعسس وغيرهم من المتطفلين، ثم عرف بين الناس بكرمه فاتسعت دائرة معاريفه، وصار يعزم بعض وجاهات البلدة ويساهم في أعمال الخير.. غير أن هذا لم يشفع له عند الأمن الذي ظل يلاحقه كمشبوه على الرغم من أن قائد الأمن كان لا يترك مناسبة للحاج إلا وحضرها.

وكان فارق السن الكبير بيننا مثار حديث أهل البلدة. قال بعضهم إنني هربت من أهلي معه. ونسجوا القصص الكثيرة حول مجيئنا إلى البلدة. وجاءت نساء الجيران واللؤم يقطر من ألسنتهن مع الكلام، والخبث يشع من عيونهن عند الصمت، يستطلعن ويستجلين حقيقة الأمور ويبحثن عن إجابة لهذا السر الغامض، ولكن بأسلوب ينم عن شجن متهافت لا يخفى فيه تأثير العزلة على طباع الناس وتشكيل أمزجتهم تجاه الغريب، على الرغم من أن البلدة قد سكنها الكثير من الغرباء. إلا أن هؤلاء أصبحوا يمارسون الشجن من باب التطبع.

غير أن الحياة كانت قد علمتني الكثير. لذلك حفظت سري، وكم هي الحالات التي داريت فيها الغضب.. تعلمت كيف أقول كلاماً جميلاً ولكنه غير مفهوم. أحكي الكثير ولكني في نهاية المطاف لا أقول شيئاً. أتركهن للحيرة، وبعضهن يتمادين في طلب التفاصيل.. أما زينب فقد كانت من طينة أخرى تماماً. لم تكن من أوائل من زارني، لكنها دخلت قلبي منذ أول يوم زارتني فيه.

كم هي جميلة ورقيقة، صاحبة حضور طاغ في جلسات النساء. تألفها الروح من غير عناء. وهي في عمري تقريباً. قالت لي:

- ما لقيتيش غير هذي البلدة تستقري فيها!
كان في صوتها رنة حزن وسخرية من البلدة وأهلها.

بمرور الأيام اكتشفت معدن هذه المرأة الطيبة. عرفت منها أنها متزوجة وعندها ولد وبنت، وأن زوجها كان مغترباً في السعودية وعاد إلى البلد من فترة وفتح محطة بنزين وإلى جانبها بنى ورشة لتصليح السيارات وبيع قطع الغيار، وأنها وزوجها - في الأصل- من بلدة أخرى، وقد اختار الاستقرار في هذه البلدة لأسباب تجهلها. سألتها:
- هل تزورين أهلك؟! قالت:
- أبي مات في شيفيلد ببريطانيا مغترب. وأمي مع أخي الصغير عايشين معي ويتقاضوا معاش الوالد من بريطانيا. وأخي الكبير في الجيش، ويقولوا إنه تزوج في المهرة. وأختي متزوجة في الرضمة وتشتغل مدِّرسة.. هذه هي كل أسرتي.

توطدت علاقتي بزينب. صحيح " إن الأرواح جنود مجندة ما توافق منها إئتلف وما تنافر منها اختلف ".
في تلك البقعة النائية انبثقت زينب من جوف الغربة الموحشة، وكأن موعداً بيننا قد ضربته الأقدار ليكون بداية صداقة دامت سنين طويلة. كانت إلى جانبي في كل المحن التي عشتها في هذه البلدة، ولولاها لكانت تلك المحن قد هزمتني وشتتت خطاي منذ اليوم الذي اقتيد فيه الحاج مخفوراً إلى الأمن، ولم نعد بعد ذلك نعرف عنه شيئاً لمدة طويلة حتى جاء من يقول لنا إنه سمع أن السجن الكبير في المحافظة احترق، وإن الناس شاهدوا السيارات تنقل بعض الجثث المحترقة، ويعتقد أن الحاج " المهتدي " من بينهم، على حد زعم قريبه المسجون، الذي أكد له أن الحاج من بعد الحريق لم يعد يشاهد، أما آمر السجن فقد رفض التعليق حينما سأله البعض عن مصير الحاج "المهتدي".

كنُت حاملاً بـ " هداية " في الشهر الثامن. وكان الحاج قد فرغ من صلاة العشاء، وراح يحدثني عن دكانته وكيف أنها أصبحت تدر عليه ربحاً وفيراً.. وبدا واثقاً من أن الحياة قد صفيت له، وأن الأمور قد استقرت على النحو الذي أرادها أن تكون. ظل يحمد الله ويشكره، وبين لحظة وأخرى يقوم إلى التلفزيون فيرفع الصوت أو يخفضه، ثم ينظر نحوي بحنان ويسألني عن موعد الوضع، ويحسب الأيام المتبقية ويصحح حسابي.

ثم يقول: أريد ولد يا أصيلة يرعاك من بعدي.
قلت له، دون أن أشعر أنني أنكش له جراحاً قديمة: وإيش عملوا لك الأولاد السابقين؟
اتكل على الله يا حاج واقبل بالبنت، الحركة في بطني مش حق ولد.
فاجأني برد فعل غاضب لم أكن أتوقعه:
- لم تقولي لي إنك مجربة إذاً!!
وبينما كنت أتهيأ للرد على تهكمه، تعالت طرقات قوية على الباب الخارجي مصحوبة بنداء، خرج يستطلع، وتبعته حتى ردهة الباب الداخلي للفيلا، بعد لحظات عاد إلي وقال إن مسئول الأمن أرسل يطلبه إلى مكتبه.

كنا قد تعودنا على مثل هذه الاستدعاءات التي كانت تقتصر على بعض الاستفسارات، كما كان يخبرني، لكن لم يحدث أن استدعي في مثل هذه الساعة من الليل.

قبل ذهابه صحبني إلى الغرفة المغلقة التي كان يستخدمها كمكتب. سحب شنطة صغيرة من الدولاب وطلب مني أن أحتفظ بها جيداً فبها - كما قال – ما له وما عليه.
خرج ولم يعد طوال الليل. مرت بي لحظات عصيبة. اتصلت بزينب. أخبرتها بالحادث. هدأتني وقالت: نامي والصباح رباح.

لم أنم، جافاني النوم. وهجمت عليّ الكوابيس من كل مكان.
قلت لنفسي لا بد أن نجاح الحاج أوغر قلوب البعض بالحسد وشحنها بالحقد فدبروا له مكيدة، ورحت أتفيأ ظلال الرجاء والأمل، هاربة من قسوة الإحساس بالمؤامرة التي بدت لي وكأنها لعبة من لعب الحياة. لكن هذه الظلال سرعان ما كانت تتبدد، وكأني لمست في حديث زينب شيئاً من اللامبالاة ؛ وربما استنتجت منه ما هو أهم من ذلك وهو أن لا تتعبي نفسك يا بنت يا أصيلة بالتفكير، فمن يستدعى في مثل هذه الساعة لا بد أن تكون مشكلته كبيرة. لا أدري لماذا استبعدت أن يكون عمل " السيد " القديم وراء استدعائه، فالحكومة لا يعنيها هذا الأمر، والمجتمع الذي يبحث عن حل لمشاكله عند الجن هو مجتمع مثالي بالنسبة لها لأنه لا يكبدها مشقة توفير متطلبات الحل الحقيقي لهذه المشاكل، والذين يعملون في هذا الميدان هم جنود الحكومات الفاشلة. ولكن هل تعاقبه الحكومة الآن لأنه تخلى عن هذا العمل وطلب من " مرضاه " أن يبحثوا عن القوة الكامنة في داخلهم لمعالجة أنفسهم. ترى هل كان بهذا يحرضهم ضد الحكومة أم ضد أنفسهم الخائرة! ألا يعني البحث عن القوة الكامنة داخل النفس أنه تحريض ضد الأسباب التي أخمدت هذه القوة الكامنة وجعلت صاحبها يبحث عن الحل في المكان الخطأ.

لا شك أن التحول الذي أصاب " السيد " لم يكن مجرد رغبة في الاسترخاء كما حاول أن يفهمني، بدا لي أنه أعمق من ذلك وبأنه يحمل بعداً فكرياً، لكنه حرص أن يجعل المسألة تبدو في نطاق منسجم مع ما صرح به لي.. لم أنتبه لحقيقة أن الخوف والقلق اللذان اجتاحاه فجأة، وإصراره على الرحيل من المدينة التي عاش بها إلى هذه البلدة النائية كانا أكبر من مجرد أن يُنسبا إلى تخليه عن عمله في مقارعة الجن. مثلُ هذا الخوف لابد أن يكون وراءه صراع من نوع آخر مع الإنس.. فإذا كانت مقارعة الجن خرافة، أو يستطيع الإنسان في لحظة ما أن يقنع نفسه بأنها خرافة، فإن الصراع مع الإنس حقيقة أزلية. وينتهي بأن يكون أحد الطرفين جلاداً والآخر ضحية. وحتى في الحالات التي لا يكون فيها الاستقطاب حاداً على هذا النحو فإن طرفا الصراع يواصلان حشد عناصر التفوق لحسم المعركة، فالصراع بين بني الإنسان ما إن يبدأ حتى ينفتح طريق إلى ساحات معارك لا تنتهي إلا بمهزوم ومنتصر، وقد ينسى أطراف الصراع أصل المشكلة التي تغدو تافهة أمام ما يرتبه الصراع بعدئذ من نتائج تتناسل منها مشاكل أكبر وأعمق.

سألت نفسي: لماذا لم يشركني إذاً في الهم؟ ألم يقل سبحانه وتعالى في محكم تنزيله " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها..... ". أليس في لفظ السكنى الذي قصده المشرع العظيم معنى يتجاوز الفراش إلى بناء الحياة على نحو مشترك. وإلا لماذا كانت السكنى آية بالنسبة للإنسان! ألا تسكن الحيوانات الأخرى إلى جنسها في نطاق حاجتها البيولوجية وحاجتها الطبيعية للبقاء والاستمرار! لا بد أن المشرع العظيم قد ميز الإنسان هنا لأسباب تتصل بتعمير الحياة التي يشترك فيها الجنسان على نحو متكافئ.

بعض الوقائع والأحداث التي كانت تبدو لي عادية منذ أن استقر بنا المقام في هذه البلدة أخذت تتقاطر تباعاً إلى الذاكرة لتؤكد ظني في أن الأمر مختلف عما أفصح عنه، وأن هناك سر ما وراء كل ما يحدث.

من الذي رتب له المسكن وهو الذي لم يغادر المدينة القديمة منذ أن تزوجته. والسيارة التي تحركت من مدخل المدينة أمام السيارة التي كانت تقلنا وكأنها ترشدنا إلى الطريق، وتوقفت أمام البيت للحظة ثم واصلت السير في طريق مجهول. والرجل الذي تعرف عليه في المسجد ودله على الدكانة. وتكرار زياراته، والوقت الطويل الذي كان يقضيه معه في حوش البيت في حديث هامس. كان يكثر الحديث عن ابنه الذي قتل مع الجبهة في ريمة، وبعض الأحيان تفيض عيناه بالدموع وهو يتذكر كيف أن الجزء الأكبر من حياته قد ضاع هباء، ويتمتم:

- المال لا يصنع السعادة، ولولاك يا أصيلة ما كنت أعرف كيف ستكون حياتي. شوفي المال كيف يتبخر ؛ فبما تبقى من العمر سأعوض ما راح، سأرد الدين للأسرة المنكوبة، أما الوطن فقصته أني أخذت منه ولم أعطه، خدمت التخلف وحراسه وآن الأوان أن آخذ موقعاً في المكان المفيد. سألته يومها بتهكم:
- إيش ناوي تلتحق بالجبهة؟! قال:
- لا.. لا. أنا مش حق جبهة. ثم إنني لا أؤمن بالعنف. العنف طريق اليائسين. والحكومات الفاشلة تشجع هذا العمل لأنها تبرر فشلها بالانشغال بالحروب والمعارك، فإذا لم توجد جبهة فتحت هي جبهات وهمية. اليأس يفتش عن العنف ليتخفى في ردائه تماماً كما هو حال الفشل. والبلد الذي يسير في هذا الطريق يصيبه الإنحطاط. يحترف أبناؤه القتل. فالناس لا يرون حلاًًّ لمشاكلهم مع الحكومة إلا بالعنف، والحكومة توصل الناس إلى طريق اليأس، وتخفي فشلها بواسطة العنف وتصفي حساباتها مع خصومها بالعنف، ويقتل الناس بعضهم البعض لأتفه الأسباب، ويأتي الانحطاط من تغييب العقل في معالجة قضايا الحياة، فالعنف، لا يوفر فرصاً للتفكير.. يداهم العقل بحله الأهوج مع كل مشكلة أو معضلة فيجره جراً إلى خياراته، ويعيد بناءه بشروطه وأدواته. والمجتمع الذي يصبح أسير العنف يتفكك قيمياً وأخلاقياً، لأن علاقات الناس ومصالحهم لا تستقر على قواعد متكافئة، فكثير من هذه العلاقات والمصالح تتحقق خارج هذه القواعد بنظام منشؤه التوظيف الخاطئ للقوة وبمفهوم مشوه لأدواتها.

لا أدري لماذا لم يثر هذا الحديث حينذاك عندي الأسئلة التي أثارها في تلك الليلة عن حقيقة هذا الرجل! ولماذا اختارني من بين كل النساء ليخوض بي نهر تجربته الجديدة، النهر الذي بدا أننا نخوضه بالطول نحو المصب وليس كما يفعل الذين يعبرون بين ضفتيه. لا شك أن الصدفة وضعتني في طريقه، لكنه انتهز الظرف ليخرجني من دوامة التجارب الفاشلة ؛ وبأسلوب محكم التخطيط يترك لي خيار خوض تجربة أخرى، قبلتها في بداية الأمر بدوافع معينة وإذا بهذه الدوافع تعيد إنتاج نفسها في رغبة ملحّة على الاستقرار في ظل رجل شعرت معه بالأمان وخضت معه النهر من المنبع نحو المصب، ولكن ها هو يتخلى عني في منتصف النهر ومعي هذا القادم إلى الحياة بعد أيام قليلة رابض في تجاويف الأحشاء، يأكل مما آكل ويشرب مما أشرب. بين الحين والآخر يرفس بقدمه لينبهنا بأنه ينتظر الإذن بالخروج، وهو لا يعرف أن خروجه لا يصدر به إذن من أحد ولا يقرره إلا اكتمال نموه.. تمنيت في تلك اللحظة أن يؤجل قدومه حتى تنجلي هذه الغمة. وقد كنت قبل ذلك أتحرق شوقاً إليه.. منذ أن بدأ في التكون صار للحياة عندي مذاق آخر. مذاق تلاشت معه كل المرارات القديمة.

هذا الجنين رفع من قدري أمام نفسي، ليس لأنه منحني طعم الأمومة فحسب، ولكن لأنه وضع خطاً فاصلاً في حياتي بين الإخفاق والتوفيق.. لازمني الإخفاق حتى أوصلني، تحت إلحاح أمي، إلى تخوم التوفيق دون تخطيط. وعندما ولجت ساحته تحت إلحاح السيد ونفوذه الروحي والإنساني لم أكن متأكدة من أن قدماي قد تثبتتا في هذه الساحة إلا بعد أن شعرت بنبض قلب هذا الجنين يعزف لحن الأمومة في جوارحي وكياني وحنايا فؤادي، ويبعث فيها الأمل بحياة مستقرة، وارتقى بمداركي التي أنهكها اليأس إلى مصافات جعلتني أرى الدنيا بعيون مفعمة بالتفاؤل والرضى.. لقد عبر بي الزمن العابس والمضطرب إلى الزمن الذي مكنني من تسوية علاقتي بالحياة على نحو طبيعي. ومع نموه كانت تتشكل لديّ طاقات هائلة لطرد اليأس والكدر والضيق. سبحان الله! كيف استطاع هذا الجنين، وهو لم يزل علقة، أن يغير نظرة أمه نحو الحياة، وها هو الآن يسامرني، فهو نشيط هذه الليلة ولم ينم حتى هذا الهزيع من الليل، يركل هنا ويلكم هناك وكأنه يؤنسني ويوفر لي الإحساس بالحماية.

في الصبح، مرّت عليّ زينب وأخبرتني أنها أرسلت زوجها يتشمم الأخبار. لكنها لم تخف عني عدم اطمئنانها. وكانت هذه طريقتها في التعبير عما يقلقها. لا تعرف كيف تجاري هذا القلق أو تراوغ في حديثها. هذه التلقائية كانت تنم عن نقاء وصدق وصفاء سريرة.

قالت، وقد أخذت مكانها في المقعد الذي تعودت أن تجلس عليه، وعرف باسمها:
- يا أصيلة، هذي الدنيا ما عليهاش وكنة. كلما صفت غيمت، على حد قول المغني. انتظري أسوأ الأخبار، وإذا جاء الأقل سوءاً فهو مكسب.
- أي حين كانت الدنيا بالنسبة لي صافية يا زينب! طول عمرها وهي مغيمة. ولما بدأت تصفي تكدرت من جديد، حتى التسوية التي فرضتها عليّ الدنيا وقبلت بها علاقة زوجية مع " السيد"، رجعت هي وانقلبت عليها.
استرسلت في الحديث، ووجدت نفسي أدخل دائرة السر الحمراء، ثم تراجعت. وعندما شعرت إن زينب لم يفتها هذا التراجع وخشيت أن تفسره بعدم ثقة، في وقت كنت فيه في أمس الحاجة لثقتها، قلت لها:
- زينب، أنت صديقتي وسأقول لك السر الذي..
قاطعتني بصرامة ولم تسمح لي باستكمال كلامي:
- أرجوك يا أصيلة لا تقولي شيء وأنت في لحظة ضعف تندمين عليه فيما بعد، وفري سرك لنفسك.. هذه خصوصياتك ولا يجوز أن تتخلي عنها في مثل هذه اللحظات، والبيوت أسرار. لا تخليني أشعر أن القوة خانتك.
- الذي أنا فيه يهد الحيل، وأنت مش غريبة يا زينب.
- أنا مش غريبة صحيح، لكن لا بد أن يبقى للإنسان سره الخاص الذي لا يشرك فيه أحد.. قدر من الغموض مفيد في علاقاتك مع الناس. لا تكوني كتاب مفتوح، كما يقال. خلي بعض صفحات الكتاب مغلقة، وستظل هذه الصفحات هي أكثر ما يشد الناس إليك بما في ذلك أصدقائك.
- لم تترك لي فرصة للثرثرة بالسر، وكانت حكيمة، فبعد أيام أدركت كم كنت سأكون غلطانة لو أن زينب سمحت لي بالثرثرة، وربما حملتها جُزءاً من الغلط. السر العظيم للصداقة الحقيقة هي أنها تصونك من نفسك أحياناً.

بعد لحظات، جاء زوج زينب واستدعاها إلى خارج المنزل. وأثناء حديثه معها، كان قلبي يخفق بشدة، والجنين يركض في أحشائي.. شغلت نفسي بتنظيف الطاولة من أكواب الشاي بانتظار الأخبار التي يحملها، وفعلاً لم تكن الأخبار مطمئنة، كما توقعت تماماً.

قالت زينب ما معناه أن زوجها أخبرها أن الحاج متورط في قضية كبيرة، حسب ما أسره أحد أصدقائه في الأمن.. لكن هو نفسه، أي صديقه، لا يعرف تفاصيل هذه القضية، وإن كان قد سمع طراطيش كلام عن أن الحاج صاحب تنظيم سري معادي للدولة.

لم أفهم مما قالته حرفاً واحداً..
صرخت من هول المفاجأة: يا غارة الله!
لقد توقعت كل شيء إلا هذه التهمة.
سألت زينب:
- أيش يعني تنظيم سري؟
- والله علمي علمك يا أصيلة، لكن الظاهر إن التهمة من النوع الثقيل.. كل تهمة فيها هذي اللفظة اللعينة " سري"، صاحبها ما عاد يشوف العافية. ما أشتيش أخوفك. قصدي إنك تتوقعي كل شيء علشان ما تُصدميش، وربنا قادر يفرج همك.
- طيب يا زينب ليش الناس يلجأوا لـ"السري" هذا مش لأن العلني ممنوع؟! لكن إيش من أسرار مع الجن؟ زوجي قد ترك أسراره مع الجن اللي طفش منهم وطفشوا منه، ما يكونش واحد من هاذولا الجن قد بلغ به الحكومة.
أخذت زينب تهدئ من روعي وتتلوا: " سلام قولاً من رب رحيم "، ظانة أن قد أصابني مس من جنون.
لم تتركني طوال اليوم، إلا مع المساء، وبعد أن اطمأنت على حالتي تأكدت من أن الكلام الذي قلته كان مجرد هلوسة عابرة بسبب الصدمة.

واليوم الثاني نقلت إلى الخبر اليقين وهو أن هناك من وشى بالحاج ضمن اعترافات تدين الكثيرين بتكوين تنظيم سري، وأن الأمن يحقق في الأدلة، وسيحتاج الأمر إلى وقت، وطلبت مني الصبر والانتباه للجنين، وأضافت:
- لما يواجه الإنسان مشكلة، يجب ألاّ يجعلها مصدراً لمشكلة أخرى، وإلا فإن كل مشكلة ستجر ثانية. عليه أن يحاصرها بقدر الإمكان في ذاتها وفي مساحتها حتى لا يجد نفسه محاصراً بمشاكل لا نهاية لها.
- هذا لو كان الأمر بيد الإنسان نفسه، لكن تداعيات المشكلة قد تأتي من أماكن أخرى، تعتقدي إنهم با يتركوا لنا حالنا بعد هذا الذي حدث؟!
- أني أقصد إن الإنسان يجب أن يتماسك في مثل هذه الظروف؛ يحسن التصرف، يتجنب الخطأ. أخطر الأخطاء هي التي تلي مشاكل من هذا النوع. توقعي الآن أن يفتشوا المنزل. شوفي إذا هناك شيء يستحق أن تحتفظي به بعيداً عن العيون.

فجأة تذكرت الشنطة التي طلب الحاج مني الاحتفاظ بها، حفظتها في مخبأ أمين. جاءوا عصر ذلك اليوم وفتشوا المنزل، لم يجدوا شيئاً محظوراً.. وقّعوني على ورقة بأن كل شيء تمام. واكتشفت بعد ذهابهم أن أشياء كثيرة فقدت من البيت، ثم فتشوا الدكان، وقال لي عامل الدكان إنهم عبثوا بمحتوياته، أخذوا النقود وبعض الأشياء ووقّعوه على أن كل شيء تمام.

مر أسبوع لا يزورني أحد سوى زينب وعامل الدكان الذي كان يجلب لنا حاجات البيت ويسأل ما إذا كنا نريد شيئاً ما، ويقدم لنا كشف حساب يومي للدكان.

طلبت منه أن يزور الحاج، لكنه عاد وقال إن الزيارة ممنوع.. لكن يمكن أن نتقدم بالتماس وسينظر فيه، جاء الرد على الالتماس بالرفض.

كان عليّ أن أواجه الحياة كما هي في الواقع لا كما تمنيت أن تكون. ولأن أمنياتي لم تكن كبيرة أو بعيدة عن الواقع كثيراً فإنني لم أتعب في استيعاب الوضع الجديد.

بعد أيام وضعت حملي، فجاءت " هداية " إلى الدنيا، الصرخة الوحيدة التي تبعث الاطمئنان في نفس الأم لأنها تعبر عن الحياة، أما ما يليها من صرخات على مدى العمر فلا تثير سوى الخوف والرعب. كانت زينب إلى جانبي. قلت لزينب:
- أريد أشوف أمي.
- اطمئني، أعطيني عنوانها وسأبعث من يحضرها.

بعد أيام عاد الرسول ينقل لي الخبر المحزن؛ لقد توفيت أمي منذ ثلاثة أشهر وحيدة في بيتها. تكفل أهل البر بتجهيزها ودفنها. تذكرت أنني لم أسأل عنها منذ أن جئت إلى هذه البلدة، لم أستطع أن أجد إجابة مقنعة لسبب إهمالي لها كل هذه المدة في حين كان بإمكاني التواصل معها دون أن يتسبب ذلك في أي إزعاج أو ضيق من أي نوع للحاج. حملت الحاج المسئولية كي أخفف مسئوليتي عن الإهمال الذي اقترن بوفاتها فجعلت المأساة أشد وطأة وإيلاماً، وفي نفس الوقت صورته لنفسي كرجل قاس، علّ ذلك يخفف من عبء الحزن المزدوج.. يحدث أحياناً أن تختلق عيباً فيمن تحب لتخفف من الألم في مثل هذه الظروف.. هكذا هي الطبيعة البشرية؛ لا بد أن تحمي نفسها في أحلك الظروف بوسائل متنوعة، ومنها ما يعمل تلقائياً حسب الحاجة التي يقررها الموقف.

رحلت أمي عن الدنيا غريبة. سفح الحزن دموعاً كثيرة. ومن شدة حزني عليها جف الضرع عن إدرار اللبن حتى أن " هداية " التي كانت تعبُّ من ضرعي عباًّ في اليومين التاليين للولادة فتنام قريرة العينين، باتت تجهد عضلات فمها دون جدوى فتلفظ حلمة الضرع من فمها كأنها حصى وتصرخ في وجهي، تستغيث، فأحاول بكل حنان الأمومة أن أستجمع من عروقي قدراً من اللبن أغيثها به، لكن العروق التي جففها الحزن تعجز عن التفاعل مع دفق الحنان الذي يشعل في نفسي الخوف على هذه المسكينة من أي مكروه.

استعنت بزينب التي أرضعتها لأسبوع كامل. كنت أجد زينب إلى جانبي في كل محنة. كان علي بعد هذه المدة أن أضاعف الحنان وأتملق " هداية " بمختلف الوسائل لأعيدها من جديد إلى حضني الذي لفظته بسبب الجفاف، لكن زينب كانت قد تعلقت بها، وصرنا نتداول رضاعتها، وكان أصغر أبنائها " مختار" قد تخطى السنتين بثلاثة أسابيع.

طار صيت الحاج إلى المناطق المجاورة، وصار يعرف بصاحب التنظيم السري، لكن الناس صحفوا العبارة إلى " صاحب الأسرار"، ورووا عنه حكايات مثيرة، حتى جاء حادث الحريق الذي التهم جزءاً من السجن حيث كان ينزل، واختفاؤه المريب الذي لم تستطع السلطات أن تقدم بشأنه التفسير المقبول.

وحول اختفائه نسجت الروايات المختلفة. أحد حراس السجن يقسم بأنه شاهد شخصاً يقتحم النيران وينتزع الحاج من فراشه ويأخذه بعيداً خارج السجن في لمح البصر.

وآخرون يروون أن رجلاً محروقاً مر بهم وطلبهم شربة ماء وأن الإناء المعدني الذي شرب منه تحول إلى كتلة لهب أما الرجل فقد اختفى عن أنظارهم ولم يجدوا له أثراً.

كثيرة هي الخرافات التي نسجت حول اختفائه، لكن أكثرها رواجاً تلك التي تقول إنه يظهر مساءً في أماكن متعددة ليساعد المحتاجين بشرط أن لا يطلب المحتاج المساعدة، فإذا طلبها منه اختفى ولا يبقى له أثر.. هو الذي يقرر ما إذا كان الشخص يحتاج المساعدة أم لا.



ويروي كثيرون كيف تعطلت سياراتهم في الطرقات الطويلة ليلاً وعندما طلب البعض منه المساعدة اختفى، أما الذين تجاهلوا ولم يطلبوا منه المساعدة فقد أصلح لهم سياراتهم وتركهم وهم في دهشة عظيمة.

زينب وحدها هي التي لم تخدعها هذه الروايات.. فكرت فيما وراءها وفي من له مصلحة بإطلاقها، وقالت لي بلهجة ساخرة:
- يشتوا يضيعوا الجريمة، زوجك يا أصيلة ضيعوه.. حتى حريق السجن افتعلوه، والقصة مدبرة. والآن هم أنفسهم ينسجوا القصص حول الحاج والناس يتناقلوها بسذاجة مصدقين ومضيفين كل ما يسعفهم به خيالهم من نوادر، كل هذا من أجل يغطوا على الجريمة!!
- أي جريمة، عن أي جريمة تتكلمين يا زينب؟!
صرخت بانفعال وكأنني وجدت حديثها مستفزاً بلا معنى..
- إسمعيني يا أصيلة تمام، هذي الخرافات من صنع الأمن اللي ضيعوا زوجك، هذا إذا عادهم ما قتلوه. الناس الآن جعلوا من الحاج حكاية، يعني اللعبة انطلت عليهم. لكن يجب أن لا تنطلي عليك أنت. أكتبي رسالة للمحافظ، وإذا لزم الأمر لأعلى المستويات، إشرحي فيها القضية وطالبي بالإفراج عن زوجك.. إذا كلنا قبلنا روايات الأجهزة الأمنية نكون خسرنا عقولنا، نكون قبلنا ببطلان العقل.

كتبنا الرسائل وأتبعناها بالبرقيات، لكن الأيام ابتلعت القضية. وكل ما بقي منها هو ذلك الجزء الذي انتقل إلى الوجدان الشعبي عن الرجل صاحب الأسرار الذي أنقذه قرينه من الحريق الذي التهم السجن وأخذه إلى العالم الآخر بعد أن اتفق معه على الظهور على الناس بين الحين والآخر ليقدم المساعدة لمن يحتاجها لا لمن يطلبها.




كبرت هداية، وبدأت تنازع مختار مقتنياته فيختصمان، وكنت أوكل أمر حسم المشاكل بينهما لزينب، فقد كانت أقدر على التفاهم معهما.
كان الدكان يدرّ علينا دخلاً طيباً مكّنَنا من الحياة الكريمة. أما الشنطة فقد نسيتُ أمرها لفترة من الزمن على أمل أن يظهر صاحبها وأسلمه الأمانة، ولذلك تحاشيت التفكير فيها على الرغم من الفضول الذي كان يجتاحني بين الحين والآخر لمعرفة مكنون السر الذي جعل الحاج يهتم بها في تلك اللحظة الحرجة دون غيرها من الأشياء.

أحياناً كنت أقول: لماذا لا أفتحها؟ ربما أن ما تحتويه يخص حياتنا أنا وابنتي التي بدأت تتفتح كزهرة برية من زهرات تلك البلدة النائمة في كف ذلك الجبل العملاق! لكن كان يغالبني أمل بعودة الحاج، ومعه إحساس مفعم بانتظار الثناء على حمل الأمانة وعدم التفريط فيها. لكن أصدقك القول، لو أن المفتاح كان معي لفتحتها بدون تردد لإرضاء فضولي؛ عدم وجود المفتاح وصعوبة فتحها دون عبث بقفلها المبرمج كان سبباً في ترجيح كفة الأمانة.

أصبحنا وأسرة زينب نقضي معظم وقتنا معاً ؛ فهداية في الأساس تربت في كنف زينب ومع أولادها كأخت لهم، وكانت تقضي معظم نهارها قبل أن تلتحق بالمدرسة في منزل زينب. أما بعد التحاقها بالمدرسة، فقد حرصت على أن ينتظم وقتها، وكنّا نقضي العصرية وجزءاً من المساء عندهم، أو يأتون هم إلينا في زيارات متبادلة لا تتوقف.

حتى جاء من النسوة الخبيثات من تقول لي:
- شوفي يا أصيلة أنت أرملة وحلوة وكلام الناس كثير.
لم أتركها تكمل كلامها. قلت لها بغضب، وقد لمست أن وراء حديثها كمين:
- إيش تقصدي بهذا الكلام، والناس مالهم ومالي، لا تقولي لي إيش يقولوا، ما اشتيش وجع قلب، أني أعرف نفسي، وكل واحد يلزم حدوده!
- تجاهلت كلامي وواصلت حديثها:
- يقولوا إنك تستغلي طيبة زينب وترسمي على زوجها!
- تبسمتُ بهدوء وكأنني أقول لها " العبي غيرها ". كنت لا أريدها أن تراني مهزومة أو مضطربة حتى لا تتمادى. لقد علمتني الحياة أن أتجنب الاضطراب في مثل هذه المواقف حتى أحسن التدبير فيما يمكن عمله، لكن هذا لا يعني أنني لا آخذ الأمور بجدية.

كان كلامها مؤلماً ألماً يكفي لتمزيق نياط القلب، فقد كنت أتوقع أن تقول أي شيء إلا هذا الكلام ؛ وبالرغم من إحساسي من أنه مفبرك، إلا أنه شديد الحساسية، فمجرد فقط أن يوجد من يفكر فيه، ولو على نحو كيدي أو لئيم، فإن تداعيات نفسيه كثيرة ستحدث.

غادرت البيت وقد بذرتْ شرخاً رهيباً في النفس. رفعت سماعة التلفون لأتصل بزينب، لكن هاجساً ما منعني من ذلك.

في المساء اتصلت زينب. تحاشيت الرد عليها، طلبت من هداية أن ترد عليها. لكن زينب أصرت أن تحاكيني لأمر هام.

عندما قالت هداية أنها تريدني لأمر هام تسارعت دقات قلبي كما لو كنت قد ارتكبت خطيئة فعلاً، والمسألة هي أنني لا أريد شيئاً يجرح علاقتي بتلك المرأة العظيمة. ظهر من صوتها القلق لعدم اتصالي بها طوال اليوم. قلت لها:
- ما هو الأمر الهام الذي عندك؟
- ما شفتيش التلفزيون؟
- لا والله، اليوم ماليش نفس أشوف حاجة.
- اليوم غير كل يوم، خلاص اليمن با تتوحد، أمس في عدن تم الاتفاق على دستور دولة الوحدة. والبلاد كلها قائمة ولم تقعد من أمس. تنفست الصعدا. قلت لنفسي: لا شيء يشغل الناس عن حكايتي إلا حدث كبير مثل هذا الحدث. بدت لي الوحدة منقذاً من كل شيء.

ومع ذلك فقد رأيت أن من الأفضل أن أقلل من زياراتي لزينب دون أن يؤثر ذلك على علاقتي بها، ووجدتها تعتب عليّ بشدة. ويوم قررت مفاتحتها في الموضوع وجدتها قد سمعت أكثر مما سمعت، بل إن هناك من هؤلاء النسوة، كما أخبرتني، من أقسمن لها بأن علاقتي بزوجها أصبحت معروفة للجميع، وأنها هي الوحيدة المخدوعة التي لا تعرف ذلك.

قلت لها محتجة:
- ولماذا لم تفاتحينني بذلك؟! آه.. ربما كنت تبحثين عن دليل!
لم ترد على سؤالي، أو تعلق على تهكمي، بل سرحت بعيداً، ثم تبسمت، وقد أعياها هذا الموقف، وقالت:
- أنت يا أصيلة حلوة وامرأة ناضجة ووحيدة ولازم يطبخوا لك إشاعات، وهذا شيء طبيعي، اللي مش طبيعي هو إنه ما تكونش هناك إشاعات على وحدة في جمالك وظروفك. لكن الحمد لله إن الإشاعة كانت على هذا المستوى وعند هذا الحد، يعني إشاعة عائلية في إطار الأسرة، ما راحوش بعيد، المشكلة لو راحوا بعيد. أقصد يا أصيلة إنهم ما حصلوش حاجة يقولوها عليك فاخترعوا هذي القصة من وحي علاقتنا الأسرية.

طيب، بالله عليك، وحدة مثلك لو تشتي تعمل علاقة إيش الذي يخليها تفكر في زوج صديقتها، خاصة وزوج صديقتها هذا ما ينظفش نفسه من شحم الورشة إلا مرة في الأسبوع.
قلت وقد أرخيت عضلات وجهي المتكدر:
- واليوم الذي ينظف فيه نفسه من الشحم تقفلي عليه الغرفة لا يدخل ولا يخرج ؛ صحيح يا زينب ما قد شفتش زوجك إلا وهو بثياب الورشة، لكنه والله وسيم حتى وهو بثياب الورشة والزيوت تغطي وجهه..
قاطعتني بخبث:
- على مهلك، لا تروحيش بعيد.
- حاضر، ما رحتش بعيد وأني صبية كيف با أروح الآن. دائماً كانت هناك حدود لروحتي، أقصى مسافة قطعتها كانت مع أصيلة. وقبلها في الحي القديم، كانت هناك روحة. لكن إيش يا زينب ما أقدرش أوصف لك، هذيك الروحة وإلاّ بلاش! روحة عن روحة تفرق. بس في روحة توصلك للهدف، وروحة تأخذ منك الهدف ومعه عمرك.
- من أي نوع كانت روحتك يا أم هداية؟
- كنا قريبين من الهدف، سافر إلى الخارج للدراسة، وقبل ما يتخرج، تغيرت أحوالنا رأساً على عقب.. مات والدي، ثم قرر إخواني الرحيل إلى مكان آخر بعد أن تعثرت تجارتهما، تركت له اسم المدينة التي توجهنا إليها عند صديقتي في الحي القديم ليسأل عني هناك حين عودته، لكنه لم يسأل. انتظرت فترة، وكانت ظروفنا تسير من سيئ إلى أسوأ بسبب تصرفات إخواني، ثم ارتبطت بأول رجل تقدم يطلب يدي من أمي... والقصة بعد ذلك تطول.

تدخلتُ هنا لتوضيح الحقيقة، وشرحت لها كيف أنني التقيت صديقتها تلك فور عودتي من الخارج وسألتها عنها ولكنها أنكرت معرفتها بالوجهة التي اتجهت إليها مع أسرتها، ثم رأيت الألم يرتسم على محياها وكأنني أزلت غبار السنين عن وجع لم يبارحها رغم الأوجاع التي عانت منها بعد ذلك.

ساد صمت جففت خلاله بعض الدموع، أو هكذا بدا لي، وانتبهت إلى أن الوقت يمضي، وحاولت أن تختصر، لكنني رجوتها أن تواصل..

ومضت تسرد حكايتها بمداخلة قصيرة عن زينب، تشرح فيها أصالتها ووفاءها، وكيف أنها كانت نعم الصديقة في الظروف الصعبة، وكيف أن الحياة لا يمكن أن تسرف في قسوتها حتى النهاية، لا بد أن تعادل قسوتها بقدر ولو يسير من الحنان من شخص ترميه الصدفة في طريقك، بترتيب مسبق لقوة تحرس انتظام حركة هذا الكون وعمل قوانينه على هذا النحو الذي جعل الحماية ممكنة على ظهر هذا الكوكب. هذه القوة الخفيفة هي التي تتدخل في الوقت المناسب بأدواتها المادية والمعنوية لترشيد سلوك الإنسان كي لا يتناقض مع فكرة الاعتدال التي تنتظم في مدارها حركة الكون وعمل قوانينه.

تحاول أصلية أن تتذكر أين توقفت في حديثها مع زينب.. لم تبذل جهداً كبيراً، فقد كانت النقطة التي توقفت عندها إثر مداخلتي منعطفاً حاسماً في حياتها.
وواصلت:
لم تعلق زينب على كلامي على الرغم من أنني لمست في عينيها رغبة في سماع المزيد. لكن حديثنا بعد ذلك تشعب، ووجدت نفسي في نهاية الحديث أفكر في ترك هذه البلدة. لا أدري كيف طرأت لي هذه الفكرة أو خطر لي هذا الخطر. هكذا، فجأة وبدون مقدمات، شعرت بحنين جارف للحي القديم في تلك المدينة التي تركتها صبية، في ريعان الصبا. غادرتها وأنا أحمل أحلى الذكريات. وما لم أستطع حمله، دفنته هناك ونصبت فوقه مشهداً منحوتاً من مشاعر الحب والوفاء لهذه المدينة وناسها الطيبين.

في تلك المدينة خفق قلبي بالحب. وتحت ركام القسوة الذي اعتلته عبر السنين ظل ينبض بالحب بمعزل عن ظروف " جوهرة " وعذابات " فضيلة " وحنق" ولاء" وواقعية " عهدة " التي انتهت بها إلى " أصيلة " الأم.. كان يعزف ألحانه الخاصة ويعيد بناء إيقاعاته كما لو أن إيقاعات الحياة الصاخبة بقسوة والتي تداهمني من كل مكان لا تعنيه.

ولأنني كنت أجد التآسي في إيقاعاته، وأجد فيها ملاذاً أهرب إليه من قسوة الدنيا والناس، ملاذاً أخلو إليه كلما قهرني السلوك البغيض للبشر، فقد تركته في حال سبيله يعزف ويبني وينظم. لم أمارس إرادتي عليه تحت أي دافع من الدوافع. فطالما أنه يمارس نشاطه في حدود الذاكرة ولا يفرض علي موقفاً أو سلوكاً معيباً، فليعزف كيفما شاء ولينبض متى ما أراد حاملاً معه من تحت الركام أنغاماً تضفي على الروح بهجة لا تتعدى الثواني في معظم الأحيان قبل أن تغرق الروح من جديد في عبث الحياة وقسوتها.

أخفيت عن زينب ما عزمت عليه. أمضيت أياماً أقلب الأمر مع نفسي، أضرب أخماساً في أسداس وأوازن الأمور، وكلّما بدا لي الأمر صعباً ومعقداً، تماهيت مع طفولتي وصباي ووجدتني أمرق من جدارية العمر عبر فوهة ظلت مفتوحة في مكانٍ ما على هذه الجدارية نحو مرابع الصبا في الحي القديم من المدينة التي ظل عبق موجها يرتحل معي من مكان إلى آخر ومن حال إلى حال، فيضعني في إطار الزمن الجميل الذي لم أشعر حتى اليوم أنني غادرته رغم ما تشاهده من الآثار التي أحدثتها السنين.

كنت فيما مضى أمارس مثل هذا التماهي. لكنني الآن لا ألبث أن أنتزع نفسي بقوة من لذة الإحساس بالاندماج الروحي مع صباي والتوحد مع " جمعة " التي شغلت فتيان الحي بجمالها وصباها الأنيق، وأقول: بلاش يا " جمعة " تفتحي على نفسك أبواب لن تستطيعي إغلاقها. وأكتفي بلحظات الشجن التي يلقنها القلب نغماته المرسلة من أعماق الذاكرة. وكنت فعلاً أكتفي بذلك.

في ليالي الشتاء التي تغرق فيها تلك البلدة في ليل طويل، وبعد أن تنام " هداية " ويخلد البيت إلى سكون مرعب تتخلله دمدمات الريح المنبعثة من شقوق سقف الزنك المتهالك للبلكونة الشمالية التي ينفتح شباكها على منظر جانبي للجبل، أبدأ بممارسة طقس التماهي مع صباي ؛ أشطب كل السنين التي أعقبت خروجنا من الحي القديم. أرميها في ثقب العمر الأسود ليعيد ابتلاعها مثلما ابتلعها حقيقةً في واقع الحياة.

ومع الأيام، أصبحت العودة إلى الحي القديم في المدينة التي شهدت نبضة الحب الأولى والأخيرة محسومة. لم أعد قادرة على مقاومة طغيان الرغبة في الالتحام مع روح " جمعة " الذي أصبح جزءاً من ذلك المكان.

لم تدر زينب، يوم حملت إليَّ بشرى الوحدة، أنها فتحت في حياتي نافذة لماض ظننته قد أغلق إلى الأبد. يوم أخبرتني بالخبر تحرك من مكان في وعيي شيء ما وأخذ مكاناً قريباً من النفس، لم أستطع حينها أن أتبين كنه هذا الشيء إلا بعد أن راح يضغط ويناور حتى أفصح عن نفسه فجأة بعد ذلك الحوار مع زينب.

من قاع الذاكرة تحدثت معها عن " روحتي" التي لا تضاهيها روحة، فكانت أول مخلوق أتحدث معه وأبوح له بمكنون النفس وهو ما حرك المياه الراكدة بقوة، ما يجعلني أرفع الأشرعة لأبحر صوب الحلم. كنت أعرف أن الإبحار صوب حلم تهاوت جسوره مع الواقع هو مجرد هروب إلى المجهول، لكن ليس هذا هو المجهول الأول الذي ساقتني الحياة نحوه غصباً عني. على الأقل هذا المجهول هو الوحيد الذي اخترت الإبحار إليه بإرادتي. فليكن إذاً اختباراً للقرار المستقل الأول. ألا يستحق مثل هذا القرار أن أتحمل من أجله النتائج!

عاصفة اعتراض قوية هبت من داخلي تؤنبني على التمادي بشأن القرار المستقل.. ذكرتني بـ " هداية " في البقاء هنا في هذه البلدة التي يعيش فيها أترابها والتي لم تغادرها طوال السبع سنوات، التي هي كل عمرها.. ثم بدأت تفاصيل كثيرة تثار لم تكن حاضرة في الذهن. كان طغيان الرغبة في الرحيل يحجب هذه التفاصيل كما هو الحال مع القرارات الكبيرة التي تهمل التفاصيل. لكن هذه التفاصيل كثيراً ما تهدد القرارات الكبيرة حينما يتم تجاهلها حتى النهاية. يعني مثلاً لو فكرت في المسكن حين وصولي إلى الحي القديم وجعلته في مصاف حافز الرحيل لفتحت بينهما جدلاً لن ينتهي ولتعذر عليّ اتخاذ القرار.. وكذلك الحال فيما يخص تصفية ممتلكاتنا في هذه البلدة، وهي مصدر رزقنا ومعيشتنا.. إلى غير ذلك من التفاصيل التي تتطلب إرادة صلبة للرحيل. ومثل هذه الإرادة لن تتوفر إلا إذا وقف وراءها دافع قوي ؛ فهل كان الدافع وراء قرار الرحيل قوي لدرجة أن كل هذه التعقيدات التي تنتظرنا تعد مجرد تفاصيل أمامه؟!

لا أدري! ارتبكت عليّ الأمور.
كان علي أن أعيد ترتيب أفكاري من البداية.
العقل منقسم: هناك هاجس الخوف من عواقب الرحيل، خاصة بعد أن استقر الرأي على أن " هداية " لم تعد سقط متاع مثلما كنت أنا يوم أن قرر إخواني الرحيل عن الحي القديم. وهناك عاطفة التحدي لسنوات الإذلال التي أرهقتني بعبئها دون أمل أو رجاء بنهاية منصفة، تنازعني هاجس الخوف، وعاطفة التحدي لأيام، وإذ مثلت أمامي تعقيدات الرحيل التي تدعم هاجس الخوف، رحت أبحث عن طريقة مشرفة للانسحاب أقنع بها نفسي حتى لا يبدو الانسحاب وكأنه هزيمة، فلم أعد قادرة على تحمل هزيمة أخرى من أي نوع كان.

غير أن عاطفة التحدي كانت تقوى بتعذر الحياة في هذه البلدة التي تضاءل فيها الأمل بالإنصاف ؛ نعم.. الإنصاف الذي ظللت أنتظره من هذه الدنيا بفارغ الصبر. لكن اتضح لي أن الدنيا لا تنصف إلا بشروطها، وأول شروطها أن ينصف المرء نفسه أولاً، فهل يا ترى أنا منصفة نفسي بمقامي في هذه البلدة التي غدرت بالرجل الذي اختارها ليهجع فيها من تعب الدنيا! وحتى الشيء الوحيد الجميل فيها يجري تعكيره بالإشاعات والنميمة..

والانسحاب معناه دفن بقية عمري في هذه البلدة الكئيبة التي تتكدس فيها البلوكات الاسمنتية لتحل محل الخضرة كعنوان لطيش الفعل البشري. فمنذ أن قدمنا إلى هذه البلدة، قبل ما يزيد على ثمان سنوات، جرى تغيير ملامح البلدة ومحيطها الذي كان أشبه بحديقة غناء، حيث تم تجريف الأراضي الزراعية بحثاً عن الحجارة البيضاء في باطن الأرض، وأقام الكثيرون مقالع للحجارة، وزحف العمران العشوائي ليغطّي مساحات واسعة من الأرض الخضراء، ومعظم البيوت التي بنيت ظلت مغلقة، أصحابها في المهجر. الواحد منهم يخرج من قريته وكل ما يحلم به هو أن يبني بيتاً.. البيت بالنسبة لليمني رمز وجوده، وهي الحبل السُّري الذي يربطه بالوطن، مش مهم أن يسكن فيه، المهم أن يقتطع بقعة من أرض الوطن ويشيد عليه نصب انتمائه، وبعد ذلك إرمه في البحر، كما يقول المثل.

قررت أن أناقش الأمر مع " هداية " لأكتشف عمق ارتباطها بالمكان.
لم تكن روابطها بالمكان قد تجذرت. كانت في سن لم ينشئ بعدُ الدوافع الخاصة للشخصية في خلق روابطها القوية بالمكان بمعزل عن الأسرة، لذلك لم تعترض حينما عرضت عليها فكرة الرحيل. ربما لم تستوعب أبعاد الفكرة، لكن من المؤكد أنها أدركت أننا سنفارق هذه البلدة إلى غير رجعة، والدليل أنها سألتني عن " ماما " زينب وما إذا كنا سنراها مرة أخرى.

بدت وكأنها تنتظر من زمن مفاتحتها بالموضوع.
يصعب علينا في كثير من الأحيان أن نستوعب حقيقة أن أطفالنا يكبرون، ويفكرون، ويضيقون بأرديتنا.. يفرون من ظلالنا إلى وهج الشمس المحرقة لتأكيد شخصيتهم المستقلة. لا بد أنهم يعانون كثيراً من حبنا المسيطر، الحب الذي يعفيهم من تحمل المسئولية وبناء الشخصية، فيسعون إلى التخلص من شباكه بطريقتهم.
كانت " هداية " في السن الذي يبدأ فيه الطفل يضيق برداء أبويه. وفي هذا السن لا بد من توسع الرداء كلما كبر الطفل حتى يستوعب إنفعالاته وحراك شخصيته المتطلعة بعنفوان نحو تأكيد الذات على ما يحيط بها من مؤثرات، وإلاّ فسنكون أمام نتيجتين لا ثالث لهما: إما أن يحشر هذا الطفل في رداء أضيق من حاجته الطبيعية للنمو بما يؤدي إليه ذلك من انكفاء وكسر لشخصيته، أو أن يتمرد على هذا الرداء بأساليب مختلفة تؤدي جميعها إلى تشكل شخصيته بعيداً عن تأثير والديه.

لم أكن فيما سبق قد ناقشتها بأسلوب أخذ الرأي. كنت أميل إلى إلقاء الأوامر ، فاكتشفت من خلال هذا النقاش أن زينب أقرب إليها.. ربما كانت تجد عند زينب قدراً من الدعم لنمو شخصيتها المستقلة للأسلوب الذي كانت تتبعه معها في الحديث، فهي تترك لها مساحة للتفكير فيما تراه صائباً، بينما كنت أنا أقرر نيابة عنها الصح والخطأ، ولم ألحظ أنها تكبر وأنها تحتفظ ببعض الأسرار كدليل على نمو شخصيتها المستقلة، كما لم ألحظ من سابق أنها تثير الأسئلة، ليس بقصد الحصول على الجواب الجاهز وإنما بقصد لفت الانتباه للاستماع إلى رأيها. لذلك كانت تهرب إلى زينب التي كانت تمنحها الفرصة الكافية لمغادرة شرنقة الطفولة.. ولم يكن غريباً أن تكون " ماما " زينب أول من يخطر على بالها في مثل تلك اللحظة وتسأل عما إذا كنا سنراها من جديد!

في المساء، زارني " الحاج " في الحلم. كان قادماً من صوب الجبل ممتطياً جواداً أملح وعاصباً رأسه بعصابة صفراء وطلب مني أن أسقي الجواد وأطعمه وأحل سرجه وأعالج حافره الأمامي الأيمن لأن به عرجة لا يعرف سببها. لم أكن قد تعاملت مع الجياد من سابق، ولكنني وجدت نفسي أقوم بالعمل الذي طلبه على أكمل وجه، واكتشفت سبب العرج وعالجت حافر الجواد. سألته ما إذا كان جائعاً، فشكرني، وأثنى على ما قمت به، وطلب مني الشنطة الأمانة، ووجدها كما تركها، فأعادها إليّ وقال: فيها ما يعينكم على مواجهة الحياة أنت " وهداية " أنا لم أعد أحتاجها، ثم طلب أن يسلم على " هداية "، ولكنه فجأة عدل عن طلبه بحجة أنه مستعجل، واعتلى الجواد، وقبل أن يرخي زمامه ويهزه إيذاناً بالرحيل، سمعته يسأل: لماذا لا تتزوجين؟! ثم ابتلعته العتمة.

أخبرت زينب بالحلم، دون أن أذكر أمر الشنطة. فسألت وجاء التفسير بأن صاحبة الحلم ستخوض تجربة جديدة في الحياة وستنجح بإذن الله بعد مشكلة ستتغلب عليها، وأما طلبه أن يسلم على " هداية " ثم عدوله عن الطلب فيعود للرغبة الشديدة التي كانت تسيطر عليه في أن يكون له ولد، أما وقد جاءت بنت على عكس ما كان يتمنى فقد عبر عن حنقه بواسطة هذا الموقف، وفيما يخص سؤاله عن الزواج فهو مؤشر على عدم عودته إلى حياتها، بأن يكون قد مات أو غير ذلك، والسؤال يحمل لها إذناً بالزواج.

كان أول شيء قمت به بعد ذلك هو إخراج الشنطة من المخبأ الذي حفظتها فيه. اعتبرت الحلم إذناً بفتحها.
لم أجد في الشنطة سوى حزم من الأوراق، تعبت في فرزها وقراءتها. كنت أقول لنفسي وأنا افرز الأوراق المهترئة: ترى بماذا ستفيدنا هذه الأوراق في مواجهة الحياة يا "حاج "!

فتسألني هداية:
- هل تكلمين نفسك يا أمي؟
أتجاهل سؤالها وأمضي في فرز الأوراق وقراءتها بتمعن وصعوبة. بعد جهد جهيد في فك ألغازها عرفت أنها وثائق ملكية لثلاثة مساكن وبعض المتاجر في المدينة التي كان فيها حيُّنا القديم.

لم يكن الحاج قد تحدث معي عن حياته ما قبل انتقاله إلى المدينة التي تعرفنا عليه فيها واشتغاله مع الجن. ترى ما الذي كان يعمله في تلك المدينة، وكيف تغيرت حياته، وما هو مصير هذه الممتلكات؟

شغلتني هذه الأسئلة كثيراً. لكن وجدت في نهاية المطاف أن لا فائدة من الانشغال بها كثيراً، وأن الأكثر أهمية هو الانشغال باستعادة الممتلكات وتأمين مستقبل " هداية "، فالحاج قد رحل. ومثلما لفّ الغموض حياته فإن رحيله كان أكثر غموضاً.

قلت لنفسي: لنترك الزمن يحلّ ألغاز هذا الغموض وأتفرغ أنا لتسوية الأمور المعلقة، لم تستغرق ترتيبات رحيلي أكثر من شهرين، حاولت خالها زينب أن تثنيني عن الرحيل، لكنها، حينما أدركت تصميمي، عادت لتقف في صفي، وراحت تؤازرني وتشد علي يدي.

وكانت أهم نصيحة قدمتها لي هي أن أقوم بزيارة استطلاعية لمدينة حيِّنا القديم قبل أن أنتقل بصورة نهائية. وفكرتها أن رأيي قد يتغير بمقدار التغير الذي أصاب المكان بفعل تأثير الزمان.

لكنني حينما وصلت برفقة هداية إلى حيِّنا القديم، اجتاحتني موجة الذكريات عندما اقتربت من منزلنا القديم، وخيّل إليّ أن كل شيء تجمد عند اللحظة التي غادرنا فيها هذا الحي إلى مقر إقامتنا الجديد.

كان الوقت يقترب من الظهيرة، فكان الشارع خاوياً إلا من أشباح " جمعة " وأترابها يتراقصون هنا وهناك. لم تغيّر الأيام كثيراً من ملامح الشارع. هممت أن أطرق باب منزلنا القديم، لكنني ترددت.. تذكرت أنه لم يعد منزلنا، وقررت أن أطرق باب جيراننا، عائلة نجيبة، التي تركت عندها العنوان لك يوم رحيلي.

فتح الباب صبي تشع من عينيه شقاوة نجيبة ومكرها، وللحظة رحت أجول في تلك العينين قبل أن أجيبه على سؤاله حول ماذا أريد.. تنادت من وراء السنين ذكريات كثيرة، تزاحمت في المساحة الضيقة التي كانت تفصلني عن ذلك الصبي، سألته:
- نجيبة موجودة؟
- من نقول لها يا خالة؟
- قول لها صديقة قديمة..
جاء صوت نجيبة من داخل البيت واضحاً، ولكنه متعب. لم أتبين من حديثها مع الصبي سوى بعض الكلمات المتقطعة. وجدتها تقف أمامي بهيئة أنيقة ومحيا تستطيع بسهولة أن تتبين تأثير الزمن عليه، لكن مش أي تأثير.. ومع ذلك فقد احتفظ بملامحه التي تميزت بخفة الدم والمكر والشقاوة، وإن كان العمر قد تدخل ليرمي بثقل السنين على اللوحة ويغير فيها حسب مقتضياته. لقد حفر لسنينه مخابئ عدة وصار يخرج من هذه المخابئ معلناً عن نفسه بقوة في كل حين، ولم يعد المكياج ولا المساحيق قادرة على لجمه.. بات يجد طريقاً إلى محياها بسهولة، وهذا ما بدا لي حينما تطلعت في وجهها وهي أمامي على عتبة الباب.

من نظرتها المشحونة بالاستفسار والتعجب أدركت حجم التغير الذي أصابني، فلم يبد عليها أنها قاربت بذاكرتها حتى الحدود البعيدة لمعرفتها بي، بدت حائرة فيمن تكون صديقتها هذه التي أخبرها الصبي عنها.. راحت توزع نظراتها بيني وبين هداية. تعمدت إطالة حيرتها، ربما بقصد اختبار نزقها القديم الذي كانت تجيد تحويله إلى مشاكسة. سألتها، بعد أن أعياها التفكير فيمن أكون:
- كيف حالك يا جناين؟ وقفتيني على الباب ساعة!

كنت أنا الوحيدة التي أناديها بهذه الكنية. ولذلك سهلت عليها التعرف بي. احتضنتني بقوة وكأنها قفزت حاجزاً كان يفصل بينها وبين ذاكرتها. قالت متداركة حرج الموقف:
- من البداية قلت إنك " جمعة "، لكن ما تصورتش إنك تكوني بهذا الجمال.
لم تكن هداية قد سمعت باسم " جمعة " من قبل، لذا نظرت إليّ باستغراب وكأنها تتأكد من أن التي تقف إلى جانبها هي" أصيلة " أمها التي لم تعرف لها اسماً آخر منذ أن بدأت تعي الأسماء وحتى اليوم. وزاد حيرتها أن نجيبه واصلت حديثها:
- تعرفي يا جمعة إنني تمنيت هذه اللحظة من زمان، أن أفتح الباب وأشوفك قدامي بشحمك ولحمك. في الآونة الأخيرة زاد عندي الإحساس إنني با أشوفك، ما أدريش ليش سيطر عليّ هذا الإحساس، حاولت أعرف السبب الذي رمى بك هكذا فجأة إلى الوعي، وتعرفي إيش السبب؟ قبل شهرين جاء فؤاد – تذكريه طبعاً – إلى المدرسة التي أدرس فيها ومعه ابنته يريد يسحب أوراقها لأنه انتقل للعمل في السلك الدبلوماسي في الخارج وما كنتش قد شفته من زمان لأنهم انتقلوا من الحي.

وتكلمنا وذكرنا الحي القديم وناسه وكنت من بين الذين ذكرناهم.
لاحظت أن لا أحد في المنزل سواها والصبي الذي فتح الباب. عرفت منها - بعد أن استفسرت - أن والدها وأمها توفيا في سنة واحدة، وأن أخاها الوحيد لم يعد من بولندا التي أكمل بها دراسته الجامعية، وأنها تزوجت إلى بيت أهلها وخلفت ذلك الصبي، أما زوجها فقد عاد إلى شرق أفريقيا ليدير تجارة والده، كما قال لها، ولكنه لم يعد يتصل بهم منذ ما يزيد على ثلاث سنوات، وأنها في الوقت الحاضر تعيش مع ابنها حسين وحيدين، وتعول نفسها، فهي تعمل مدرسة في الثانوية بعد أن تخرجت من كلية التربية قسم العلوم.

بدا لي من حديثها أنها عانت الكثير، وأن الأيام قد صقلتها، وخرجت منها بتجربة خاصة لم تخبرني سوى بعناوينها العامة، أما ما تتضمنه هذه العناوين من تفاصيل فلا بد أن يجعل التجربة أقرب إلى المأساة.

أمضينا النهار كله في حديث طويل عن الأصدقاء والصديقات. أما هداية فقد طلبنا من حسين أن يأخذها إلى البحر الذي كان منى نفسها تشوفه وتتعرف عليه، فهي لم تشاهده سوى في التلفزيون إضافة إلى ما قرأته عنه في كتب المدرسة.

أصرت نجيبة أن تستضيفنا بعد أن شرحت لها أسباب مجيئي. وفي المساء، أخذتني في سيارتها القديمة إلى الفندق وأخذنا أغراضنا، وقمنا بجولة في المدينة.

كانت المدينة مزدحمة وتتهيأ لاستقبال حدث كبير. كل شيء فيها كان يوحي بأنها تترقب هذا الحدث. مررنا بالسوق الطويل وبالكاد تجاوزت سيارتنا تقاطع الشوارع المؤدية إلى ميدان التاكسيات. على الناصية رأيت كشك الليمون على حاله يقاوم فعل الزمن والذي طالما أخذني والدي إليه لنشرب عصير الليمون اللذيذ قبل أن تُوارى سوءتي في المنزل بموجب ذلك القرار الذي يعود سببه إلى الحجج التي ساقها أخي الكبير لإقناع أبي بضرورة لزوم البيت، وهي أنني كبرت ولم يعد مناسباً لي أن أغادر البيت إلا لأسباب ضرورية، وبرفقة أحد منهم، وحينما احتججت بالمدرسة أمهلوني سنة أكمل فيها الأول ثانوي الذي كنت قد أنهيت الفصل الأول منه.
قلت لنجيبة:
- أيش رأيك بكوبين من عصير الليمون؟
لم يبد أنها فهمت قصدي، قالت:
- نشربهما في البيت.
أوضحت لها الفكرة. وافقت.

أوقفت السيارة بالقرب من الكشك وأشارت بيدها لصبي البائع الذي لبى الطلب سريعاً. لم يهتم بوجودنا أحد. كان الناس يتحركون ذهاباً وإياباً لا تعرف لحركتهم مقصداً معيناً، وكان طعم الليمون قد بعث من بين الأحشاء ذكريات الزيارات إلى هذا المكان مع والدي رحمه الله في مناسبات مختلفة. نفس الطعم لم يتغير على الرغم مما أصاب اللسان من مرارة. عرضت على نجيبة الوثائق التي تركها الحاج في الشنطة، وكان من بينها وثيقة خاصة بمتجر يقع وسط المدينة. وكان لنجيبة صديقة تعمل مستشارة قانونية. طلبنا رأيها بشأن استعادة الملكية، قالت لنا ما معناه إن كل شيء سيكون بالتراضي.

ترددت في البداية في خوض التجربة، لكن نجيبة وصديقتها شجعتاني بالقول:
- لن تخسري شيء، وهي محاولة والمسألة تتوقف على الوضع القانوني للمحل والمنتفع الجديد به.
زرنا المتجر. كان محلاً لبيع الأقمشة والملابس الجاهزة. وكان يتصدر المتجر رجل كهل تجاوز منتصف العمر. وقف حينما دخلنا المحل. عرف المستشارة القانونية ورحب بها. سألنا عن حاجتنا. راحت المستشارة تحدثه في مواضيع مختلفة وكأنها تهيئه للموضوع الذي جئنا من أجله. وعندما شعرت أن الجو مهيأ لطرق الموضوع، قالت له:
- سأدخل في الموضوع بدون مقدمات. هذه المرأة معها وثيقة ملكية لهذا المتجر باسم زوجها السيد عبد الجبار، وأنت يبدو عليك رجل من أصحاب الخير، ما رأيك هل يمكن نواصل الحديث في الموضوع.

تبسم الرجل، على غير ما توقعنا، وهز رأسه، وقال:
- نعم هذا المتجر كان مملوكاً للسيد عبد الجبار، اشتراه من أولاد الحاج المخاوي وكنت أعمل فيه معهم ثم واصلت العمل مع المالك الجديد، وحينما رحل السيد عن المدينة ترك المتجر في ذمتي، وبعد التأميم كنت أنا المنتفع به، وهذا هو الوضع حتى اليوم.
أسقط في يدي وأنا أسمع أن المتجر كان مملوكاً لنا في يوم من الأيام. لم أكن بالطبع أعرف حينها موقع المتجر، فحينها كنت قد منعت من الدخول والخروج من البيت إلاّ بمرافق، وزاد هذا الحصار بعد وفاة أبي، ويبدو أنه حصار لم تكن له علاقة بالعادات والتقاليد، وإنما لغرض آخر كانا يخططان له.
أغرقتني المصادفة في تداعياتها، ولم أتمكن من متابعة الحديث الذي دار بين المستشارة ونجيبة من ناحية والمنتفع من ناحية أخرى. لم أنتبه إلاّ على صوت نجيبة تقول:
- مبروك، الراجل طلع محترم لا يريد سوى أن يبقى في المتجر مثلما كان عامل عند زوجك، وعند إخوانك من قبله. بس يريد منك أن تتنازلي عن البيت لأن أسرته تقيم فيه.

قبل أن أدخل هذا المتجر لم تكن بي رغبة ملحة لاستعادته. أما الآن وبعد أن عرفت قصة هذا المتجر فقد بات جزءاً من حكايتي التي يصعب التخلي عن أهم فصل من فصولها.

وافقت على التسوية فوراً، وأضفت مقترحاً يقضي بإعطائه نسبة من الأرباح السنوية، واتفقت مع المستشارة القانونية على تسوية الوضع القانوني مع الجهات الحكومية المعنية.

كانت هذه الخطوة الأولى على طريق استعادة " جمعة " من مخالب السنين وعذابات الارتحال بعناوين مختلفة لم تكن سوى أسمال مرقعة جاد بها أولئك الأزواج على اختلاف أهوائهم. تساءلت: هل كان السيد أبو هداية يعرف أنني إبنه الحاج المخاوي؟ وهل أخفى عني ذلك، أم أن الصدفة لعبت لعبتها لترتيب الأمور على هذا النحو الذي سارت عليه لأستعيد حقاً مسلوباً بعد هذا العمر الطويل؟ استعدت أحاديثي معه وهو يعالجني من الجن ولم أتذكر أنني ذكرت له من قريب أو بعيد أي شيء يجعله حتى يشك أنني ابنة الحاج المخاوي. لم أذكر له شيئاً عن حياتنا في عدن والحي القديم، كما أنه لم يكن قريباً من حياتنا هناك. ولو كان، لسارت الأمور على نحو آخر. صحيح سمعت أمي قبل أن تأخذني إليه تقول إنه كان يقطن في نفس المدينة التي كنا فيها مع والدي، ولكن لم تكن لنا معرفة مباشرة به.

استقريت من جديد في تلك المدينة، وحرصت أن أستأجر منزلاً قريباً من الحي القديم بمعرفة صديقتي نجيبة. في هذا المنزل، وعلى مقربة من كل ما يذكرني بناس هذا الحي وعشرة أهله، رحت أستعيد "جمعة "، ليس كاسم ولكن كروح، كمحتوى. دبّت " جمعة " في كياني من جديد. احتفظت باسم " أصيلة"، ليس فقط لأنه صدر من رجل كان وفياً وعبر به هو بدوره عن وفائي لأمي حينما منحني إياه، ولكن لأسباب تتعلق بالميراث من زوجي وترتيبات حياتي ما بعد وفاته بما في ذلك صلاتي الاجتماعية، ولا تنس أيضاً " هداية " التي لم تعرف لي اسماً غيره. أما روح" جمعة " فقد وهبتها لهداية. كانت نسخة لجمعة، نفثت فيها هذه الروح. وما لم تستطع " جمعة " أن تبلغه مكنت " هداية " منه. أكملت تعليمها الثانوي بتفوق والتحقت بالجامعة. أطلقت هواياتها في الرسم ونظم الشعر وكتابة القصة. وقد تسألني الآن لماذا أنا في صنعاء. أنا يا سيدي أرافق " هداية " التي تشارك في معرض للرسم الحر بمناسبة صنعاء عاصمة للثقافة العربية. وخرجت أمشي ولم أكن أتصور أن يومي هذا سيمتد عمراً بأكمله. لا بد أنها ستكون الآن قلقة علي فقد تأخرت كثيراً. يوم أمس تهت في المدينة وسألت بعض الشباب المارين عن وزارة الثقافة لأنني خجلت أسأل عن الفندق الذي نسكن فيه، فتغامزوا وقالوا لي باستخفاف إيش عندك رقصة! قلة حياء وجهل.

ولكن قل لي ما أخبارك أنت، ما الذي عملته معك الأيام؟! لكن أنتم الرجال السؤال بالنسبة لكم معكوس، ما الذي عملتموه بالأيام!

قالت ذلك وتراءى لي أنها أزاحت عن كاهلها حملاً ثقيلاً، فقد تنفست بعمق كمن يستريح في أعلى التلة بعد صعود عسير.

 


قلت لها:

 


الأوقات الجميلة تمر بسرعة. أما عن أخباري فتحتاج إلى لقاء آخر وربما أطول.

 


خاص بالمصـدر أونلايـن.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات