التوبة

التوبـة

{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم }  الزمر : 53 

إن الله عز وجل الذي رحمته وسعت كل شيء لم يدع لنا مجالاً لليأس أو القنوط ، فهو يعلم تقصير عباده ويعلم أنهم يقعون في الذنوب ويحتاجون في كل لحظة إلى رحمة علام الغيوب ، ولذلك فتح الله لعباده باباً عظيماً لمن أراد أن يتوب .

قال صلى الله عليه وسلم " إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب لا يُغلق حتى تطلع الشمس من مغربها " رواه الطبراني ـ صحيح الجامع 2177  .

ولقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم أن الكل يخطئ ولكن لا يتوب إلا الخيار الأبرار . قال صلى الله عليه وسلم " كل بني آدم خطّاء وخير الخطاءين التوابون " رواه أحمد والترمزي وابن ماجة عن أنس .

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " يا أيها الناس ، توبوا إلى الله ، فوالله إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة " وكان أصحابه يعدون له في المجلس الواحد قبل أن يقم " رب اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الغفور ، مائة مرة " وما صلى صلاة قط بعد إذ أنزلت عليه { إذا جاء نصر الله والفتح } إلى آخرها . إلا قال فيها : { سبحانك اللهم ربنا وبحمدك . اللهم اغفر لي } .

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لن يُنجي أحداً منكم عمله . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه فضل " .

مدارج السالكين 1/198 : 199  .

لقد فتح الله التوبة للجميع فأمر الله عز وجل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة بعد إيمانهم وهجرتهم وجهادهم وصبرهم ، فقال تعالى : { وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون }  النور : 31  بل فتح الله باب التوبة لأصحاب الكبائر ليتوبوا وكمثال على ذلك أصحاب الأخدود الذين حرقوا المؤمنين والمؤمنات وظلموهم بلا ذنب اقترفوه سوى أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد ..... هؤلاء الذين فرقوا بين الأم وولدها ، وقذفوا ولدها أمام عينيها في النار وجلسوا يتلذذون بمشاهدة المؤمنين وهم يموتون في النيران وعلى الرغم من ذلك يفتح الله لهم باب التوبة ليتوبوا ، فقال تعالى { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق } البروج : 10  فقوله تعالى ثم لم يتوبوا يفيد أنهم لو تابوا لتاب الله عليهم .

ومع كل هذه الأمثلة التي تثلج الصدور لسعة رحمة الله جلا وعلا إلا أننا لا ينبغي أن نتهاون بعواقب الذنوب والمعاصي فإن الله كما وصف نفسه  بأنه غفور رحيم فقد وصف نفسه بأنه شديد العقاب فقال تعالى ر اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم }  المائدة : 98  .

وقال سبحانه وتعالى { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ( 49 ) وأن عذابي هو العذاب الأليم } الحجر : 49 ، 50   ، فقد يستصغر الإنسان ذنباً وهو عند الله عظيم ، قال تعالى { وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم }  النور 15  فلقد دخلت امرأة النار في هرة ، قال رسول الله صلى الله وسلم " دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت " متفق عليه عن أبي هريرة ـ صحيح الجامع 3374 ـ الصحيحة 28   .

علامات صحة التوبة

قال الإمام ابن القيم رحمه الله بأن هناك علامات لصحة التوبة منها :

أن يكون بعد التوبة خيراً مما كان قبلها  وأن لا يزال الخوف مصاحباً له لا يأمن مكر الله طرفة عين فخوفه مستمر إلى أن يقبض روحه وانخلاع قلبه وتقطعه ندماً وخوفاً من سوء عاقبته ، ومن العلامات أيضاً كسرة خاصة تحدث للقلب لا يشبهها شيء تكسر القلب بين يدى الرب كسرة تامة قد أحاطت به من جميع جهاته وألقته بين يدى ربه طيعاً ذليلاً خاشعاً وعلم أن حياته وسعادته وفلاحه ونجاحه في رضا الله عنه ، ونجد أن الله يحب أن يكن العبد ذليلاً وخاضعاً ومستسلمً له .

قال الله جل وعلا : " يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي  يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي . يا ابن آدم لو أنك أتيني بقُرب الأرض خطايا ( أي بقرب ما يملأ الأرض من الخطايا ) ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة "   رواه الترمذي والضياء عن أنس ـ صحيح الجامع 4338   .

التوبة النصوح

إننا والله في أشد الحاجة لأن نتوب توبة صادقة تخرج من أعماق القلب فتصبح نوراً ينير لنا على الدرب ، والنصح في التوبة ه تخليصها من كل غِشٍ ونقصٍ وفسادٍ ، و يقول الحسن البصري : هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى مجمعً على ألا يعود فيه ، وقال الكعبي : أن يستغفر باللسان ، ويندم بالقلب ، ويمسك بالبدن .

لا تيأس من رحمة الله

قال تعالى { والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً }   النساء : 27

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيئو النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيئو الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " رواه مسلم  17/ 76 التوبة ـ صحيح الجامع 1871  .

وقال تعال : " يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعاً ، فاستغفرني أغفر لكم  "  رواه مسلم عن أبي ذر ـ صحيح الجامع .

وقال تعالى : " يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرت في ملأ خير منهم ، وإن دنوت مني شبراً دنوت منك ذراعاً ، وإن دنوت مني ذراعاً دنوت منك باعاً ، وإن أتيتني تمشي أتيت إليك هرولا " رواه أحمد عن أنس ، وصححه الألباني في صحيح الجامع 4337  .

كيف تتوب ؟

إن أول خطوة تخطوها في طريق التوبة هي أن تقلع فوراً وبدون تردد عن الذنب أو الذنوب التي تعملها ثم تستحضر في قلبك النية والعزم على أنك لن تعود لها وتندم على ما فعلته من هذه الذنوب وتعزم على عدم العودة ثم تقوم بالتخلص من جميع الأشياء والأدوات التي كنت تستخدمها في ارتكاب المعاصي والذنوب ، ومن المفيد جداً أن تتوضأ وتحسن الوضوء ثم تصلي ركعتين مع المداومة  على الاستغفار والاجتهاد في الإكثار من الأعمال الصالحة  لقوله صلى الله عليه وسلم " ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له " ثم قرأ هذه الآية { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } "   آل عمران 135  .

أخي الحبيب : اسع إلى الله تائباً وألق بنفسك بين يديه سبحانه نادماً على ما فعلت فالندم توبة فما ظنك إذا فعلت هذا بمن هو أرحم بعبده من الأم بوليدها ، يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي : " أنا عند ظن عبدي بي إن ظن بي خيراً فله ، وإن ظن بي شراً فله "  رواه أ؛مد عن أبي هريرة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    ـ محمود المصري : ( مواقف من حياة الأنبياء والصحابة والتابعين )  ـ دار التقوى