أخرج البخاري رحمه الله، عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن من الشعر حكمة" (1).
ومن مأثور الحكم في الشعر العربي قول من قال:
قالوا فلان في الورى لك شاتم وأنت له دون الخلائق تمدح
قلت ذروه ما بالي بطباعـــــه فكل إناء بالذي فيه ينضــح
إذا الكلب لا يؤذيك إلا نباحـه فذره إلى يوم القيامة ينبـــح
أو من قال:
يخاطبني السفيه بكل قبــــــح فأكره أن أكون له مجيبـــا
يزيد سفاهة فأزيد حلمــــــــا كعود زاده الإحراق طيبـا
ويذكر الشاعر أحمد مطر، بسخريته اللاذعة المعهودة، في إحدى "لافتاته" الرائعة:
رأيت جرذا يخطب اليوم عن النظافة
وينذر الأوساخ بالعقاب
وحوله يصفق الذباب
هكذا هي أحوال بعض الصحفيين ، حين يتكلمون عن الإسلاميين، في بلدنا: يخطبون عن "النظافة" بعد أن غرقوا في "الأوساخ" حتى تحلق حولهم "الذباب"، ويكثرون من "النباح" ويستمرون فيه، ولو "ألقمتهم" مايسكتهم عادة: "حجر" الحقيقة الناصعة!
وأمامي مقالان لصحفي يكثر من السب والشتم للإسلاميين حتى يشتط، ويستميت في الدفاع عن روايات السلطة ضدهم حتى ينهد! فما أعلمه بالسباب والشتم! وما أجرأه على الإسلاميين بأقبح الذم!
صحفينا هذا "ببغاء". اسمع إليه مثلا وهو يتكلم عن "الأسلحة" التي "نجحت المصالح الأمنية في اكتشافها بكل من الناضور والدارالبيضاء" حسب قوله، وهي أسلحة نسبت "لخلية بليرج" المزعومة. يقول: "وقف المغاربة مذهولين من حجم هذا العتاد الحربي الذي كان سيعصف باستقرار المغرب وأمن المواطنين..."(2). ثم راجع كلام من سبقه ممن تكلم عن صور "أسلحة" زعم أنها " صور العتاد الحربي الذي كان يستهدف المغاربة"!!(3).
واسمع كرة أخرى إليه يؤكد "خطورة الخلية وغموض تفاصيلها..." (4). وقارن بما ذكره قبله زميل له في المهنة والصحيفة، والذي يرى أنه، إلى حد كتابة ماكتب، " لم تتضح طبيعة التهم التي اعتمدتها الدولة في اعتقال المتهمين"(5)...
أجل، راجع ذلك وغيره، تجده يقتفي أثر من سبقه حذو الفكرة بالفكرة، بل الجملة بالجملة!
فواعجبا، كيف يخرجون من ظلمة –لامشكاة- واحدة!
أتواصوا به؟
ربما! لكن لاشك أن أحاديثهم –ضد الإسلاميين- مروية بسند متصل إلى إبليس!!
وإبليس هو إبليس، أو هو "مخابراتي" نحيس!
يبدأ صحفينا مقاله الأول: "الحقيقة الغامضة" بالإشارة إلى أن هناك غموضا يلف تفكيك "خلية بلعيرج الإرهابية"، وألغازا "تلقي بظلالها على الملف" (6). وهذا "يفرض كشف كل الحقائق وإطلاع المواطنين عليها واستفادة المصالح الأمنية من بعض الأخطاء..حتى لاتتكرر الأحداث الإرهابية" (7) حسب قوله.
هناك إذن "غموض" و"ألغاز" يحفان بالملف. فكيف يجزم الصحفي إذن بمجموعة أحكام ضد الخلية، من قبيل: "الخلية الإرهابية"، والتصديق بعملية "اكتشاف مخازن الأسلحة"، ووقوف "المغاربة مذهولين من حجم هذا العتاد الحربي" (8)، و"حجزت المصالح ذاتها –أي الأمنية- خلال المرة الأولى تسع بنادق..." (9)؟
فـ"الغموض" في الملف إذن لم ينجل للصحفي فيه إلا مايدين المعتقلين: "إرهابيون" لهم "عتاد حربي" "حجزته" المصالح الأمنية !! و"إنها الحرب إذن بين المغاربة وشرذمة من الإرهابيين"!!(10).
لنلاحظ:
-أولا: منطق التضخيم لدى الرجل: "عتاد حربي" مثلا. فهل هي دبابات؟ طائرات مقاتلة؟ صواريخ عابرة للقارات؟...
-ثانيا: منطق الوثوقية المطلقة: "حجزت المصالح الأمنية"، وكأنه حضر عملية "الحجز" ورأى بأم عينه تلك العملية، دون أن يشير إلى أن خبر "الحجز" سمعه –كما سمعه غيره من الصحفيين- من تلك المصالح، أو من نشرة أخبار دار لبريهي...!
-ثالثا: منطق "النيابة عن الغير" دون توكيل، والمصيبة أن هذا الغير هو "المغاربة"، كل المغاربة . إنه منطق استعماري، يذكر بما سبق أن كتبه كارل ماركس مرة في "البرومير الثامن عشر للويس بونابرت"عن غير الأوربيين، كما ذكر ذلك إدوارد سعيد: "إنهم لايستطيعون تمثيل أنفسهم، ولذلك ينبغي أن يمثلوا" .
بل نجد الصحفي قد أعلن باسم المغاربة "حربا" لم يعلنوها! ولمّح إلى وقوع هذه "الحرب" فعلا وآنا دون أن يكون ذلك صحيحا: "إنها الحرب إذن..." كما قال!
-رابعا: منطق "تخوين الخصوم السياسيين والتهوين من شأنهم" عند الفشل في مواجهتهم بشرف النضال الديمقراطي، وهو منطق الحاكم العربي على مدى الأربعين أو الخمسين سنة الأخيرة، فأفراد الخلية المزعومة عنده مجرد " شرذمة من الإرهابيين"!!
فهل اتخذ هذا الصحفي مسافة من رواية السلطة، منتظرا مايسفر عنه "التحقيق"؟ أليست هذه مساهمة منه في اتهام مواطنين أبرياء لم يكن قد أدانهم آنذاك القضاء، حتى وهو قضاء تابع غير مستقل ؟
لقد لعب بعض الصحفيين، فيما سمي بقضية بليرج بالذات، لعبة قذرة بأداء شهادة زور ضد مجموعة من المواطنين، تبعا لرواية رسمية انكشفت سوأتها خلال المحاكمة الجائرة، مثلما انكشفت سوءات أولئك الصحفيين الذين جدوا واجتهدوا في الترويج لتلك الرواية الرديئة بمقالات سخيفة.
ويرى الصحفي أن من بين أهداف كشف "الغموض" المذكور –في نظره- "استفادة المصالح الأمنية من بعض الأخطاء..."(11). ويسمي تلك الأخطاء –في آخر المقال- "نقط الضعف" و"الهفوات". فما هي تلك الأخطاء؟
هل هي أخطاء ضد المعتقلين، من حيث الالتزام بشروط الاعتقال؟ أم أخطاء مرتبطة بتلفيق التهم؟ أم أخطاء مكنت من يسميهم "الإرهابيين" من "الإفلات" أو من تكرار "الأحداث الإرهابية" على حد قوله؟
لعله يقصد النوع الأخير من الأخطاء، خاصة وأنه يشير إلى "اللامبالاة وعدم الانضباط في العمل" اللذين "يؤديان إلى كوارث" (12) كما يقول.
ومعنى ذلك أن المصالح الأمنية قد تقع في أخطاء في التعامل مع قضايا من يسميهم "الإرهابيين". وهذا أمر أساسي ينبغي أخذه بعين الاعتبار من لدن من يستبطن "قداسة" أو "عصمة" تلك المصالح، كما كان يوحي بذلك بعض الاستئصاليين الوقحين في مقالاتهم وحواراتهم.
كما أن نوع الأخطاء التي تقع فيها تلك المصالح هي مجال خلاف بين "استئصالي" –وقد يكون صحفيا- يراها من النوع المذكور، وبين حقوقي أو غيره يراها جسيمة. غير أن بعض هؤلاء الاستئصاليين أصبحوا أخيرا يذكرون، بعد إطلاق سراح المعتقلين السياسيين الخمسة فيما سمي بقضية بليرج، أن الملف شابته "أخطاء في القضاء"، أو أن "محاضر الأجهزة الأمنية تعرقل شروط المحاكمة العادلة"(13).
وما دام الكلام حول الغموض في خلية بليرج، فالملاحظ أن كل من كتب عن القضية مدينا للمتهمين، لم يتساءل عن سر ذلك الغموض، لافي هذا الملف وحده، بل حتى في ملف آخر يتعلق بتفجيرات 16 ماي الآثمة. ولقد كنا، ومازلنا، ننتظر أن تظهر نتائج التحقيق في ذلك الملف، خاصة بعد تعالي الأصوات المطالبة بذلك عقب افتضاح أمر الداخلية في مصر واتهامها –بعد الثورة الشبابية المباركة- بتفجير إحدى الكنائس هناك، مما ألقى بظلال كثيفة من الشكوك حول الرواية الرسمية لحدث 16 ماي.
أما الأسلحة المدعى حجزها لدى أفراد خلية بليرج المزعومة، فقد ذكرنا في مقال سابق أن إحضارها إلى المحكمة لم يتم وفق الشروط المسطرية، مما جعل ذلك الحجز ملغى.
ولئن كان من المحبذ أن يكون الختام مسكا، فإن ختام مقال الرجل سباب وتجريد من المواطنة، تجريد يبوأ بإثمه رجل لم ير في الإسلاميين سوى "إرهابيين يدينون بالولاء إلى جبال تورابورا أكثر من ولائهم للوطن" (14)!
لقد صار الرجل "سادن وطن" يصدر ويوزع "صكوك الوطنية"! ويحجر وطنا واسعا جعله مسكنا يملك مفاتيحه وحده ويغلق بابه دون غيره!
لكن مهلا، فليس إرسال الاتهامات الباطلة والشتائم الرخيصة جاعلا من مرسلها ذا وطنية صادقة تقدمه على غيره، وإنما غاية مايتدنى إليه المرسل درك "شاتم في الأسواق والحمامات"!!
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا..."(15).
ونقول، اقتداء بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لنا في مغربنا".
وللإمام الذهبي رحمه الله كلام قيم يعدد فيه ما يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ يقول:"كان يحب عائشة، ويحب أباها، ويحب أسامة، ويحب سبطيه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أحد، ويحب وطنه" (16).
إن حب الوطن اتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لايحب وطنه لايستن بتلك السنة. وحب الإسلاميين لوطنهم عبادة، ودفاعهم عنه جهاد يؤجرون عليه. وبما أنهم يدعون إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله، فدعوتهم لحب الوطن لايمكن التشكيك فيها، إلا إذا نجح التشكيك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهيهات! وغير الإسلاميين يرفضون تلك الدعوة إلى الكتاب والسنة. لذلك فهم –إذا أحبوا الوطن- فليس للتعبد مكان فيه.
فبمن يقتدي هذا الصحفي في حب الوطن؟
____________
1-أخرجه في الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، حديث 6145.
2-خالد العطاوي، مقال "الحقيقة الغامضة"، جريدة الصباح، عدد 2453، بتاريخ 28 فبراير 2008.
3-من مقال "المصداقية" لخالد الحري، وقد سبق ذكره في مقال سابق.
4- خالد العطاوي، مقال "الحقيقة الغامضة" السابق.
5- من مقال "المصداقية" لخالد الحري السابق ذكره.
6-خالد العطاوي، مقال "الحقيقة الغامضة" السابق ذكره.
7و8و9و10و11و12-نفسه.
13-مقال خالد الحري "مصالحة"، جريدة الصباح، عدد 3425، وقد سبق ذكره من قبل.
14- مقال "الحقيقة الغامضة" المذكور.
15-أخرجه مسلم في الحج، باب فضل المدينة، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، حديث 1373.
16-سير أعلام النبلاء ، ص 2 / 204 ـ205.
(يتبع)
التعليقات (0)