بدأت هلاهيل الدور التركي المنتظر في منطقة الشرق الأوسط مع العدوان الاسرائيلي على غزة، وبحسب الرغبة الأميركية القديمة التي تعود لعام 2006 في حرب تموز الاسرائيلية على لبنان، هو تصدير الأنموذج السياسي التركي المعتدل إلى دول المنطقة، من دون أن يبدو ذلك وكأنه مفروض من قبل قوى خارجية أو دول تعادي الإسلام. ولن يتأتى ذلك من دون دور تركي متوازن مع دول شرق الأوسط، مع الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع إيران والمجموعات الشيعية العربية القوية. ولعل مشاركة الجيش التركي في قوات الأمم المتحدة "اليونيفيل" في جنوب لبنان بعد العدوان الصهيوني المدمر، فتحا جديدا لتركيا في المنطقة العربية، نظرا لأبعاد هذه الخطوة واستهدافاتها، بعد أن أخفقت في السابق لتأدية أي دور أساسي في المنطقة العربية.
هناك في الشرق الأوسط ثلاث دول ذات كثافة سكانية كبيرة. موطن الخطر يكمن في أن هذه الزيادة تزداد عشوائيا في مصر وتركيا وإيران (77 مليون انسان في كل منها) بمعدل ثلاثة ملايين إنسان مصري وتركي وإيراني كل سنة، من دون أن ترتبط كثافة البشر بكثافة الانتاج. مع ذلك، فهذا التزايد السكاني العشوائي يضمن للدول الثلاث نفوذا اقليميا متداخلا، بحيث نشهد اليوم بوادر صراع سياسي بينها. الوجه الإيجابي للسياسة والديبلوماسية هو في قدرة الدول الثلاث على ممارسة حوار سلمي بين معسكراتها التي تضم كواكب أصغر في المنطقة.
في نهاية القرن الماضي، كانت الدول الثلاث تعرف حدود نفوذها. لكن عودة إيران الى تصدير سلعها الدينية والبشرية الى عرب المشرق والخليج يهدد بتحول الصراع السلمي الى صراع يستهلك السلع البشرية (حرب العراق وإيران مثالا). أعتقد أن الفضل في المحافظة على سلمية الحوار مع إيران يعود الى دولتين: تركيا والسعودية، فهو لا يمنع الاختلاف والخلاف مع إيران. فالدور التركي في هذا الحوار يلقى تشجيعا ورضى من العرب. لهذا فإن استدارة تركيا من الشمال الأوروبي إلى الجنوب الآسيوي يعتبر عامل جديد في حيوية الحوار وحرارة الصراع مع إيران.
تركيا بالمنطقة .. البعد المذهبي
طرح عام 2006 وبعد العدوان تساؤل شرعي: لماذا الآن هذه الحماسة التركية من خلال اهتمامها بأزمات العالم العربي؟ وماذا عن علاقاتها مع العدو الإسرائيلي، وكيف تبررها أمام الشعوب العربية؟ ولماذا الإخفاقات السابقة، والفشل في لعب دور ما فاعل في حل قضايا المنطقة؟، وأخيرا، هل يعتبر الجنوب اللبناني "الشيعي" بوابة التدخل الرسمي التركي "السني"؟
وللتاريخ، كان لتركيا الدور التاريخي الحاسم في حصار "الإسلام الشيعي"، وإن اتخذ هذا الدور بعداً قومياً بحتاً، حيث حالت ـ حينما كانت تمثل بالإمبراطورية العثمانية ـ دون تمدد الإمبراطورية الصفوية الشيعية في إيران، واتساع نفوذها الإقليمي.. وقد منعت تركيا بالذات هذه الإمبراطورية من السيطرة على العراق، وظل النزاع بينهما حول هذا البلد العربي الذي يقع على الحدود بين الإمبراطوريتين الكبيرتين، في ذلك الوقت وهو نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
قد تكون إيران بما تمثله من إرث "شيعي"، وتدخل في شؤون بعض البلاد العربية التي بها مجموعات شيعية (أغلبية أو أقلية)، بوابة تركيا غير العربية للتسلل إلى الشرق الأوسط.
والتحالفات العسكرية القائمة الآن، سواء بين إيران والعراق، وسوريا، وحزب الله، أو التحالف التركي الإسرائيلي، لن يخدم المصالح العربية على المدى البعيد، مما قد يحرك براكين الشرق الأوسط لتنفجر مرة أخرى في وجه العرب وغيرهم سواء.. إذ إن الاتفاقيات العسكرية التركية الإسرائيلية الموقعة، الهدف منها السيطرة على المنطقة من جانب إسرائيل، وعلى أقل تقدير من جانب تركيا، إحياء الحلم الإمبراطوري العثماني من جديد، ووضع موطئ قدم على أنهار من البترول والثروات!
فالدور الحواري التركي العاقل والمتزن يتجنب، إلى الآن، تجديد الاشتباك المسلح الذي طبع تاريخ العلاقة المؤسفة بين المذهبين السني والشيعي منذ القرون الوسطى.. فالمصالح الثنائية الاقتصادية تفرض الحوار، في حين أن المصالح السياسية تفرض الصدام. ولهذا لم تستطع إيران معرفة أين تبدأ وتنتهي حدود الحرية في مد النفوذ.
وتبدو تركيا في يقظتها الشرقية حامية للأغلبية السنية في المشرق العربي، وعلى ما يبدو أيضاً فإن سياسة التعقل والاتزان التي ينهجها النظام التركي المتأسلم تشجع العرب، بعد رفض طويل، على درء الخطر الأقرب (الإيراني) بالخطر الأبعد (التركي). وباعتقادي أن العرب يستبعدون يقظة الذاكرة الاستعمارية التركية المغلفة ببرقع ديني... حتى سورية التي كانت أكثر معاناة من تركيا العثمانية، بحكم حدود الجغرافيا السياسية، تقبل اليوم بدور سمسار السلام التركي بينها وبين اسرائيل، بانتظار سمسار أميركي جديد.
ولكن، لماذا تركيا وليست مصر؟! ربما لأن مصر، بحكم عروبتها، غير مقبولة لدى أميركا واسرائيل كوسيط سلام، في مشرق تريد اسرائيل أن تهيمن عليه سياسياً واقتصادياً في المستقبل. والمضحك أن إسرائيل الداخلة في صلح بارد وتطبيع فاتر مع مصر هي التي تروج أكذوبة فقدان مصر نهائياً نفوذها العربي!
فشل "الانتساب" .. وجفاء للعرب
تركيا دولة إقليمية مجاورة لبعض الدول العربية، تتمتع بموقع جغرافي إستراتيجي في السياسة الدولية تحسد عليه، فهي نقطة الوصل بين أوروبا "الغربية" والمشرق "الإسلامي"، هذا أضفى عليها حضوراً وقدرة على التأثير في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً وأن تركيا تحتل المرتبة 34 في العالم من حيث المساحة، والمرتبة 19 في العالم من حيث عدد السكان، وتتمتع بقوة عسكرية ضخمة، وعضوية الحلف الأطلسي، مع اقتصاد قوي، واستقرار سياسي مقبول.
غياب تركيا عن المنطقة دام عقوداً من الزمن، اكتفت خلالها أنقرة بمد ظهرها للأمة العربية من أجل الهدف الأكبر، الالتحاق بركب أوروبا، التزاما منها بمبادئ كمال أتاتورك التغريبية.. ويتجسد عنصر الاستمرار في السياسية التركية عبر التزامها عموما في علاقتها مع المنطقة بعدد من الثوابت، والتي يصعب تجاوزها دون المساس بمصالح أساسية للدولة التركية.
ويجب الإقرار بأن العلاقات العربية التركية كانت دوما ضعيفة في مجملها، فقد اتسم الدور التركي بوجه عام بعدم القدرة على فرض إرادته أو المشاركة في صنع القرارات الخاصة بالمنطقة، وهي القرارات التي قد تثير إشكالات عديدة لتركيا، حيث لم تلق محاولاتها الرامية إلى الخروج من هذا الوضع خلال العقود المنصرمة أي تجاوب مباشر مع الدول المجاورة. ورغم بعض الانفتاح الذي شهدته في السنوات الأخيرة، خاصة مع سوريا والعراق، لا يكاد العرب يستفيدون شيئاً من قوة تركيا المتصاعدة في النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية على مسرح السياسة الدولية الإقليمية.
ففي المجال الاقتصادي مثلا، لا توجد حتى الآن مصارف أو بنوك أو مؤسسات تجارية مشتركة تركية عربية تعمل في تركيا أو في أي بلد عربي، وأن التوقيع على المشاريع والعقود نادرة، مقارنة ما تم توقيعه مثلا بين مصر وإسرائيل، إلى جانب تدني حجم التبادلات التجارية بين تركيا وأغلب البلدان العربية الأخرى، بالرغم من توافر جميع العوامل التي تدفع إلى تنشيط الحركة التجارية والاقتصادية بين الجانبين. ومن الناحية السياسية، لا مشاورات عربية تركية بشأن القضايا الملحة في العالم العربي وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ما عدا المبادرة من تركيا خلال السنوات الأربع الأخيرة بخصوص الأوضاع المتأزمة في العراق، ووجود عناصر حزب العمال الكردستاني التركي المعارض في المنطقة الشمالية الكردية، لكن بضوء أخضر من الولايات المتحدة الأميركية.
وتحتفظ تركيا بعلاقات جيدة مع معظم دول المنطقة خاصة تلك التي تجمع بينها صراعات تتطلب من تركيا القيام بدور الوساطة فيما بينها مثل العرب وإسرائيل، خاصة الجانب الفلسطيني المتمثل في حركة حماس. وقد بدأ هذا الدور التركي في أكثر من أزمة شهدتها منطقة الشرق الأوسط، آخرها المجزرة الإسرائيلية الأخيرة ضد سكان قطاع غزة. وهذا الأمر يعنى أن الطرف العربي أصبح يقبل بالدور التركي، وهو الذي بدأ من الزيارة التي قام بها وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط لأنقرة في بداية الأزمة، وأن الطرف الإسرائيلي يقبل هو الآخر بنفس الدور، فضلا عن أن الأطراف الدولية ممثلة في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية تقبل هي الأخرى به.
ولا شك أن كل طرف من الأطراف ذات الصلة بتفاعلات المنطقة له وجهة نظر فيما يتعلق بالدور التركي، فمن جهة فإن إسرائيل تريد النظام الإقليمي الحالي هو الذي يحكم تفاعلات المنطقة وهو النظام الإقليمي العربي الذي يتكون فقط من الدول العربية، أما الولايات المتحدة فهي تسعى ومنذ عقود إلى إحلال نظام شرق أوسطى محل هذا النظام العربي، أما الطرف العربي فهو يستعين بتركيا في أوقات الأزمات لمواجهة عجز النظام العربي. أما تركيا نفسها فهي تسعى لان تكون الدولة الإقليمية المركزية في النظام الإقليمي الجديد الذي تتشكل ملامحه في الوقت الراهن، وهي تريد من خلال هذا الدور الاقتراب من حلمها التاريخي الذي يتمثل في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهى تقدم نفسها للطرف الأوروبي باعتبارها يمكن أن تكون هي جسر التواصل بينها وبين العالم الإسلامي.
وهو الأمر الذي يختبره الاتحاد الاوروبي حاليا، حيث انه لم يقبل عضويتها ولم يرفضها ويجري معها حوارا حول قضايا اقتصادية وحقوقية وثقافية لكنه في نفس الوقت يختبر دورها الذي يمكن أن تقوم به لصالح الاتحاد في المراحل المقبلة. ومن المهم الإشارة إلى أن الدور التركي وإن كان يحظى على الدوام بدعم رسمي من دول لها مصالح في منطقة الشرق الأوسط أو من بعض دول المنطقة، فإن الجديد الآن هو أن مثل هذا الدور أصبح يحظى بشرعية شعبية بسبب الموقف التركي المتشدد إزاء العدوان الإسرائيلي الوحشي الجاري حالياً ضد سكان غزة.
فراغ عربي .. وانتهاز تركي
لعل مشهد الطموح التركي يبدو أكثر تجلياً إذا ما استرجعنا بعض أهداف حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم منذ عام 2002، والذي تبنى فكرة الالتفات نحو المحيط والعمق العربي والإسلامي، من دون أن يضر ذلك بموطأ قدم له في الاتحاد الأوروبي، استنادا إلى جغرافية المكان. ووفقا لذلك تحاول تركيا تبني مهمة التجسير بين العرب والغرب لأنها الأقدر، كما ذكرنا سابقاً، على التقريب بين الطرفين. إلا أن التوصيف الأكثر دقة لما تقوم به أنقرة هو محاولة التصالح مع الذات وإعادة الحضور، بعدما غابت عن المنطقة طويلا. ولم يتبق من أثرها سوى الخط الحديدي الحجازي الممتد من سورية حتى المملكة العربية السعودية مرورا بالأردن.
الأغلبية يتملكهم الرضا عن هذا الدور التركي اللافت في المنطقة. فتركيا اليوم حاضرة في الوجدان العربي بمواقفها الجريئة، وحماس تثق بالجانب التركي على نحو مفرط. لكن أنقرة كانت على الدوام ذات علاقة مباشرة وواضحة ومعلنة مع إسرائيل وهو ما منحها صفة إضافية تتيح لها التحرك على كل الأصعدة. خلافا لكل هذا التحرك التركي النشط، فسر التحول الغريب في الموقف المصري تجاه الأزمة في رغبة مصرية لتعطيل الدور التركي وإفشاله والتشكيك فيه. في الوقت الذي كان من المفترض أن يساند الموقف العربي الموقف التركي، لا أن يعطله وكان المطلوب أن تحسن الحكومات العربية التعاون مع تركيا، تأسيسا لتعاون استراتيجي.
فالأتراك يتمتعون بشعور قومي عال وينظرون الى منطقتنا العربية بمنظار التراث القديم، هذا التراث يبدو مستفزا للكثيرين في العالم العربي والسبب أن تاريخ الدولة العثمانية، لم يقرأ بشكل إيجابي في البلاد العربية. وحصلت فيه مغالطات تاريخية كثيرة. لكن كل ذلك لا يمنع أن يصبح التقارب العربي التركي ضرورة استراتيجية.
السؤال الملح في محاولة استحضار تجربة حزب العدالة والتنمية هو لماذا لم تتغير السياسة الخارجية التركية بالنسبة للعلاقة مع اسرائيل رغم وصول حزب إسلامي الى السلطة؟ والحقيقة أن حزب العدالة والتنمية ليس حزباً إسلامياً خالصاً، وإنما هو خليط من ثلاثة تيارات سياسية غير متجانسة، يتزعمها التيار الإسلامي المنشق عن حركة أربكان، إلى جانب الحركة القومية ومجموعة من العلمانيين الليبراليين. ووفق هذه المعطيات تبدو تركيا اليوم القوة الإقليمية الوحيدة القادرة على القيام بدور ما لوقف جريمة غزة وربما سحب البساط من تحت لاعبين آخرين التجأت إليهم حماس عندما رفضها الحضن العربي وعزلها. ولهذا فإن الدور التركي المتصاعد ربما يخلق مقاربات وتداعيات واصطفافات واستقطابات جديدة في المنطقة. أقلها سحب البساط من تحت دمشق وطهران، وتفريغ دور مصر الاقليمي والعربي من محتواه، وتعرية محور دور الاعتدال العربي، فضلا عن احراج محور الممانعة.
سالم أيوب
التعليقات (0)