"إن الأفكار التي تخان تنتقم لذاتها حتى من أصحابها"

إلى الصديقين أنور مالك ويحي أبو زكرياء

السبب هو الاحتقلال

حين تتابع الصحف الجزائرية وبعض المقالات لصحفيين مغاربة، وكنت جاهلا بأصول العلاقات القوية والأواصر المتينة التي تربط ما بين الجزائريين والمغاربة، لخرجت بانطباع أن هناك عداوة مقيتة بين البلدين راقدة في بطون الكتب الصفراء تتكشف في وسائل الإعلام المختلفة منذرة بحروب طاحنة آجلا أم عاجلا.

والحقيقة أن هذه المقالات ما هي إلا فقاعات كلامية محكومة بحسابات سياسية ضيقة كانت إفرازا طبيعيا لدولة ما بعد الاستقلال سواء في المغرب أو الجزائر على حد سواء.

بعد حرب التحرير الشعبية التي قادها المجاهدون ضد الاحتلال الفرنسي والتي دامت ست سنوات عاد قادتها المنفيون وحاولوا تشكيل حكومة وطنية، إلا أنهم سرعان ما انقسموا مع الأسف، وقاد الصراع بين المجموعات التي تشكلت أحيانا الى الاقتتال : مجموعة تلمسان مع بن بلة وخيضر وفرحات عباس، ثم مجموعة تيزي اوزو مع بوضياف وكريم بلقاسم وآيت أحمد، وقد تم اغتيال الكثير من أهم القادة، ولكن مع ذلك تم تشكيل حكومة سيرأسها بن بلة، وسيتم انتخاب مجلس تأسيسي ينتمي كل أعضائه بدون استثناء الى جبهة التحرير الوطنية، وسيصاغ دستور على شاكلة النظام الرئاسي.

بالمغرب كذلك وقعت نفس الإحداث تقريبا،فبعد حصول المغرب على استقلاله وقعت أحداث مابين المقاومين وجيش التحرير، وحدثت تصفيات لرجال المقاومة من لدن حزب الاستقلال الذي كان يطمح للهيمنة على الحكم، مما جعل نظام الحسن متوجسا على نظام حكمه فعمد الى تفريخ أحزاب موالية للنظام الملكي كانت الى وقت قريب تسمى بأحزاب الإدارة، هذه التعددية الحزبية لم تكن ترجمة طبيعية لمشاريع مجتمعية وبرامج سياسية، بل كانت وظيفيتها هي تطويع الأحزاب اليسارية التي ظهرت على هامش الحركة الوطنية المغربية، واستمر التجاذبات السياسية وتمت تصفية جيش التحرير وتحويله الى جيش رسمي يتحكم فيه القصر الملكي، وتم خلق دستور ممنوح يعطي صلاحيات كبيرة للملك ولا يترك فسحة أو فرصة للتغيير من خارج المؤسسة الملكية ووزارات السيادة ومؤسسة الجيش/ العلبة السوداء في الأدبيات الصحفية بالمغرب.

وإذا كانت الجزائر استطاعت تأسيس مجلس تأسيسي تهيمن عليه جبهة التحرير الوطنية عهد إليه تأسيس دستور "وطني" فإن الجزائر اختارت نظام الحزب الوحيد الذي أبعد الشعب عن اختيار ممثليه، وضع لا زال مستمرا الى حدود الآن، أما المغرب لم يستطع أن يؤسس هذا المجلس بعد الموت المفاجئ للملك محمد الخامس، وظل هذا الأمر مطلبا لبعض القوى التي كانت تعارض نظام الحسن الثاني، الى أن جاء حدث المسيرة الخضراء الذي استطاع الحسن الثاني أن "يؤسس" إجماعا حول الوحدة الترابية، مع إمساك القبضة على نظام الحكم سيما بعد الانقلابين الفاشلين، ما يعني أن الشعبين الجزائري والمغربي يعيشان تحت سقف سياسي واحد..لا مشاحة في الأسماء سواء كان النظام ملكيا أم جمهوريا. أو قل نظام جملكي ( من الجملكيات العربية من المحيط الى المحيط) بتعبير د. سعد الدين إبراهيم!!

لقد مرت مياه عكرة من تحت جسور الاستقلال المنقوص الذي حصل عليه البلدان في المغرب والجزائر، أو ما سماه البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي بـ " الاحتقلال" وهي كلمة مركبة تركيبا مزجيا بين كلمتي الاستقلال والاحتلال، فوقعت حرب الرمال عام 1963 ، التي عمقت الفجوة بين النظامين المغربي والجزائري على عهدي أحمد بن بلة والحسن الثاني،وجاء حدث المسيرة الخضراء الذي شارك فيه 350 ألف من المواطنين المغاربة، فكان رد فعل الجزائر على عهد الهواري بومدين (إبراهيم بوخروبة) بطرد 350 ألف مواطن مغربي من الجزائر وتجريدهم من كل ممتلكاتهم وقطع صلات الرحم بين الأهل والأحباب، ثم تلاه حدث أطلس إيسني عام 1994 وإغلاق الحدود بشكل تام بين البلدين الى الآن، فكان المتضرر الأول من هذي الأحداث الانفرادية، في غياب نظام ديمقراطي يرجع الى الشعب في مثل هذه القرارات، هو الشعبان الشقيقان المغربي والجزائري !!

ورحم الله جبران خليل جبران حين قال ذات يوم : حين تتصارع الفيلة يداس النمل !!

النتيجة هي "جوج بغال"

للتذكير فـ "حوج بغال" هو الحاجز الحدودي الذي يفصل المغرب بالجزائر، والحقيقة الواضحة بل الفاضحة، أن هذا الفاصل الحدودي ليس فيصلا بين قبيلتي "الهوتو" و "التوتسي" بل هو حاجز يفصل بين أواصر القرابة وصلات الرحم، بين الإخوة في اللغة والعقيدة والماضي والحاضر المشترك على جميع النواحي والصعد، بين المرء وزوجه، بين الأسر والعائلات هنا في المغرب وهناك في الجزائر.

هذي هي الحقيقة... وسأوضح كلامي بنقطتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان :

1 – عام 1999 كنت في الصحراء، وحدثني الكثير من الزملاء والأصدقاء عما فعلته عصابات البوليزاريو حينما هاجمت أناس من دواوير وقبائل لا ناقة لهم ولا جمل في الصراع المفتعل،وسجنت بعضهم وعذبت نساءهم وشتت أطفالهم، قصص وحكايات حكاها لي كذلك رجال ونسوة من ضحايا الهجوم الإرهابي بألم بالغ لا ذنب لهم سوى الانتقام من أناس مسالمين، منهم من ينتمي لقبيلة بعض أفراد العصابة، حين كنت أسمع هذه الحكايات الأليمة، تذكرت أيضا أناسا تعذبوا وقتلوا بالمغرب بجريرة بعض المجرمين وأفعال متهورة طائشة، تذكرت عائلة أفقير وما عانته بجريرة الجنرال الديكتاتور محمد أفقير، تذكرت ضحايا تزمامارت وضحايا الانتفاضات التي وقعت بالمغرب على عهد الصدر الأعظم إدريس البصري....الخ.

وتمضي الأيام ويأتي في زيارتنا من تربطنا بهم علاقات القرابة، هؤلاء يسكنون في ولاية تندوف التابعة للتراب الجزائري، تصوروا أنهم سافروا من تندوف الى تلمسان، ومنها الى الدار البيضاء ثم الى طاطا، وتصوروا أن ما بين طاطا وتندوف أقل من 100 كلم، وتصوروا معي أيضا أن أحدهم وهو من جنسية جزائرية أبوه مغربي من أعيان المنطقة، وأن امرأة جنسيتها جزائرية أبوها جندي في الجيش المغربي، تصورا حين يأتون الى طاطا يحرم عليهم الدخول الى داخل الصحراء "المتنازع عليها"، وكل مرة وحين يأتي رجل السلطة/ المقدم ليقطع كلامنا ويستفز ضيوفنا حول أسئلة تافهة كأن يقول مثلا: متى ستسافرون، واعطوني جوازات سفركم لأراها، وممكن أن تزورونا بمقرنا ووو وكثير من الأسئلة الاستفزازية...تصوروا لو كان هؤلاء الإخوة في الدين واللغة بل نحن جميعا من قبيلة واحدة، تصوروا لو كانوا فرنسيين أو إسبان ...الخ ؟؟

2- يوم الأحد الماضي حاولت أن أقوم بتمرين صحفي على خلفية المقابلة التي جمعت المنتخبين المصري والجزائري في الجزائر، فتحدثت مع خمسة زملاء من العيون ووجدة وطنجة والناظور والدار البيضاء، وهكذا تواعدنا أن نجلس في مقاهي يجلس فيها جمهور كرة القدم ليتابع المقابلة التي ستجري بين الأشقاء المصريين والجزائريين..وبين الحين والآخر نفتح هواتفنا لنسمع الأصداء حين يهاجم المنتخب الجزائري أو يسجل الأهداف. تصوروا معي أيها الإخوة أن الجماهير المغربية كانت مع المنتخب الجزائري، ولم تساند المنتخب المصري!!

نعم هذي هي الحقيقة ............ولكم واســـــع النظر !!