إذا كانت ظاهرة التسول قد أضحت تؤرق بلادنا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، وتوقظ الغيرة لدى من تبقى من الغيورين عندنا، فإن الأمر قد تجاوز كونه ظاهرة فحسب، إذ لا تكاد تخرج من مسجد أو تجلس في باحة مقهى و تلج سوقا أو قسارية أو مجرد دكان أو تدخل إلى إدارة عمومية أو خاصة أو تخرج من مصحة أو مستشفى إلا ويداهمك متسولون وشحاذون، ذكورا وإناثا، من مختلف الأعمار والأصناف، ويطاردك السائلون والمحتاجون، ولا عجب في هذا، مادام الفقر ضاربا أطنابه بين ظهرانينا منذ أمد بعيد بفعل الاختيارات الكبرى التي اعتمدها أشخاص بمحض إدراتهم وكيفما اتفق عوض أن يختارها من يهمهم الأمر بالدرجة الأولى، قبل هذا وذاك، أي أغلبية الشعب الذي لم يسبق له خلال تاريخه الطويل أن قرر مصيره بخصوص النظام الاقتصادي الذي يلائمه ويرتاح له، وإنما المعضلة الكبرى والطامة العظمى هي أننا أصبحنا لا نعيش التسول، كظاهرة اجتماعية بالمغرب، وإنما تجاوزناه لنحيا التسول كآلية من آليات "الحكامة" وتدبير أمور الحكم، إنه أضحى منظومة فريدة من نوعها، ويحق نعتها بـ "التسولقراطية" على غرار الديمقراطية أو الارستقراطية، وهذا واقع لن يستقيم والديمقراطية وكذا حقوق الإنسان ولا مبادئ المواطنة الحقة ولا حتى روح دولة الحق والقانون.
ويبدو أن بلادنا في مرحلة ضائقتها المالية الحالية استندت هي أيضا على "التسولقراطية".
التسول عندنا، لم يعد مجرد حالة عابرة ، وإنما أضحى "مؤسسة" ومنظومة قائمة بذاتها. فمازال "مد اليد" عندنا أصبح نهجا وآلية من آليات الحفاظ على موقع اجتماعي أو مجتمعي، وأساس من أسس "الحكامة" بالمغرب، "مد اليد" من أجل تسول امتيازات أو موقع أو نصب أو احتكار... فكل أنواع الامتيازات القائمة عندنا توحي أن التسول أصبح آلية من آليات تدبير السلطة ببلادنا، فحتى المجال الثقافي والإعلامي والفني والإبداعي، أي ما يسمى بالوجه الحضاري اخترقه منطق التسول كآلية للتدبير، وكل أنواع الدعم التي تتخذ أشكال هبة أو امتياز أو صدقة تدخل في نطاق آليات "التسولقراطية"، من دعم للصحافة وتدبير أمر الإشهار ودعم الأفلام والمسرحيات ودعم بعض الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، هي في مختلف تنوعاتها، في آخر المطاف، نوع من أنواع "التسول" كآلية و"منهج" للتدبير، بل أكثر من هذا وذاك، يرى البعض في المساعدات التي تتوصل بها بلادنا من بعض الأجانب، أشخاصا ودولا وحكومات، نوعا من أنواع التسول، كمنظومة قائمة الذات ونهج استراتيجي
وهذا أمر لم تعرفه البلاد ولا العباد، في مغرب الخمسينات والستينات، إذ كان آباؤنا وأجدادنا يتميزون بعزة نفس لا تقهر و"أنفة" الأسود، حيث كانوا يوصوننا على الدوام بالتعليم والتعلم (علما أنه آنذاك كانت المنظومة التعليمية ومؤسساتها تقوم بالدور الموكول لها في الدمج الاجتماعي) لعدم اللجوء إلى مد اليد والتسول، لكن حاليا يبدو أن الكثير من الأمور عندنا أضحت مرتكزة على "التسولقراطية" ولا شك البتة في أنها أدهى وأخطر من ظاهرة التسول، لأنها أضحت بمثابة نهج "حكامة" تدبير ، وباتت لها آليات فاعلة تعمل على ترسيخ نمط خاص لتوزيع الخيرات والدخل وللتأثير والضغط على دوائر صناعة القرار، وهي آليات تكرس استمرار وجود مغربين اثنين وليس مغربا واحدا:" المغرب الجزيرة" (مغرب الأقلية والغنى الفاحش) من جهة، ومن جهة أخرى "مغرب المحيط"، (مغرب الفقر والبطالة والتهميش والسعي للهجرة السرية والإحباط وانسداد الأفق).
والحديث هنا، ليس عن التسول، وإنما عن "التسولقراطية" لأن هناك علاقة وثيقة واضحة بين الأنماط السائدة في تصريف دواليب صناعة القرار والتدبير، والإقرار بمفاهيم "ولي النعمة" و"الامتيازات" و"الهبة" و"نيل الرضا" و"لعق الأحذية" وكذلك أحيانا، مفهوم "جوع كلبك يتبعك" و (الاستعمال هنا يخص معنى النهج التدبيري وليس المعنى القدحي).
من مظاهر "التسولقراطية" الاقتصاد الريعي، أي تحصيل أرباح وأموال ودخل، إما ارتكازا على امتياز أو على أداة من أدوات الفساد، وهذا في آخر المطاف انتقاص من الرأسمال الوطني وليس زيادة فيه، وهو بذلك يخلق خللا في آليات التنافس وتطوير الثروة الوطنية.
لـ "التسولقراطية"، جذور، ألم تكن أجور الجنود تؤدى عن طريق إقطاعات أرضية سلبت أصلا من أصحابها، وهي ما تسمى الآن بأراضي "الجيش"؟ والأمر استمر على نمط صور أخرى، أراضي سلبها الاستعمار من أصحابها منحت للجنرالات وشخصيات وازنة، كما أن هناك الكثير من الموظفين والمستخدمين تؤدي لهم الدولة رواتب زهيدة لا تكفيهم لسد حاجيات الحياة الضرورية، لكن يُترك لهم المواطن لابتزازه ويصنعون به ما يحلو لهم، لاستكمال "أجورهم" حسب ما يرونه مناسبا، وذلك باعتماد مختلف أنواع الرشوة.
فكلما تطرق المرء لإشكالية وإلا أثيرت أخرى أكبر منها، لأن مغربنا أضحى كـ "لقرع فين ما ضربتيه تايسيل دمو"، وبقليل من الفطنة وإعمال العقل، يمكن للمرء أن يلمس بأن "التسولقراطية" هي أحد الركائز التي أدت إلى أن يصبح الفقر عندنا "فقرقراطية" والذل "ذلقراطية" والتهميش "تهميشقراطدية" والممارسات المافيوزية "مافيوزوقراطية"، والفئات المعتمدة على الرشوة وآلياتها "بروشوازية" وهلم جرا...
التعليقات (0)