حكاية غريبة قد لا يصدقها الكثيرون لكنها وقعت فعلا، والعهدة على الراوي.
يحكي أحد المواطنين أنه رفع مظلمته وطرق أبواب جميع المؤسسات ذات الصلة والاختصاص، اتصل بالعديد من المسؤولين الكبار وأعالي القوم، المدنيين والعسكريين، ضمنهم النيابة العامة وقضاة التحقيق ووزارة العدل وديوان المظالم ومختلف المنظمات الحقوقية، لكن دون جدوى، لكن إحدى الجهات الوازنة كلّفت نفسها عناء الإجابة على كتاب المواطن المكلوم، خلافا للعادة القارة عندنا، ومما جاء في رد هذا المسؤول، جملة تختزل واقع المغرب، وتكشف حقيقة الأمور كما هي دون "ماكياج".. جاء في الجواب ما يلي:
"[..] إن الديمقراطية المغربية ما زالت لا تسمح بمحاكمة كبار المسؤولين".
إذن لا داعي للمزيد.. جفت الأقلام ورفعت الألواح.. لكن لنتأمل مليا في أمر هذه "الديمقراطية المغربية" وفي بعض خصوصياتها ومميزاتها.
على صعيد العدالة تتميز "الديمقراطية المغربية" بخاصية تبعية النيابة العامة لوزارة العدل، وعدم تمتيعها بالاستقلال تجاه سلطات الدولة. كما أن منظومتنا القضائية بأكملها، في ظل "الديمقراطية المغربية" محكوم عليها أن تظل رهينة بالسلطة التنفيذية سياسيا ومؤسساتيا، وإن كان هناك قضاة مستقلون ونزيهون. كما أن من الخصوصيات الجوهوية لـ "الديمقراطية المغربية"، الإصرار الفولاذي على تكريس وترسيخ الإفلات من العقاب، والأمثلة في هذا المضمار لا تعد ولا تحصى في مختلف المجالات وعلى جميع المستويات.. حدث ولا حرج، فبقدر ما يمكن ظلم "المزلوط"، بسهولة وبجرة قلم وتضييع حقوقه، بقدر ما يمكن أن يفلت أعالي القوم والمسؤولون الكبار من العقاب.
وهذا أمر واقع، يعاينه المرء رغم استمرار الحديث عن التغيير والانتقال الديمقراطي على امتداد العشرية الأولى من العهد الجديد. لقد اتضحت الأمور الآن بجلاء، بفعل الانتكاسات التي عرفتها عدة قطاعات، وعلى رأسها مجالات حرية التعبير والرأي والحق في الاحتجاج رغم أنه مازال يقال "في بلادك يمكنك أن تقول ما تريد"، لكن هناك "ضمير مستتر مقدّر (حسب لغة النحويين) في كنه هذه المقولة مدلوله :"إن سمحوا لك بذلك".
حاليا، وأكثر من أي وقت مضى، يتضح أن لا تغيير دون ثقافة التغيير، وكيف لمثل هذه الثقافة أن ترى النور وتحيا وتترعرع في ظل "الديمقراطية المغربية"، في وقت استقالت النخبة من مهامها، خصوصا في ظرف أضحى الجميع يلهث وراء خبزه اليومي بعد أن انهارت كل أحلام الأمس القريب وتقزمت الآمال والرؤى وانهارت الطموحات بفعل الإحباطات التي عصفت بجميع الانتظارات، حتى أبسطها، ولعل ذلك من خصوصيات "الديمقراطية المغربية".
لا زال البعض يتساءل، من المسؤول عما حدث ويحدث؟ ومن الذي قادنا إلى الباب المسدود؟ ومن ضيع الأحلام ودفعنا إلى هذا السقوط بعد عقد من الآمال؟
قال البعض، الإشكالية مرتبطة أساسا بالثقافة، لأن هناك ثقافة النهوض، وثقافة الانبطاح و"تبدال الكبوط"، وثقافة "قبول الترحيب بقبلة الموت"، كما أن هناك ثقافة منسجمة مع واقعها ومكوناتها، مرتبطة بمحيطها وبيئتها ومستجيبة لمتطلبات المرحلة، وهناك أيضا ثقافة "مغشوشة".
واعتبارا لما أصبحنا نعاينه من مفارقات وتنافر ظاهر وصارخ بين الشعارات الرنانة والواقع المعيش، ربما قد تكون ثقافتنا ثقافة "مغشوشة"، وهذه الثقافة بالذات هي المسؤولة بالدرجة الأولى عما نحن عليه في ظل "الديمقراطية المغربية" من سقوط وانهيار.
في حين، يقول البعض الآخر، "يا ريت لو كانت ثقافتنا "مغشوشة" فحسب، وإنما أضحت الآن ثقافة "مفخخة" إذ أنها تدفعنا من حيث لا ندري إلى تكريس الواقع المرّ في خضم حديثنا عن التغيير وضرورته. وبالتالي لا غرابة لسيادة الاكتفاء بما هو كائن وما يُراد لنا أن نكونه، ما دام وزر التغيير الفعلي يقع أولا على الثقافة التي عليها أن تنتج خطابا له القدرة على التواصل والتضامن والمناصرة بين الفئات ويخترق الحواجز التي أقامتها الثقافة "المغشوشة" التي "تطورت" لتصبح ثقافة "مفخخة"، تسعى جاهدة لزرع "خطوط حمراء" من نوع جديد في دماغ كل مغربي، حتى يصير مجبولا على عدم تجاوز الحدود التي رسمتها "الديمقراطية المغربية" وما أكثرها.
وذلك ما يدفعنا حاليا إلى الإقرار ببعد مآل حلم التغيير الذي طال انتظاره منذ سنة 1956، حين تم التلاعب بمآل المغاربة في "إيكس ليبان" بفعل تواطؤ الطابور الخامس، مادامت الثقافة "المغشوشة" و"المفخخة" لا يمكن أن تخدم التغيير وتُهَيّءَ شروط تحقيقه واستمراره، في وقت استقالت النخبة من مهامها وفضّلت المغادرة الطوعية من الركح السياسي قبل الأوان.
هذه هي "ديمقراطيتنا" والحمد لله، ويبدو أن علينا الاكتفاء حاليا بنية الديمقراطية الحقة، فالنية أبلغ من العمل، لهم ديمقراطيتهم ولنا الديمقراطية المتعارف عليها.
إدريس ولد القابلة
التعليقات (0)