مواضيع اليوم

"تنويريون"

د.هايل نصر

2010-08-19 18:03:45

0

يطيب للبعض في ايامنا هذه ان يصف بعض الكتاب وبعض الكتابات بالتنوريين أو التنويرية, تشبيها لهم ولكتاباتهم بفلاسفة وكتاب وسياسي عصر التنوير في أوروبا. وتطيب لهؤلاء هذه الصفة.

كم نتمنى ان يظهر عندنا "تنويريون", أو "تنويريون قدر المستطاع", أو "تنويريون بما يجود به الحال". ولكن البوادر, التي يوحي بها ما هو منشور ومسموع ومعمول به, لا تبشر بخير, ولا يمكن ان تبشر بأننا بدأنا بوضع أقدامنا على عتبات عصر تنوير عربي, رغم اطلالات "المتنورين "على شاشات الفضائيات. و"التنويريين" على صفحات الانترنت ومواقعها. ورغم اننا نعيش سياسا واقتصاديا وثقافيا بعض ما عاشته اوروبا في عصورها الوسطى, وأدى الى ظهور رجال اعطوا لعصرهم بحق صفة عصر التنوير. فاين فوانيسنا "النائصة" من انوارهم الساطعة !!!.

اغداق الألقاب دون حساب, ودون احترام لما تعنيه على من يستحق ومن لا يستحق, هي عادة عربية بامتياز, ربما نشأت عن عادة الكرم العربي في الولائم والعطاء و الاغداق, بغض النظر عن الدوافع. وعن عادة المتحدثين العرب بعدم احترام الكلمة, وتحميلها ما ليس بمقدورها حمله من المعاني غير الدقيقة لتفيض عنها وتنشطر لتفرّخ, مشتقات لها ليس لإغنائها, وانما لاستيعاب الزيادة الفائضة, وتصبح بالتالي تكرارا وحشوا بلا قيمة مضافة, فتزداد وتتورم مفردات اللغة ولا تزداد مضامينها ثراء.

فلاسفة وكتاب وأدباء وشعراء وسياسيو وحقوقيو عصر التنوير في أوروبا لم يغوصوا في واقع مجتمعاتهم غوصا ابقاهم في قاع تلك المجتمعات, وانما أعملوا العقل في تشخيصهم للواقع المتخلف فكشفوه بموضعية ومنهجية الباحث المبدع. انصبت جهودهم على تقديم البديل الذي صلح لعصرهم, وما زال, في الكثير منه, صالح لكل العصور, وساهم في تطوير المجتمعات الانسانية. ( هل هناك من يقول اليوم, على سبيل المثال, بعدم صلاحية نظرية فصل السلطات وتوازنها؟ او علوية الدستور وسيادته؟. أو مبادئ العدالة والمساواة... ).
لم يكفروا بتاريخيهم ويسفهوا اسلافهم الى درجة اخراجهم من دائرة المخلوقات البشرية. ولم ينشروا افكار التحارب والكراهية والصراع بتفسيرات تثبت صحة معتقداتهم وضلال الاخرين. قيموهم مثلما كانوا عليه في زمنهم وفي ظروفهم الاقتصادية والثقافية والاجتماعية, وتحت تأثير والوسائل والعلاقات الموروثة والسائدة حينها ضمن العصر ومعطياته وشروطه. ومع ذلك لم يغسلوا الاخطاء أو الخطايا والجرائم التي كانت ترتكب باسم التعصب والحقد الديني ( مثاله حرق السحرة والساحرات أحياء, والرجم وقطع الأوصال وغير ذلك من العقوبات الوحشية التنكيلية).
وحتى لا يكون كلامنا مجردا, نسوق امثلة من تاريخ الغرب الذي سجل هذا المصطلح "تنوير", و من خلالها يتبين معنى ان يكون الفيلسوف او الأديب أو الشاعر او المسرحي او الحقوقي تنويريا.
نقد موليير الساخر, الكاتب المسرحي الكوميدي الفرنسي (1622/12/15 ـ 1673/2/17), ولافونتين الشاعر الكلاسيكي ( 1921/7/8 ـ 1695/4/13), لطبقة النبلاء وعقليتها وتصرفاتها, وصولا الى شخص الملك, اسقط عن هؤلاء هالة العظمة وسخّف سيف السطوة, وأفقد سلطتهم كل قدسية و مشروعية.
ليأتي بعدهم في القرن 18 من يقود معركة قامت على العقلنة, واستحقت ان يسمى العصر بعصر التنويرsiècle des Lumières. ففي مجال نظام الحكم, عرّف, وطور, منتسكيو (1689/1/18 ـ 1755/2/10 ) نظرية فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية : " في كل دولة توجد ثلاثة انواع من السلطة : السلطة التشريعية السلطة التنفيذية وسلطة التقاضي .. (استعمل كلمة puissance التي عنى بها pouvoir). لأنه عندما تجتمع السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية في نفس الشخص تنعدم الحرية. و عندها يخشى ان يصدر الملك نفسه قوانين استبدادية لينفذها بطرق استبدادية. كما تنعدم الحرية كذلك اذا كانت سلطة التقاضي غير مفصولة عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية...(روح القوانين 1748). هذا في وقت كانت الدولة ملكية خاصة للملك ممثل الله على الأرض, يجمع بيده كل السلطات. دولة اختصر طبيعتها وكيانها ونظامها لويس الرابع عشر بقوله : الدولة هي أنا. l’Etat c’est moi.
اما فولتير (1694/11/21 ـ 1778/5/30) الكاتب والفيلسوف الفرنسي فقد طبع القرن الثامن عشر بطابعه وشغل مكانا بارزا في الذاكرة الجمعية الفرنسية. مثّل المثقف الملتزم بخدمة الحقيقة والعدالة وحرية التفكير. خاض معركته ضد التعصب الديني ودافع عن التقدم والتسامح. اخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن ضحايا التعصب الديني والتعسف في الحكم في القضايا القضائية. مرافعاته وكتاباته في قضية كالاس, وسيرفان, وشوفالييه دي لابار, وكونت دي لالي , جعلت شهرته تعم اوروبا. مستخدما لغته الراقية واسلوبه المتميز بالأناقة والوضوح, واحيانا بالسخرية اللاذعة في خدمة افكاره والقضايا التي يدافع عنها.
دعوته لحرية التعبير جسدها بقوله المشهور: " لست متفقا معك فيما تقول. ولكني سأقاتل معك حتى الموت لتمتلك حقك في التعبير". قول يقع في اس حرية التعبير في المجتمع متعدد الاتجاهات الفكرية والدينية والثقافية, والاحزاب السياسية, ويضبط قواعد الحوار في ظل تعارض المصالح وتضاربها. فللجميع حرية التعبير عما يعتقد ويرى. وعلى الجميع قبول الاخر كما هو. مما يعطي الفكر الانساني, مهما كان توجهه, قيمة الانسان نفسه, قيمة تستحق التضحية من اجلها.
جان جاك روسو ( 1712/5/28 ـ 1778/7/2 ), من اشهر فلاسفة عصر التنوير. اعتبرته الثورة الفرنسية 1789, بشتى اتجاهاتها السياسية والفكرية, من ابائها وروادها. وكان الجميع يعلنوا ان من غير المستطاع السير للأمام دون التشبث بمقولة "العقد الاجتماعي". وحتى المعادون للثورة كانوا يقرون بهذه المقولة فـ " روسو الذي عرف أعماق القلب الانساني, وضع حكمته ليس في الكتب فقط وانما في الحياة" نفسها". Schopenhauer.
من اقواله المأثورة: "الاقوى ليس دائما على قدر من القوة تبقيه دائما السيد اذا لم يحول قوته الى حق, ويخضعها للواجب ". " لنتفق اذا على ان القوة لا تولد الحقوق, وان لا يمكن الاجبار على الخضوع الا للقوة المشروعة .. لأن لا أحد لديه السلطة الطبيعية بمجموعها, ولان القوة لا تنتج اي حق. يبقى اذا ان الاتفاقات بين الناس هي قاعدة كل سلطة مشروعة بين الناس".
"اذا حاولنا البحث عن مكان كمون سعادة الجميع, التي يجب ان تكون غاية كل نظام تشريعي, نجدها تنحصر في هدفيها الرئيسيين : الحرية والمساواة".
"دون شك ان العدالة المنبثقة عن العقل هي عدالة كلية شاملة. ولكن لتكون هذه العدالة مقبولة منا يجب ان تكون متبادلة. ... يجب ان يكون هناك اتفاقيات وقوانين تجمع الحقوق الى الواجبات وتقود العدالة الى غايتها".
"من غير المشكوك فيه, وهذا الاساس العميق لكل الحقوق السياسية, ان الشعوب اعطت لنفسها رؤساء لحماية حرياتها, وليس لاستعبادها".
التنويريون العرب , ممن اطلق عليهم البعض هذه الصفة فاستعذوبها وصدقوا انفسهم , دون ان يصدقهم أحد (لا أحد ينكر ان في عالمنا العربي من يستحق بجدارة هذه الصفة, رغم كل تعتيم و قهر وملاحقة, وهؤلاء لا نعنيهم وانما نكبرهم ونقدرهم), يصنفون في فئتين متناقضتين, يسلطون "انوارهم" باتجاهين متعاكسين. انوار "علمانية" تخص الحياة الدنيا . واخرى دينيوية متعصبة تخص الحياة الاخرة. والهدف وان اختلفت طبيعته هو التنوير !!!. وسنخصص السطور القادمة للتنورين من الفئة الاول, على ان نعود في مقال قادم للفئة الثانية من تنويرينا.
التنويريون "العلمانيون" هؤلاء لا يجعلون نشر الفكر العلماني بتجرد ومنهجية علمية هدفا اساسيا لهم للمساهمة الفعلية في الحداثة والتطور وبناء المجتمعات بناء عصريا, عن طريق طرح افكار ودراسات جادة ومعمقة, وحوار حر مفتوح. عوضا عن ذلك يسلطون "انوارهم" من زوايا, وان كانت متعددة, لا لتطال الجزء من الواقع الذي لا حاجة لإنارته, لأنه قبل ان يروه هم ويدركوا تفاصيله تعيشه الملايين من شعوبنا منذ عقود وعقود. ولا يحتاج لفائض انارة وانما لطرح بدائل يمكن ان يستحق عليها صاحبها لقب تنويري.
باسم العلمانية يشنون على قيم ومقومات المجتمعات ومعتقداتها, حملات لا علاقة لها بالتنوير والتحديث والتطوير, ولا بالبناء العصري. فالتاريخ على سبيل المثال لا ينظر اليه الكثير الكثير من هؤلاء التنويريين على أنه للدراسة وأخذ العبر والدروس ( الا يتوقف الديمقراطي عند تاريخ الديمقراطية منذ النشأة ويدرس التجارب اليونانية القديمة والرومانية ويمحص ويقارن, ومع ذلك لا يعمل على اعادة بناء الحاضرة اليونانية Cité . كما انه لا يلعنها لأنها لم تعد الياتها تتلاءم مع مستجدات عصرنا). التنويري لا يمكنه ان يكون كذلك ان لم يدرك العلاقة بين الماضي والحاضر ويلمح افاقها المستقبلية .
العلمانية لا تعني تسفيه ما ترسخ في الضمير الجمعي للشعوب وانما بجعل هذا الراسخ قابل لان يستنير بنور العقل ويستوعب حقائق العصر. كما انها عكس ما يرميها به أعداؤها, وعكس ما يدعيه أدعياؤها. في مطالبتها بفصل الدين عن الدولة لا تسعى ولا تهدف لإلغاء الاديان ومحاربتها, والأمثلة كثيرة في اثبات ذلك. فصل الدين عن الدولة في الغرب لم يلغ اي دين من اديانه أو من تلك التي قدمت اليه, ولم يغلق اية كنيسة. ولم ينزل من مقدار اي رجل دين. لم ير أي متدين يعيش في الدولة العلمانية الديمقراطية أي تعارض بين معتقداته وعباداته, وبين مواطنيته التي تقوم على أساس المساواة والتسامح والتضامن بين الجميع, وعلى العدالة العلمانية التي لا تتعارض بوجه من الوجوه مع عدالة السماء, وانما تلتقي معها في سعادة الانسان واحترام كرامته وانسانيته .
غوغائية الطرح, مهما اجتهدت, لا يمكنها ان توصف بالتنويرية. حتى ولو فتحت لها الفضائيات هوائها على الاتجاهات الاربع. وانما العكس تنشر التضليل واسعا بتسطيحها للفكر, وتشويهها للثقافة, واستخفافها بالعقل, وبالقيم التي يمكن ان تكون اللحمة التي تشد ابناء المجتمعات بعضهم الى بعض. وكل ما يتركه ذلك من اثر على مقومات هذه المجتمعات.
حتى اداة الخطاب والتواصل والتفكير والتعبير التي هي اللغة لم تسلم من تنظير بعض هؤلاء التنويريين ليس لا يجاد الوسائل لتطويرها وتحديثها والرقي بها لدرجة استيعاب العصر وعلومه, وانما لتحميلها كل تبعات التخلف العربي الذي انعكس عليها, واعلانها من اللغات الميتة, والقطع معها, واستبدالها بلغة اجنبية. حتى ان احد المتنورين, الذي لم يصل بعد الى درجة تنويري, عرض أمام الملايين تجربته في تحديث هذه اللغة المبهمة التي لا يمكن اتقانها او الحديث بها سليما, الا اذا اصبح الانسان بريطانيا واتقن الانكليزية, وعندها وبعدها وعلى ضوئها يمكنه ان يتقن اللغة العربية. اذا فليكن اتقان اللغات الاجنبية مدخلنا لإتقان لغتنا, اليس في هذا فكر تنويري!!!.
الم يرقى التنويري فولتير باللغة الفرنسية وترقى هي به حتى سميت لغة فولتير, حملها كل أفكاره الفلسفية والسياسية والادبية والشعرية فحملتها واتسعت بفضله وفضل أمثاله لاستيعاب كل متطور وحداثي؟.
هل حاولنا نحن تحميل لغتنا أفكارا فعجزت وناءت بها؟ وان كنا نحن بلا افكار فهل هذا ذنب اللغة؟ وفي غياب المفكرين او تغييبهم ماذا يمكن للغة ان تحمل؟ هل وضعنا بتصرفها وخدمتها وسائل التحديث والطرق العصرية المتطورة لتعلمها وتعليمها فرفضت وعجزت؟.
اليس على التنويري اولا وقبل كل شيء ان ينير داخله؟.
د.هايل نصر

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات