مواضيع اليوم

مذكراتي في العهد الملكي

mos sam

2011-08-24 08:30:32

0

 

سلسلة مذكراتي نشرت في كتاب بعنوان مذكرات شاهد على العهد الملكي السابق

الفصل الأول

تمهيـد صاحب المذكرات

كثيرًا ما فكرت في احتراف الكتابة، وهي رغبة كانت تراودني منذ الطفولة. وخلال سنوات الحرب العالمية الثانية وبعدها، كنت أتنافس مع أخي الأكبر علي على كتابة صحيفتين بيتيتين لا يقرأهما إلا أنا وهو والوالد أحيانًا، لمجرد حب الإطلاع. وكنا لا زلنا في مرحلة الدراسة الابتدائية، إلا أن تعليمنا اللغوي كان متقدمًا بفضل الدروس الخصوصية اللغوية والدينية التي كنا نتلقاها أثناء سنوات الحرب وقفل المدرسة. وكان كل واحد منا يحاول مناقشة وانتقاد الآخر في ما ينشره من آراء في صحيفته. وقد ساعدنا على ذلك كون والدنا مدرسًا في ذلك الوقت، وكنا نشاركه هواية القراءة، وخاصة المجلات المصرية كالرسالة والمصور وآخر ساعة والصباح وروايات جورجي زيدان والمجلات والكتب الأدبية التي كانت متوفرة في ذلك الوقت في حانوت السيد محمد جميل في مدينة مصراته، التي كان عدد المتعلمين فيها قليلًا. وقد ساعدتنا قراءة هذه المطبوعات على تحرير صحيفتينا، ومتابعة الحركات الأدبية والأنشطة السياسية في العالم العربي والعالم الخارجي.
كان خالنا السيد عبدالله بلقاسم عمر باشا المنتصر، الذى عاش معنا لفترة طويلة في فترة الحرب، زادًا غزيرًا من المعلومات عن أوروبا والعالم، وخاصة تطورات أحداث الحرب. وكان قد درس في جامعة تيفولي الإيطالية، وكان يقرأ الجرائد والمجلات الإيطالية ويتابع أحداث الحرب عن طريق الراديو، ويشرح لنا ما يجري في العالم، ويناقشنا بمشاركة والدنا فى ما نقرأ وفي أحداث الساعة، وقد تعلمنا منه الكثير. وكان يعرف الكثير عن تاريخ ليبيا في العهد العثماني وتاريخ عائلة المنتصر وشجرة العائلة حتى مؤسسها المنتصر، وهذا يرجع إلى أنه كان قد عاش مع جده عمر باشا المنتصر بعد وفاة والده وهو طفل، وكان عمر باشا المنتصر قائمقامًا على سرت وله أملاك كثيرة فيها.
يقال حسب رواية خالي أن جد العائلة المنتصر جاء من الكوفة بالعراق مع مجموعة من المهاجرين العرب، ونزلوا في مصراته وأطلق عليهم قبيلة الكوافي. وتولى المنتصر وأولاده وأحفاده منصب الشيخ لقبائل الأهالي في مصراته، وقائمقام ومتصرف في مصراته والخمس وسرت، وحصل بعضهم على لقب بك أو باشا في العهد التركي. وهناك رأي يقول أن المنتصر الأول جاء من المغرب ونزل في مصراته، ورحبت به قبيلة الكوافي واختير شيخًا عليها، ثم عينت الحكومة العثمانية ابنه الشيخ بلقاسم شيخًا على قبائل الأهالي.
ويقطن في مصراته ثلاث مجموعات من القبائل: أهالي وكراغلة وأولاد شيخ. ويقال إن الأهالي أصلهم من سكان ليبيا القدامى (البربر) ثم استعربوا بمرور الزمن تحت الحكم العربي. والكراغلة أصلهم من الأتراك والأعاجم الذين جاءوا من كل أنحاء الإمبراطورية العثمانية إلى مصراته ثم استعربوا، أما أولاد الشيخ فهم القبائل العربية التي جاءت وسكنت مصراته بعد الفتح العربي لليبيا والله أعلم.

الطفـولــة
ولدت يوم 4 أبريل 1932 في مدينة مصراته وكنت الابن الثاني بعد أخي الأكبر علي لأبوين من عائلة المنتصر. كان والدي لا زال يدرس ويعيش مع جدي أحمد السني مصطفى المنتصر، الذي كان ميسورًا ويملك أراض شاسعة في مصراته وتاورغاء ومسلاتة وبنغازي، وكان له ثمان بنات وابن واحد هو والدي. لم يعمل جدي في الحكومة أو التجارة، بل كان يعيش على دخل أراضيه. وكان يعامل الفلاحين معاملة حسنة عملًا بنظام المغارسة، حيث جرى العرف على إعطاء النصف من الناتج للمالك في المحاصيل المطرية والربع في المحاصيل المروية، ويصبح الفلاح مالكًا لنصف الأرض بعد إتمام غرس عدد معين من الأشجار المثمرة في فترة محددة تمتد لعشرين سنة، وهذا جعل معظم الفلاحين ملاكًا لأراضيهم بعد فترة زمنية معينة.
بعد مولد أختي فاطمة، وهي ثالثنا، اضطر والدي إلى مغادرة بيت والده دون رضاه ليعيش مستقلًا، فقد كان من الصعب على والدتي العيش مع عماتي في بيت واحد، رغم اتساعه، وخاصة بعد أن تزايد عدد أفراد أسرتها، وقد اضطر والدي للبحت عن وظيفة. وكانت الحكومة الإيطالية لا توظف الليبيين إلا في وظائف تدريس اللغة العربية أو الوظائف الإدارية البسيطة أو المؤقتة، وعين في وظيفة في جهاز الإحصاء، ثم أصبح مدرسًا بعد نجاحه في امتحان التدريس سنة 1936م ضمن 26 مدرسًا منهم الأساتذة: مصطفى السراج ومحمد بن زيتون ومحمد خليل القماطي وأحمد نبيه ومراد بك درنة وبشير البدري وعبد الخالق الطبيب وعمر فخري الحمداني وغيرهم، وساعده والده بإعطائه منزلًا قريبًا منه.
ورغم مساعدة والده وخالتيه في طرابلس، إلا أن ظروف معيشة العائلة أصبحت صعبة بعد حياة مريحة في بيت والده. وهكذا ترعرت أنا وإخوتي في جو عائلي متواضع ومحافظ جدًا. وعندما كنا أطفالًا، وحتى نتمكن أنا وأخي من الحصول على تغذية صحية، كان أخي الأكبر علي يقيم في طرابلس مع خالة والديه، أما أنا فكنت أتناول طعامي باستمرار مع جدي في بيته القريب من بيتنا.

 

 

 

بشير المنتصر مع والده وإخوته الهادي (على شمال الوالد) وأمامه المرحوم أحمد
ثم الأخ الأصغر عبدالعظيم
كانت عائلة المنتصر تتمتع بمركز اجتماعي وسياسي متميز ولها تاريخ طويل في خدمة الناس. وكانت تتمتع بمكانة لدى الحكومة العثمانية، حيث تولى بعض أفراد العائلة وظائف إدارية عالية، وحصلوا على ألقاب تركية كثيرة منها الشيخ والبكوية والباشوية. وقد فرضت علينا هذه الظروف العائلية قيودًا والتزامات منذ الطفولة، فقد كان ممنوعًا علينا اللعب والمرح في الشارع دون رقابة، وكنا نذهب إلى المدرسة مع مرافق لنا باستمرار.

 

 

 

 

وكان الناس يعرفون العائلة باسم عائلة البي (بك التركية) وينادون أفرادها بلقب بي حتى الأطفال منهم. وكانت العائلة محسودة على مكانتها الاجتماعية من طرف المتطلعين إلى النفوذ والسيطرة، ومع هذا فقد كان احترام الناس العاديين والفلاحين، ووجودهم حولنا دائمًا، وتقديم خدماتهم لنا عن طيب خاطر وطواعية، يبعث فينا رضًا وتعلقًا بهم وتقديم كل ما نستطيع من خدمات لهم، ومشاركتهم مشاكلهم وأفراحهم وأحزانهم. كانت بيوتنا مفتوحة أمامهم وتعج بالزوار وخاصة في أيام السوق، حيث يتوافد الفلاحون على السوق في مصراته لبيع محاصيلهم وشراء حاجياتهم، وكانوا يحضرون لنا بعض منتوجهم من الخضار والفواكة باستمرار، وكنا نقدم لهم ما نستطيع من ضيافة متواضعة. وأذكر أن بيتنا الذي كان مواجهًا للسوق الرئيسي، كان دائمًا مفتوح الباب لا يغلق خلال الأربع والعشرين ساعة، دون خوف من سارق أو معتد.

مرحلة الدراسة الابتدائية
بدأت التعليم في المدرسة مبكرًا، فوالدي كان مدرسًا في زاوية المحجوب. وأذكر أول يوم ذهبت فيه إلى المدرسة وعمري كان حوالي الخامسة مع والدي وأخي علي، وقد أعطيت كراسة وقلم حبر يستعمل مع المحبرة، فأرقت الحبر على الكراسة وملابسي، وقرر بعدها والدي إرجاء التحاقي بالمدرسة إلى السنة التالية. وفي السنة التالية دخلت مدرسة مصراته الابتدائية المركزية بعد أن نقل والدي إليها. وكان التعليم بها بالإيطالية مع تدريس الدين واللغة العربية كمواد غير أساسية، وكان مديرها الإيطالي آنذاك السنيور (دي ساباتو) كريمًا معنا، وكثيرًا ما كان يحمل معه الحلوى (كرميلة) يعطيها لنا كلما أجدنا وحفظنا عن ظهر قلب ما كان يكلفنا به. ولا زلت أتذكر بعض المقاطع من النشيد الفاشيستي الشهير "Giovinezza" (شبابًا):
يا شبابًا يا شبابًا ..  يا ربيعًا مستطابا
إننا أبناء روما ..  جندها نحن القدامى
قد مضينا ألف عامًا  .. ثم عدنا إلى العهود
لا رجوع لا هوينا  ..  في طريق قد بنينا..
كما كنا نتغنى بأغنية العلم الإيطالي ذي الثلاثة ألوان وأسماء ملوك إيطاليا وزعمائها وجبالها وأنهارها، كنهر "البو" أكبر نهر في إيطاليا. وهكذا كانت إيطاليا تعد أبناء ليبيا كجزء من الشعب الإيطالي، ولكن الله أنقذ الشعب الليبي من هذا المصير، وانتهى حكم إيطاليا لليبيا بعد خسارة إيطاليا الحرب مع الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
كانت الحياة بسيطة في متطلباتها في تلك الفترة، وكان مستوى المعيشة لعائلتي متوسطًا، إذا قورن بحياة الغالبية الفقيرة للشعب، وكان دخل والدي محدودًا. وبعد فترة ولد أخي الهادي قبل الحرب العالمية الثانية وكان رابعنا. ذهب والدي إلى الحج في سنة 1938 وأخبرنا بأحوال العالم العربي الذي لا نسمع عنه كثيرًا تحت حكم إيطاليا. وكان العرف أن يحتفل بمناسبة حج أحد أفراد العائلة ويدعى الأقارب والأصدقاء والمعارف إلى مآدب الأكل، وتحتفل النساء وتعم الحي زغاريد النساء وتقام الولائم. وأذكر أن الوالد أخبرنا بما يجري في فلسطين وقيام بريطانيا بالسماح للمهاجرين اليهود بالمجئ إلى فلسطين، وكان الناس متحمسين لما يجري في فلسطين.
كان يوجد عدد كبير من اليهود يعيشون بيننا وكانت علاقتنا معهم علاقات ودية وكنا نتزاور ونحتفل معهم بأعيادهم ويحتفلون معنا بأعيادنا. كنا نسكن قريبًا من حارة اليهود وكنت أسمع صوت الزمور  من المعبد اليهودي في الفجر مناديًا للصلاة وكثيرًا ما يتجاوب مع أذان الفجر في الجوامع المجاورة ونواقيس الكنيسة المسيحية في وسط المدينة. وقد أحضر والدي معه من الحج قصيدة مكتوبة باليد عن فلسطين حفظتها عن ظهر قلب ولا زلت أتذكر معظم أبياتها إذ تقول:
فلسطين فلسطين نفوس العرب تفديك
أيدنو منك صهيون ورب العرش يحميك
أسود نحن لا نخضع وعرب نحن لا نخنع
فيا صهيون لا تطمع فلسنا نرهب المدفع
وتنتهي بهذا البيت: فخلي الجهل في لندن فنصر العرب قد شع

السيد إبراهيم السني المنتصر
كان والدي الحاج إبراهيم السني المنتصر رائدًا ومن الرعيل الأول في مجال التعليم. امتهن التعليم منذ أن عين مدرسًا بزاوية المحجوب بمصراته سنة 1936م وظل مدرسًا وإداريًا في هذا المجال حتى تقاعده سنة 1970م ووفاته سنة 1978م. ولد إبراهيم السني المنتصر في مصراته سنة 1911م من أبوين من عائلة المنتصر. وقد تعلم في المدارس الإيطالية والمعاهد الدينية في مصراته، التي كانت تزخر بكثير من العلماء الأجلاء، الذين خدموا العلم والدين الإسلامي في وقت أغلقت فيه أبواب التعليم العربي على أبناء ليبيا تحت الحكم الإيطالي، وشب إبراهيم السني المنتصر في عائلة معروفة بالورع والعلم وخدمة الناس.
لقد احتفظت فروع عائلة المنتصر باسم جدها الأول المنتصر. والعائلة تنقسم إلى فروع رئيسية هي عمر المنتصر والسنوسي المنتصر وحسن المنتصر وعبدالمجيد المنتصر ومحمود المنتصر ومصطفى المنتصر، وقد تفرعت هذه الفروع بدورها إلى فروع كثيرة. وزاد تقارب أفراد العائلة بالزواج من بعضهم البعض وهي عادة عربية غير حميدة حافظ عليها العرب خلال القرون الطويلة الماضية. اشتهر فرع مصطفى المنتصر بالتجارة والعلم، فقد سافر جدهم مصطفى المنتصر إلى بنغازي وبقى فيها فترة طويلة تملك فيها أملاكًا كثيرة، وقد اضطر إلى العودة إلى مصراته لزواج ابنة عمه. أما فروع عائلة المنتصر الأخرى فيجمعها جد واحد هو الشيخ بلقاسم المنتصر الذي عينته الإمبراطورية العثمانية شيخًا، وهو لقب تركي يعطى  للحكام العرب في مناطقهم.
هذا ويلاحظ أن أحد فروع عائلة المنتصر لقب بالسنوسي تبركًا بزيارة الشيخ محمد بن علي السنوسي أثناء قدومه من مكة سنة 1841م (1257 هجري) وإقامته في بيت أحمد باشا المنتصر (جد السيد محمود المنتصر رئيس الوزراء) بطرابلس قبل إقامته ببرقة. وكان السيد محمد بن علي السنوسي قد مر على مصراته في طريقه إلى الحجاز سنة 1823م (1238 هجري)،  وأكرم من طرف الشيخ بلقاسم المنتصر عميد العائلة ووالد أحمد باشا المنتصر. وفرعنا لقب بالسني تبركًا بزيارة الشيخ أحمد السني إلى مصراته، وهو من الإخوان السنوسيين بمزدة. وكانت عائلة المنتصر تحترم وتكرم الأشراف وأهل البيت والمرابطين وأولاد الشيخ ورجال الطرق الصوفية، وكانت منازلهم في مصراته تعج بعشرات الطلاب لقراءة القرآن في مناسبات وفاة أحد منهم أو في إحياء ذكراهم في شهر رمضان والمناسبات الدينية وقراءة البغدادي في المولد النبوي. 
السيد إبراهيم السني المنتصر من فرع مصطفى المنتصر، تزوج السيدة خديجة بلقاسم عمر باشا المنتصر وأنجب منها خمسة أولاد وبنت هم علي (السفير السابق) وتزوج ابنة السيد محمود عبدالمجيد المنتصر، وبشير صاحب هذه الذكريات، وفاطمة وتزوجت الأستاذ أحمد بن لامين المستشار القانوني والقاضي في الاستئناف وأنجبت منه ابنًا هو الدكتور هشام بن لامين وبنتين، والهادي (محرر العقود) وتزوج ابنة السيد محمود القلالي، وأحمد السني الثاني (توفي في برلين سنة 1984 إثر مرض عضال وهو في ريعان الشباب) والمهندس عبدالعظيم وتزوج ابنة الشيخ أحمد المقهور.
بعد الحرب العالمية الثانية وتعريب المدارس في ليبيا قام والدي السيد إبراهيم السني المنتصر بالتعاون مع الأستاذ محمد مسعود فشيكة، الذي رجع من مصر حاملًا شهادة التدريس من كلية العلوم، بحملة توعية بأهمية المدارس الحديثة بعد تعريبها. وكان الوالد يحث الناس على إرسال أولادهم وبناتهم إلى المدارس بالخطب في المساجد والاتصال المباشر في وجه حملة شعواء ضد المدارس الحديثة شنها فقهاء وأئمة المساجد ومشايخ الدين الذين كانوا يعتبرون المدارس غير القرآنية من أدوات الاستعمار التي تهدف إلى القضاء على الدين الإسلامي واللغة العربية كما كانت عليه في عهد إيطاليا. وكان على رأس هذه الحملة الشيخ علي أحمد حسن المنتصر إمام وفقيه زاوية المنتصر الشهيرة بمصراته التي خرّجت المئات من حفظة القرآن الكريم، وسافر بعضهم إلى مصر للالتحاق بالأزهر الشريف ودار العلوم، وأذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، الشيخ مصطفى عبدالسلام التريكي والشيخ الدكتور عمر التومي الشيباني والشيخ كمال علي المنتصر والشيخ إبراهيم ارفيدة وغيرهم كثيرين لم تسعفني الذاكرة بتذكرهم.

 

 


                                                          
وقد انضم إلى السيد إبراهيم السني في حملته للدعوة إلى الالتحاق بالمدارس الرسمية في مصراته الأساتذة محمد مسعود فشيكة وعبدالله الترجمان ومحمد الطبولي ومختار معافة وإبراهيم الفلاح وغيرهم. وقد تولى والدي إبراهيم السني مهام مدير المدرسة الابتدائية بمصراته بعد نقل مديرها الأستاذ محمد مسعود فشيكة إلى طرابلس. ثم عين الوالد مديرًا للتعليم في منطقة مصراته، وكان له الفضل الكبير في إنشاء كثير من المدارس في ضواحي ومناطق مصراته آنذاك. وقد تتلمذ على يديه مئات التلاميذ وشاع نشاطه في طرابلس وفي المقاطعات الأخرى.
وتوافد على مصراته للزيارة كبار رجال التعليم آنذاك من مدراء التعليم والمفتشون، وأذكر منهم المستر ستيل كريج المدير الإنجليزي لإدارة التعليم في ولاية طرابلس في عهد الإدارة البريطانية، وكذلك مدراء التعليم العربي كمال حافظ (فلسطيني)، وعبدالحكيم جميل (سوداني)، والمفتشون العرب الأستاذ عبدالله الشريف، والأستاذ إسماعيل السويح وغيرهم.
بدأ الأستاذ إسماعيل السويح رحلتة الطويلة مع التدريس سنة 1932م وعين في مزدة وعمل في زليطن ومصراته والقرابولي ثم مفتشًا عامًا للتعليم في "المقاطعة الشرقية" أثناء فترة الإدارة البريطانية (1945-1951م). تولى عدة وظائف هامة في التعليم بعد الاستقلال وعين مستشارًا ثقافيًا لليبيا في تونس والمغرب العربي من سنة 1964 حتى 1967م. تقاعد سنة 1968م وعين عضوًا في المجلس البلدي حتى عام 1973م وتوفي في طرابلس سنة 1992م. له ابن واحد هو الدكتور سعدون إسماعيل السويح، أكاديمي وأديب معروف، يعمل حاليًا مع الأمم المتحدة في نيويورك.

وقد عرف والدي إبراهيم السني بالكرم النادر، وكان بيتنا لا يخلو يومًا من زوار. ولا زلت أتذكر الزائر الدائم الشيخ علي جبرين، الذي كان كبير السن وفاقدًا للبصر، ولكنه كان على قدر كبير من خفة الظل والفكاهة. وكان يحكي لنا ونحن أطفالًا قصصًا طريفة عن دراسته في المغرب والحياة الاجتماعية فيها ومغامراته ونكته الجميلة التي لا زلت أتذكرها حتى اليوم. كما كان الوالد يرحب بالزوار من رجال التعليم، ونظرًا لعدم توفر الفنادق في مصراته آنذاك، كان يدعوهم إلى الطعام باستمرار وأحيانًا للإقامة في بيتنا الكبير طوال زيارتهم لمصراته. ولن أنسى بعثة المدرسين التي مرت بمصراته في طريقها إلى مصر التي ضمت أكثر من 34 مدرسًا ومفتشًا من مدرسي ولاية طرابلس في سنة 1945، على ما أذكر، وقد أقام لهم الوالد مأدبة غذاء كبيرة للقاء مدرسي منطقة مصراته والاحتفاء بهم.
انتقل بعد ذلك والدي إبراهيم السني إلى طرابلس بعد تعيينه مديرًا للتعليم في منطقة طرابلس، ثم مديرًا للتعليم الابتدائي، ونقل بعدها إلى وظيفة وكيل كلية العلوم بجامعة طرابلس وبقى فيها حتى أحيل على التقاعد سنة 1970. وقد لعب دورًا هامًا في نشر التعليم والإشراف على المدارس في جميع أنحاء ولاية طرابلس بالتعاون مع الأساتذة محمد توفيق حموده، الذي تولى منصب مدير التعليم بعد تلييب الوظيفة وعبدالله الشريف ومحمد الأمين الحافي ومصطفى المبروك وإبراهيم الفلاح وعبدالغني البشتي، وسكرتير إدارة المعارف الدائم الأستاذ بشير عبدالله البدري وغيرهم كثيرين.

 

 


           الأستاذ بشير عبدالله البدري (1969م)

وقد اشترك والدي إبراهيم السني في البعثة التدريبية للفيف من رجال التعليم إلى أمريكا للإطلاع على نظم التعليم والتربية فيها. وخلال النشاط الوطني قبل الاستقلال وتأليف الأحزاب السياسية رفض والدي إبراهيم السني الانضمام إلى الأحزاب السياسية التي قامت قبل الاستقلال لخوض النشاط السياسي والحزبي، كما رفض الترشيح في انتخابات مجلس النواب المتتالية. ورغم محاولات بعض زعماء الأحزاب، مثل حزب الاستقلال، للاستفادة من تعليمه وخبرته ومكانته في مجال التعليم، إلا أنه رفض كل الإغراءات وبقي في مجال التعليم الإداري إلى النهاية، وتوفي سنة 1978 عن عمر يناهز 67 عامًا.

الحـرب العالمـية الثانـية تمـتد إلى ليـبـيا
قامت الحرب سنة 1939 وأنا في السنة الثانية الابتدائية، فأغلقت المدارس الرسمية ولجأنا إلى المدارس القرآنية في المساجد، وكانت الدراسة التقليدية بها تتمتع باحترام الناس، فهي توفر للطالب حفظ القرآن الكريم وكذلك دراسة العلوم الدينية واللغة العربية. هذا كما خصص لنا الوالد دروسًا خصوصية في النحو والصرف على أيدي بعض كبار المشايخ الذين درسونا النحو من كتاب الكفراوي وحفظت الأجرومية وبعض ألفية ابن مالك وحوالي ربع القرآن الكريم عن ظهر قلب.
عندما أصبحت ليبيا كلها ميدانًا للحرب انتقلنا إلى الريف، وعشنا مع عائلة السيد الطاهر الماني من سكان الأرياف الذي كان يرعى مزارع لجدي في مكان يعرف بعباد، وكان ميسور الحال بالنسبة لغيره من الفلاحين، ورجل متدين ومتزوج من امرأة من عائلة معروفة في مصراته. بالإضافة إلى عمله في الزراعة كان يشتغل أيام السوق في تجارة الصوف، وكانت تضحيته كبيرة. وقد ساعده والدي، كما ساعد عددًا كبيرًا من المواطنين الليبيين، في التوسط لدى الطبيب الإيطالي، الذي كان صديقًا للوالد ومسئولًا عن الكشف الطبي للمجندين الليبيين للحرب مع إيطاليا، بأن يعفيهم من التجنيد بحجة عدم صلاحيتهم صحيًا. وقد بلغ من كرم وحسن ضيافة السيد الطاهر الماني أن ترك بيته لنا ولجدي وبناته، وانتقل هو وأطفاله إلى زريبة من جريد النخيل حيث بنى دارًا حولها.
كانت ليبيا مسرحًا للحرب العالمية الثانية، وقد جرت على الليبيين مشاكل المآسي والفاقة. وكانت طائرات الحلفاء في أول الحرب، ثم المحور بعد الاحتلال، تقذف بقنابلها المدن الليبية ومنها مصراته وتقتل المئات في تلك المدينة. وأذكر يوم السبت الأسود في مصراته حين قذفت الطائرات البريطانية السكان البدو، الذين جاءوا إلى المدينة بالآلاف لأخذ التموين المخصص لهم، واعتقد الطيارون أنهم جمعًا من الجنود الإيطاليين، وقد مات منهم العشرات وجرح المئات ولم يبق بيت في مصراته إلا وفقد أو جرح له عزيز لهم، وكان من بين الجرحى زوج إحدى عماتي السيد محمد بن احميدة من قبيلة المقاوبة.
كانت الطائرات كثيرًا ما تخطئ وتضرب أحياء ومزارع المدنيين، وفعلًا سقطت قريبًا من البيت الذي كنا نعيش فيه كثير من القنابل، ومع هذا كان والدي يذهب للعمل حيث كلف المدرسون بأعمال إدارية في فترة غلق المدارس. وكنا نذهب لزاوية المنتصر أو كما تعارف أهل مصراته على تسميتها بـ"زاوية البي" في مركز المدينة لحفظ القرآن. وخصصت لأطفال العائلات الميسورة بعد ذلك مدرسة في الريف مجاورة لسكنانا انتسبنا إليها، وكنا عندما تبتعد المعارك عن مصراته نرجع إلى بيوتنا في المدينة. وقد اضطر جدي وبناته الانتقال إلى بيت آخر في إحدى المزارع القريبة منا نظرًا لضيق البيت الذي كنا نسكنه معًا.
نهايـة الحرب وبداية العمل الوطني
بعد احتلال البريطانيين لمصراته أواخر 1942، وانسحاب الإيطاليين والألمان منها، عدنا إلى بيوتنا في مصراته المدينة، لكن الحرب استمرت في ليبيا بعيدًا عنا، وكانت تؤثر في حياتنا. وقد تفتحت مداركنا في هذا الجو الخانق، ومشاكل الحرب وحالة الفقر التي يعيشها الناس. وكانت حياتنا في البيت بإشراف والد متعلم وخال مثقف تعلمنا منهما الكثير، فقد كانا على جانب كبير من الثقافة والمعرفة وتجارب في الحياة. وأذكر أني كنت رغم صغري أناقشهما في ما يجري في الحرب بين المحور والحلفاء.
كنت متحمسًا للألمان وللقائد العسكري رومل، كمعظم الليبيين، وكنت مبهورًا بهم وبشجاعتهم التي كانت أساطير تروى بين الناس، بينما كان الناس يكرهون إيطاليا بسبب استعمارها لهم. وكان جدي أحمد السني المنتصر يكره إيطاليا لأسباب كثيرة، أهمها أنها في حربها ضد الليبيين بعد الحرب العالمية الأولى اعتقلته في مصراته، وقدم للمحاكمة بتهمة مساعدة المجاهدين (الفلاقة كما كانت تسميهم إيطاليا) لدخول مصراته، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، ثم خفف الحكم إلى عشر سنوات بعد أن ذكر محاموه للمحكمة أنه أب لثماني بنات صغيرات لا عائل لهن. وقد قضى منها سنتين ونصف في سجن قلعة طرابلس ثم أفرج عنه بعد صلح إيطاليا مع حكومة مصراته بزعامة المجاهد رمضان الشتيوي السويحلي.

 

 

 

وكان جدي قد ألقي القبض عليه مع مجموعة من وجهاء مصراته بعد واقعة القرضابية، وعصيان المجاهد رمضان السويحلي مع غيره من المجندين الليبيين في الجيش الإيطالي، وانضمامهم إلى المجاهدين بقيادة السيد صفي الدين السنوسي. وكان من بين الذين اعتقلوا مع جدي شقيقي رمضان السويحلي، أحمد وسعدون، اللذين كانا مع جدي أيضًا في سجن طرابلس، وذلك بحجة التآمر مع رمضان السويحلي والتخطيط لهذا العصيان مقدمًا. وقد ساعده ذلك على أن يحظى بمعاملة خاصة من حكومة رمضان السويحلي وإقامته في مصراته، رغم العداء الذي كان قائمًا بين رمضان السويحلي وبين أبناء عمر باشا المنتصر منذ العهد العثماني، والذي وصل إلى درجة الاقتتال لأسباب عائلية.
وبدأ هذا الخلاف بقيام رمضان السويحلي وإخوته بقتل بلقاسم المنتصر ابن عمر باشا المنتصر، عندما كان مسافرًا في طريقه من مصراته إلى طرابلس، عند موقع وادي عين كعام قرب مدينة زليتن في العهد العثماني إنتقامًا لإعتدائه على بعض أفراد عائلة السويحلي، ولم يكن معه سوى حارس واحد اسمه أحمد درم، تخلف عنه في زليتن لشراء بعض الطعام، ولما لحقه وجده مقتولًا. (والحادثة يرويها الأستاذ محمد بن مسعود فشيكة في كتابه تاريخ ليبيا العام).
وقد قامت الحكومة العثمانية بإلقاء القبض على رمضان السويحلي وإخوته وأخذتهم إلى قبرص للمحاكمة بعيدًا عن جو الصراع الذي نتج عنه قيام عبدالقادر عمر المنتصر، أخ بلقاسم، بإثارة قبائل الأهالي في مصراته، مطالبًا بأخذ الثأر لأخيه، بينما قام أخوه الثاني أحمد ضياء الدين عمر المنتصر بمتابعة محاكمة أبناء الشتيوي السويحلي في قبرص التي أخذت وقتًا طويلًا من الحكومة العثمانية، وكلفته أموالًا باهظة اضطرته إلى بيع أراض للعائلة لتغطية التكاليف. وبعد أن تخلت تركيا عن ليبيا لإيطاليا أواخر 1912م أوقفت المحاكمة، وأطلق سراح رمضان الشتيوي وإخوته ورجعوا إلى مصراته، التي كانت إيطاليا قد احتلتها من ضمن المدن الساحلية الليبية.
بعد احتلال إيطاليا للمدن الليبية الساحلية الرئيسية، قامت بتأليف جيش من الطرابلسيين لمحاربة السنوسية في برقة. وعرضت إيطاليا أمر قيادة المجندين الطرابلسيين على عمر باشا المنتصر وأبنائه، وكانوا يتولون مناصب قائممقام في مصراته وسرت في العهد العثماني، ولكنهم رفضوا لأنهم من أتباع طريقة الإخوان السنوسيين الدينية، منذ قدوم السيد محمد علي السنوسي الكبير من الجزائر ونزوله عند عائلة المنتصر في مصراته، وهو في طريقه إلي المشرق للحج وإقامته بعد رجوعه من الحج في برقة. وقيل أن عمر باشا المنتصر قال للإيطاليين لو أعطيتموني الدنيا وما فيها فلن أحارب الأشراف السنوسيين، وكان معروفًا عن عمر باشا أنه يحترم ويخاف من الأشراف و(المرابطين).
بعد ذلك لجأ الإيطاليون إلى رمضان السويحلي خصم عمر باشا المنتصر وأولاده، وعرضوا عليه قيادة المجندين الليبيين، فاستغل الفرصة وقبلها للتخلص من مضايقة خصومه، إلا أنه انقلب على الجيش الإيطالي مع غيره من المجندين الطرابلسيين في معركة القرضابية المشهورة (28-29 أبريل 1915)، حيث هزم الجيش الإيطالي بقيادة العقيد أنطونيو مياني هزيمة نكراء. رفض المجاهد رمضان السويحلي مع غيره من الليبيين المجندين إجباريًا في الجيش الإيطالي إطلاق الرصاص على إخوانهم  المجاهدين الليبيين، ووجهوا بنادقهم إلى الجيش الإيطالي وانضموا، بتدبير مخطط مسبقًا، إلى إخوانهم المجاهدين من قبائل برقة وقبائل سرت وفزان بقيادة السيد صفي الدين السنوسي، وهزموا الجيش الإيطالي في هذه المعركة الشهيرة. رجع السيد رمضان السويحلي منتصرًا إلى مصراته مع السيد صفي الدين السنوسي ثم اختلف معه وقتل بعض مرافقيه من برقة، وبعض أنصاره في مصراته بتهم شتى، مما اضطر السيد صفي الدين إلى الهرب سرًا إلى برقة هو ورفاقه خوفًا من نفس المصير، تاركين مصراته في أيدي رمضان السويحلي الذي أعلن نفسه رئيسًا للجمهورية. 
وقام الجيش الإيطالي قبل انسحابه من مصراته تحت ضغط المجاهدين بنقل أعيان مصراته كسجناء، كما قام بتسفير عمر باشا المنتصر وأولاده إلى طرابلس التي كانت تحت الحكم الإيطالي. وقد بقي بعض أفراد عائلة المنتصر في مصراته وتعاونوا مع رمضان السويحلي، وحصل نزاع بينهم وأبناء عمر باشا المنتصر وصل الى درجة القطيعة والتآمر. وذهب بعضهم مع رمضان الشتيوي في حملته ضد ورفلة وعبد النبي بلخير التي قتل فيها رمضان، بينما كان عبدالقادر المنتصر وعبدالعظيم المنتصر يحاربان مع عبد النبي بلخير ضد جيش رمضان الشتيوي. أدت وفاة رمضان الشتيوي إلى خلاف كبير بين زعماء طرابلس من المجاهدين وانقسام استغلته إيطاليا، التي كانت تشجع أحدهما على الآخر وتمدهم بالمال والسلاح وتخصص لهم المرتبات والمساعدات.
كان جدي أحمد السني المنتصر، كما ذكرت أعلاه، يكره إيطاليا ويتمنى أن يخسر المحور الحرب وانتهاء حكم إيطاليا ومجئ بريطانيا، التي كانت في رأيه تحب وتعرف العرب وستعمل على تحرير ليبيا وتحقيق استقلالها، وهو الأمل الذي كان يراود الليبيين في ذلك الوقت. كانت إيطاليا تسعى لضم ليبيا وجعلها جزءًا من إيطاليا، وقد هجّرت إليها فعلًا قبل بداية الحرب العالمية الثانية عشرات الآلاف من الإيطاليين، وأجبرت بعض الليبيين من الموظفين والتجار على التجنس بالجنسية الإيطالية. وأذكر أن جدي كان فرحًا يوم قتل المرشال بالبو نتيجة سقوط طائرته قرب طبرق، وكان والدي قد سمع الخبر على الراديو وطلب مني أن أجري وأخبر جدي، وكان بيته قريبًا منا.
وأذكر أن جدي كان فرحًا أيضًا يوم احتلال البريطانيين لمصراته، ونظرًا لفقدان بصره، الذي كان يعزيه إلى ما قاساه في سجن إيطاليا والنوم على الأرض والبلاط البارد مدة طويلة، فقد كان يصر على والدي أن يذهب إلى المتصرف البريطاني ويهنئه باسمه، ويقدم نفسه له بهدف إعداده للمشاركة في النشاط السياسي، الذي كان متوقعًا بعد انتهاء الحرب. إلا أن والدي كان يختلف عن جدي وكان مخلصًا لمهنة التدريس التي اختارها لنفسه، وليست لديه أحلام سياسية رغم المغريات والفرص المتاحة لأمثاله من المتعلمين، خاصة من العائلات المعروفة ذوات النفوذ بين المواطنين، وقد بقى طوال حياته بعيدًا عن السياسة مدرسًا ثم إداريًا في التعليم حتى بعد الاستقلال، الذي أتاح الفرصة للمتعلمين من أمثاله لاستلام مناصب هامة، وواصل مهامه في التعليم حتى تقاعده سنة 1970م من منصبه كوكيل لكلية العلوم بالجامعة الليبية. وقد توفي جدي أحمد السني بعد الاحتلال البريطاني بفترة وجيزة وانتقلنا بعد ذلك إلى بيت العائلة الكبير للعيش مع عماتنا.
بعد انتهاء الحرب عدت وأخي علي إلى المدرسة الابتدائية بمصراته، وقد أصبحت الدراسة فيها باللغة العربية، بعد أن كانت بالإيطالية في العهد الإيطالي مع تدريس العربية كلغة ثانية والدين فقط. كان مستوى الدراسة في مدرسة مصراته الابتدائية بعد الحرب فوق المستوى الابتدائي العادي، بعدما أمضى الطلاب عدة سنوات في التعليم خارج المدرسة. كما كان أساتذتنا من الليبيين المثقفين يعلموننا ما يعرفون من العلوم الدينية واللغوية، فقد كنا ندرس النحو والصرف والأدب والشعر والمنطق والحساب والجبر والهندسة والطبيعة.
ولازلت أذكر بعض أساتذتنا الذين درسونا ومنهم الأستاذ محمد مسعود فشيكة ووالدي إبراهيم السني المنتصر والأستاذ عبدالله الترجمان والأستاذ محمد الطبولي. وبدأنا بعد الحرب في الصف الثالث، وكان عددنا محدودًا. وكان بعض فقهاء الجوامع يعارضون وينصحون الناس بعدم إرسال أولادهم إلى المدرسة ويقولون إنها حرام ضد الدين، كما كان الحال في العهد الإيطالي عندما تبنى فقهاء الجوامع ورجال الدين حملة ضد التجنس بالجنسية الإيطالية والتعليم الإيطالي خوفًا من القضاء على الهوية العربية والإسلامية لليبيين.
كانت ليبيا بعد الحرب تختلف عن عهد إيطاليا حيث تمتع الناس بالحرية وإظهار شعورهم الوطني، وبدأوا في تأسيس النوادي الرياضية والأدبية وجمع التبرعات لفلسطين، كما بدأ التطوع للجهاد في فلسطين. وأذكر يوم ذهاب متطوعي مصراته للجهاد في فلسطين سنة 1948م حال إعلان دولة إسرائيل، وقد كان احتفالًا عظيمًا لم تشهد المدينة له مثيلًا. وكانت الحياة الاقتصادية صعبة ومرت سنوات جفاف في غرب ليبيا، وقل المعروض من الحبوب، كما كانت المواصلات صعبة بين غرب ليبيا وشرقها حيث تتوفر المحاصيل الزراعية.
تطور الأمور في فلسطين شجع اليهود الفقراء على الهجرة إلى فلسطين. وكانت الإدارة البريطانية قد سمحت لرسل الصهيونية دخول ليبيا لإعداد اليهود للهجرة، وأتوا بالأطباء الإخصائيين لمعالجة فقراء اليهود وخاصة مرض التراخوما قبل شحنهم إلى إسرائيل. وقد تعكر الجو بين اليهود والعرب بشكل ملحوظ أدى إلى أحداث دموية أحيانًا، إلا أن وضع اليهود قد تحسن في عهد الإدارة البريطانية، وأصبح منهم موظفون وضباط ورجال البوليس، كما قوي مركزهم التجاري، واستولوا على السوق وحلوا محل الإيطاليين في تمثيل الشركات الأجنبية، وشراء الأراضي من الإيطاليين الذين بدأ ملاكها في الهجرة إلى إيطاليا بعد الاحتلال البريطاني تحسبًا للمستقبل. كانت الهجرة الإيطالية جماعية وكلية في برقة، أما في طرابلس فقد بقي بضعة آلاف منهم انتظارًا لتقرير مصير ليبيا بعد الحرب، وبقوا بعد الاستقلال حتى الفاتح من سبتمبر 1969م.
كان أخي علي يسبقني في الدراسة بسنة وعندما تخرج من الابتدائية لم تكن هناك فرصة لدخوله مدرسة ثانوية لعدم وجود تعليم ثانوي في كل إقليم طرابلس، ولم تكن الحالة المالية لوالدي تسمح بإرساله إلى مصر أو أي بلاد أخرى خارج ليبيا لمواصلة تعليمه، ولهذا تفرغ لحفظ القرآن ودراسة العلوم اللغوية والدينية، وأعد نفسه للامتحان لنيل شهادة التدريس. وفعلًا نجح في امتحان المعلمين، وتم تعيينه كمدرس ابتدائي في زاوية المحجوب، وكان يقطع المسافة بين البيت ومدرسة زاوية المحجوب (12 كم) بالدراجة، وانتقل بعدها إلى مدرسة مصراته الابتدائية.

الدراسـة الثانويـة
بعد إتمامي للدراسة الابتدائية في صيف 1946م، علمنا بافتتاح أول مدرسة ثانوية في طرابلس، فقرر بعض زملائي الميسورين الالتحاق بها وهم أحمد امحمد بن لامين وعبدالله إسماعيل بن لامين ومحمد سالم القاضي ومحمد العريفي. كان الأولان من أبناء كبار تجار مصراته، والثالث ابنًا لعميد بلدية مصراته، والرابع ابنًا لأكبر موظف إداري في مصراته. قررت المحاولة مع والدي للموافقة على سفري معهم لمواصلة دراستي. ولم يكن الأمر سهلًا، فمصاريف الدراسة في طرابلس كانت باهظة بالنسبة لوالدي الذي كان مدرسًا.
كانت الإقامة في القسم الداخلي تكلف 1500 مال (عملة أصدرتها الإدارة البريطانية لتحل محل العملة الإيطالية) شهريًا، ومصاريف المدرسة 1000 مال على قسطين، وهذه مبالغ كبيرة، ولكن تحت إصراري ودعم والدتي، وافق والدي على السماح لي بالسفر مع زملائي للالتحاق بمدرسة طرابلس الثانوية في أول سنة دراسية لها.
لم يكن هذا قرارًا سهلًا بالنسبة لوالدي، وكان محرجًا مع أخي علي الذي لم يتمكن من مواصلة دراسته، إلا أن إتمام دراستي الابتدائية صادف افتتاح المدرسة الثانوية في طرابلس، ولم اضطر كما اضطر أخي علي دخول التدريس مبكرًا، لعدم توفر تعليم ثانوي عقب تخرجه من الابتدائية. ولم يكن هذا القرار سهلًا بالنسبة لوالدتي أيضًا، فلم تتعود البعد عن أبنائها، وكان معروفًا أني لن أستطيع زيارة العائلة إلا في مناسبات الأعياد، لأنه رغم أن طرابلس لا تبعد عن مصراته إلا 200 كم، إلا أن المواصلات في تلك الأيام كانت صعبة وتكلف كثيرًا.
 

 

 

 

 

 

وقد خفف من حدة فراقي لوالدتي أن أختها كانت تعيش في طرابلس، وكانت زوجة لإبراهيم سالم عمر باشا المنتصر الذي كان يعيش مع والده عميد عائلة المنتصر ومن كبار الساسة في ولاية إقليم طرابلس، وتولى رئاسة الجبهة الوطنية المتحدة بعد تأسيس الأحزاب السياسية، ثم ترأس حزب الاستقلال. وكان مفروضًا علي أن أزور خالتي أثناء إقامتي في طرابلس وأن تشملني بعنايتها، خاصة أنها لم تنجب أطفالًا، وكانت مشرفة على بيت عمها سالم المنتصر.
وهكذا سافرت إلى طرابلس، وأقمت في القسم الداخلي وبدأنا الدراسة. وافتتحت المدرسة الثانوية رسميًا في احتفال حضره الأعيان وكبار ضباط الإدارة البريطانية. كانت مدة الدراسة خمس سنوات وكان يتولى مهمة مدير المدرسة الأستاذ عبدالحكيم جميل، وهو سوداني، بالإضافة إلى مهامه الأصلية كمدير لإدارة المعارف العربية في ولاية طرابلس. كان أغلب المدرسين ليبيين، وأذكر منهم الأساتذة محمد مسعود فشيكة ومحمود فرحات وفؤاد الكعبازي والمهدي الحجاجي والهادي عرفة ومحمد الأمين الحافي ومظفر فوزي الأمير وعلى جمعة المزوغي ومحمود المسلاتي وعمر الباروني ومدرس الخط أبوبكر ساسي المغربي.

 

 

 

 

 


الأساتذة الليبيين في أول مدرسة ثانوية تفتح في ليبيا بطرابلس سنة 1946م
وهم السادة (من الشمال) مظفر الأمير ومحمود فرحات ومحمد مسعود فشيكة وفؤاد الكعبازي
ووقف خلفهم قدماء المباشرين في المدرسة

 

 

 

 

 

 


1949- الفوج الأول من طلاب مدرسة طرابلس الثانوية: الجالسون في الصف الأول من اليمين : الإخوة سالم عطية، عبدالحفيظ سليمان، مبروك العجيل، إبراهيم الميت وعبدالله إسماعيل بن لامين وجلس أمامهم من اليمين: مصطفى القريتلي وشعبان عريبي. الواقفون من اليمين: الأستاذ محمد مسعود افشيكة، الإخوة محمد الكريو، بشير السني المنتصر، علي الميلودي وخلفهما أحمد الباروني، الأستاذ مصطفى فهمي مدير المدرسة (مصري) وراءه إبراهيم علي الفقيه حسن، ثم أحمد امحمد بن لامين، محمد سالم لطفي القاضي، وراءه: راشد السراج، ثم خيري الصغير، محمد إسماعيل سيالة، عز الدين المبروك، البدراوي أستاذ (مصري) وخلفهما محمد بن محمود ثم بهجت القرامانلي سكرتير المدرسة. وورائهم جزء من حائط المدرسة المهدم من قنابل الحرب والمبنى سبق وأن كان للمدرسة الإسلامية العليا في العهد الإيطالي وأصبح ثكنة عسكرية بريطانية أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية وخصص جزء من المبنى لمدرسة طرابلس الثانوية بعد الحرب وكانت أول مدرسة ثانوية افتتحت في طرابلس.

وكان يدرسنا اللغة العربية والأدب الأستاذ نصر الدين الأسد وكان من الأردن، وقد اشتهر بعد ذلك في مجال تدريس اللغة العربية والأدب العربي في جامعات مصر وليبيا، وأصبح مديرًا للجامعة الأردنية ووزيرًا للتعليم العالي في الحكومة الأردنية، وكان له الفضل في تمكننا من تعلم اللغة العربية، إذ كان معروفًا ومشهورًا في مجال تخصصه. هذا وكان بعض موظفي الإدارة البريطانية من العرب يأتون مساءًا لتعليمنا اللغة الإنجليزية، وأذكر منهم الأساتذة موسى إبشوتي ومنير الطيبي، وقد اشتهرا أخيرًا في الإذاعة البريطانية، والأستاذ شكال وكان يعلمنا اللغة الفرنسية. وفي السنة الثانية قام بالتدريس إلى جانب هؤلاء أعضاء بعثة التدريس المصرية وتولى رئيسها مهام مدير المدرسة وكان اسمه مصطفى فهمي.

حـياة القسم الداخلـي
كانت حياة القسم الداخلي شيئًا جديدًا بالنسبة لنا، فلم نتعود الحياة بعيدًا عن أهالينا في الماضي. وكان طلاب القسم الداخلي من مدن الدواخل في إقليم طرابلس، وأذكر منهم الإخوة عبدالله سويسي وعون رحومة اشقيفة ومبروك العجيل ويحيي عمرو سعيد ومسعود المقدمي ومسعود قنان وعمران العزابي ونوري بازيليا وخيري الصغير ومحمد قويدر وسالم عطية، بالإضافة إلى طلاب مصراته السابق ذكرهم. وكان المسئول على القسم الداخلي الأستاذ محمود فرحات يساعده السيد خيري فرحات وبإشراف مدير المدرسة.
تكرمت خالتي زوجة إبراهيم سالم المنتصر بدعوتي لتمضية نهاية الأسبوع معهم، والاهتمام بتنظيف ملابسي. وكنت أنام في بيت سالم المنتصر يوم الخميس وأرجع الى القسم الداخلي مساء الجمعة. وكنت أتناول الغذاء والعشاء رغم صغر سني على مائدة سالم المنتصر، وكانت دائمًا تضم كبار رجال البلد والضيوف العرب، وكان بعضهم يلازمونه باستمرار ويتناولون الطعام على مائدته يوميًا، وكان من ضيوفه الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة وغيره الذين لم تسعفني الذاكرة بتذكرهم. وقد استفدت من مشاركتهم المائدة والاستماع الى أحاديثهم، فقد كانوا يتناولون الشئون السياسة الليبية والعربية والعالمية.
وكانت ليبيا في فترة الأربعينات تمر بفترة هامة، وتنتظر البت في مستقبلها من طرف الدول الكبرى المنتصرة في الحرب، ثم من طرف الأمم المتحدة التي أحيلت إليها مسئولية البت في مستقبل المستعمرات الإيطالية. وكانت تصرفات الإدارة البريطانية والنشاط السياسي للأحزاب والشخصيات السياسية دائمًا في طليعة مواضيع التعليق. ولما كان طلاب المدرسة الثانوية في تلك الفترة يشاركون في النشاط السياسي على أوسع نطاق، فقد كان دوري على المائدة إعطاء فكرة عما يجري من مظاهرات وخطب، وخاصة بعد استقالة السيد سالم المنتصر من رئاسة الجبهة الوطنية المتحدة، وعزلته المؤقتة عن المشاركة في النشاط السياسي، وانفراد السيد بشير السعداوي بزعامة الحركة الوطنية والتفاف جماهير الشعب حوله.

السيد سالم عمر المنتصر
كان السيد سالم عمر المنتصر في طليعة زعماء ليبيا الذين شاركوا في النشاط السياسي والحزبي في الفترة التي سبقت الاستقلال وبعده. ولد في مصراته في أواخر القرن التاسع عشر وتعلم في المدارس التركية وعلى أيدي علماء مصراته في مجال اللغة العربية والدين. كان والده عمر باشا المنتصر قائمقامًا على سرت، وتولى هو بدوره قائمقامًا على مصراته حتى الاحتلال الإيطالي. انتقل هو ووالده عمر باشا المنتصر وإخوته أحمد وعبدالقادر إلى طرابلس بعد الاحتلال الإيطالي لأسباب سبق ذكرها. أنجب السيد سالم المنتصر ولدين إبراهيم ومحفوظ وبنتين، إحداهما تزوجت السيد مختار حسن المنتصر، والأخرى تزوجت السيد عبدالله بلقاسم المنتصر. بقي بعد الاحتلال الإيطالي في الوطن كغيره من زعماء البلاد في مدينة طرابلس، الذين تركز دورهم على مساعدة المواطنين الليبيين الذين تعرضوا للسجن والاضطهاد والعسف، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد أن سيطرت إيطاليا على مقاليد البلاد. وقد اكتسب احترام الحكومة الإيطالية كغيره من زعماء البلاد الآخرين الذين نزعوا للسلم في التعامل معها، وعين كمستشار للشئون العربية.
بعد زوال الحكم الإيطالي سارع سالم المنتصر إلى المشاركة في النشاط السياسي والحزبي على رأس زعماء البلاد في الداخل، وانضم إليهم بعد ذلك زعماء البلاد في الخارج، والذين رجع بعضهم من المهجر للانضمام إلى إخوانهم الليبيين في الداخل، للمشاركة في المطالبة بوحدة ليبيا واستقلالها والانضمام إلى جامعة الدول العربية التي كانت تضم بعض الدول العربية المستقلة.
كانت سياسة إيطاليا ترمي إلى ضم ليبيا إلى إيطاليا، وإعطاء الليبيين حق الجنسية الإيطالية مع احتفاظهم بالدين الإسلامي. هذه السياسة لاقت معارضة واستنكار زعماء وعلماء البلاد في الداخل، الذين قادوا الحركة الوطنية الشعبية لرفض هذه السياسة الاستعمارية. وبعد هزيمة إيطاليا في الحرب واحتلال برقة وطرابلس من طرف بريطانيا وفزان من طرف فرنسا، سمحت إدارة الاحتلال البريطانية للمواطنين الليبيين بحرية التعبير والنشاط السياسي، وإصدار الصحف، وإنشاء النوادي الرياضية والأدبية، وأخيرًا إنشاء الأحزاب السياسية التي أجمعت على المناداة باستقلال البلاد ووحدتها والانضمام إلى الجامعة العربية.
ورغبة في توحيد كلمة الشعب والأحزاب السياسية التي تألفت في تللك الفترة، تكونت في مايو 1946م الجبهة الوطنية المتحدة، التي ضمت كبار زعماء الأحزاب والزعماء المستقلين، واختير السيد سالم المنتصر رئيسًا لها. وقد قامت الجبهة الوطنية المتحدة بزعامته برفع مطالب الشعب الليبي المتمثلة في الاستقلال ووحدة الأقاليم الليبية والانضمام إلى الجامعة العربية إلى الدول الأربع الكبرى التي بدأت النظر في مصير المستعمرات الإيطالية، وإلى دول الاحتلال، بريطانيا وفرنسا، وطالبت البدء حالًا في تلييب الإدارة وإعداد البلاد للاستقلال. ولتحقيق وحدة الأقاليم الليبية، التي أخضعت لإدارات منفصلة بعد الاحتلال (رغبة في تقسيم ليبيا بين الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب)، قامت الجبهة الوطنية المتحدة بطرابلس بتأليف وفد كبير برئاسة الشيخ محمد أبوالأسعاد العالم، ومن الأعضاء السادة إبراهيم بن شعبان، عبدالمجيد كعبار، عبدالرحمن القلهود، سالم المريض، عون أحمد سوف، محمد الميت ومختار حسن المنتصر.
سافر وفد الجبهة الوطنية المتحدة إلى بنغازي في يناير 1947م، للاجتماع بأعضاء الجبهة الوطنية البرقاوية، لإقرار وحدة ليبيا واستقلالها، والاتفاق على نظام الحكم بما في ذلك إمارة السيد محمد إدريس السنوسي، التي يعتبرها البرقاويون شرطًا أساسيًا للوحدة الليبية، والحيلولة دون تقسيم ليبيا إلى ولايات أو دول قزمية، خاصة وأن الإدارة البريطانية بدأت تعد برقة للحكم الذاتي تحت إمارة السيد إدريس السنوسي. لم تنجح المباحثات بين زعماء برقة وطرابلس، وقد أدى فشل هذه المباحثات إلى انقسام بين زعماء طرابلس على سياسة واحدة.
في يناير 1948 عاد السيد بشير السعداوي إلى ليبيا على رأس هيئة تحرير ليبيا، واستُقبل استقبالًا شعبيًا ورسميًا. وكانت هيئة تحرير ليبيا تنادي بالاستقلال والوحدة والانضمام إلى الجامعة العربية حسب السياسة التي رسمتها لها الجامعة العربية وأمينها العام آنذاك السيد عبدالرحمن عزام باشا، الذي كان يعارض إمارة السيد إدريس السنوسي لأسباب تاريخية وشخصية.
وبعد أن وطد السيد بشير السعداوي زعامته في إقليم طرابلس، قام بتأليف المؤتمر الوطني العام (الطرابلسي) في أوائل يوليو 1949م برئاسته، وانضمام عدد كبير من زعماء البلاد إليه بما فيهم عدد كبير من أعضاء الجبهة الوطنية المتحدة. استقال على إثر ذلك السيد سالم المنتصر من رئاسة الجبهة الوطنية المتحدة ولزم العزلة وامتنع عن أي نشاط سياسي رسمي، وأسندت رئاسة الجبهة الوطنية المتحدة إلى الشيخ محمد أبوالأسعاد العالم الذي تولى بدورة منصب نائب رئيس المؤتمر الوطني.
بعد سقوط مشروع بيفن ـ سفورزا في الأمم المتحدة وبداية الإعداد للاستقلال، وسيطرة السيد بشير السعداوي على الرأي العام في طرابلس، شعر السيد سالم المنتصر مع غيره من زعماء إقليم طرابلس التقليديين، وأفراد العائلات ذات النفوذ في دواخل القطر الطرابلسي، بضرورة المشاركة في النشاط السياسي للبلاد، وعدم تركه لزعماء المهجر الذين رجعوا للبلاد بعد الاحتلال البريطاني، وعلى رأسهم الزعيم بشير السعداوي. ولهذا سارعوا بتأليف حزب الاستقلال الذي ضم زعماء الأقاليم التقليديين في ولاية طرابلس، وأذكر منهم السادة علي بن شعبان من زوارة والشيخ أحمد قرزة من مزدة وعبدالمجيد وأحمد راسم كعبار من غريان وعلي تامر من ورفلة وأبوبكر نعامة من ترهونة وبعض أفراد عائلة المنتصر من مصراته وسرت وعبدالله الشريف ونور الدين المسعودي سكرتير حزب الاستقلال من طرابلس وغيرهم كثيرين.

 

 


وقد وجدت إيطاليا في حزب الاستقلال فرصة لدعمه ومساندته لخلق مشاكل لبريطانيا، والحيلولة دون انفرادها بالنفوذ على ليبيا المستقلة بعد أن خدعتها بتأييد مشروع بيفن ـ سفورزا في الأمم المتحدة، وعملها في ليبيا على تشجيع الليبيين في كل أنحاء ليبيا لمعارضته، والمطالبة بالاستقلال تحت إمارة حليفها الأمير إدريس السنوسي. كما أن الجامعة العربية وسكرتيرها العام عزام باشا، وبعض الدول العربية، وجدت في اندفاع السيد بشير السعداوي في قبول إمارة السيد محمد إدريس السنوسي غير المشروطة، والسير مع السياسة البريطانية في رسم مستقبل ليبيا، فرصة لتأييد حزب الاستقلال ضد السيد بشير السعداوي، مما حدا بهذا الأخير إلى عقد مؤتمر تاجوراء الشهير لمهاجمة السيد عزام باشا وإدانة تدخله في الشئون الليبية.
وبعد انشقاق زعماء المؤتمر الوطني وتخلي عدد كبير منهم عن السيد بشير السعداوي بزعامة نائب رئيس المؤتمر الشيخ محمد أبوالأسعاد العالم، وتحالفهم مع زعماء حزب الاستقلال، تمت مشاركتهم في إقرار تأليف الجمعية الوطنية التأسيسية بالتعيين، وقبول النظام الفيدرالي، وإعلان الملك إدريس ملكًا على البلاد، وتأليف الحكومة المؤقتة والحكومة الفيدرالية برئاسة السيد محمود المنتصر، الذي لعب دورًا محايدًا في هذه الخلافات السياسية بين زعماء الأحزاب الطرابلسية. أما السيد سالم المنتصر رئيس حزب الاستقلال، ورغم قبوله بالأوضاع التي قامت بعد الاستقلال، إلا أنه لم يكن راضيًا عن سياسة ابن أخيه السيد محمود المنتصر لأسباب تعرضت لها في غير هذا المكان، وقد توقف عن نشاطه الحزبي واكتفى بعضوية مجلس الشيوخ حتى توفي سنة 1965م.
شخصية السيد سالم المنتصر موضع خلاف لدى كثيرين من السياسيين والمؤرخين والمواطنين. فرغم أن البعض يرى فيه السياسي المحنك الأقدر على فهم الأوضاع الداخلية والمناورات الخارجية، يتهمه البعض الآخر بالرجعية ومحاباته لإيطاليا. ولا يمكن لأي إنسان أن يعرف السيد سالم المنتصر على حقيقته، إلا إذا كان قد عرفه عن قرب، واجتمع به وشارك في ندواته المستمرة مع زعماء البلاد من أجيال مختلفة. عرفت السيد سالم المنتصر عندما كنت طالبًا في المدرسة الثانوية في طرابلس، وكنت أحظى بالحديث معه، والجلوس على مائدة طعامه، التي كانت تضم دائمًا كبار الزعماء الليبيين والزوار من الزعماء والساسة العرب.
كان السيد سالم المنتصر ملمًا بشئون المنطقة العربية وتطوراتها منذ العهد العثماني، وكان على ثقافة عربية عالية، ويقرأ كل ما يصل ليبيا من صحف وكتب ومجلات عربية في تلك الفترة. وكان دائما يعطيني بعض الجرائد والمجلات المصرية كلما زرته في نهاية الأسبوع، وكان سعيدًا بأني أعرف العربية ولست كغيري من الشباب الذين لا يتقنون إلا اللغة الإيطالية. وعندما كنت طالبًا في القاهرة في الجامعة كنت أزوره كلما عدت إلى طرابلس في العطلة الصيفية، وكان يستقبلني في نهاية سلم بيته ويودعني حتى باب منزله على رغم صغر سني، مما يدل على تواضعه وأخلاقه العالية. وكنت أقضي معه وقتًا شيقًا في مناقشة ما يجري في مصر، ورأيه في عبدالناصر والزعماء العرب الآخرين.
        كان السيد سالم المنتصر من الرعيل الأول للساسة العرب الذين شبوا وتعلموا في العهد العثماني، والذين عايشوا نهاية الإمبراطورية العثمانية وتقاسم الدول العظمي لممالكها الواسعة. كان وطنيًا صادقًا، يحب ليبيا والشعب الليبي، كما كان قوي الحجة في كلامه ونقاشه ويستمع باهتمام إلى من يحاوره. كان من السياسيين الذين يؤمنون بعامل القوة في السياسة الدولية، وهو مبدأ مسلم به في علم السياسة، وعدم النزوع إلى العنف لتحقيق أهداف البلاد. واليوم رغم الاعتراف بالحريات وإعلان حقوق الإنسان، لا زال عامل القوة هو الأساس في حسم القرارات الدولية. كان يرى في سياسة الرئيس عبدالناصر ومهاجمة الدول الكبرى سياسة غير حكيمة، وهو يرى ويؤمن أن الدول العظمى لها المقدرة في انتظار أول فرصة للإنتقام من أعدائها، ويعتقد بأن الرئيس عبدالناصر سينتهي بضربة على أيدي الدول الكبرى أو بتحريض إسرائيل عليه طال الزمن أو قصر، وكان يقول هذا قبل حرب السويس وطبعًا قبل حرب 1967م.
كنت رغم تفهمي لما يقول، أختلف معه في الرأي، فقد كنت متحمسًا ناصريًا قلبًا وقالبًا. كان سالم المنتصر يعزي الخلاف بين زعماء ليبيا إلى المطامع الشخصية، ويرى في السيد بشير السعداوي سياسيًا مندفعًا في مطامعه الشخصية الرامية إلى السيطرة على البلاد، دون الأخذ في الأعتبار أراء غيره من زعماء البلاد. كما كان يستنكر أعمال الإدارة البريطانية، وتدخلها الصريح في النشاط الوطني، ودعمها لخصومه السياسيين في المؤتمر الوطني العام في الفترة الأولى للإعداد للاستقلال.
كان السيد سالم المنتصر يستمع إلى غيره من الزعماء الذين يشاركونه مائدة طعامه باستمرار، مثل السيد عون سوف والسيد العيساوي بوخنجر والسيد الدكتور خيري بن قدارة، وهم من الذين عاشوا في مصر وسوريا وعلى إلمام بالسياسات العربية ومناورات الزعماء العرب، وكذلك ابنه الأكبر إبراهيم الملم بالشئون الدولية والمتابع لما تنشره الصحافة الإيطالية والعالمية. كان السيد سالم المنتصر يتميز بالجدية والمرجعية، وكان استعراض الأحداث في ليبيا على رأس المواضيع التي يتعرض لها في حديثه مع جلسائه، كما أن نقاشه مع الزعماء العرب الذين يزورون ليبيا يتميز بالموضوعية والإلمام بالمشاكل العربية. لم يكن راضيًا عن مجرى الأحداث في ليبيا وعن تسليم مقاليد البلاد لأشخاص غير جديرين بها حسب رأيه. وهو يعرف أن الملك إدريس لا يثق فيه كثيرًا، ولا يدعوه للاستشارة، ويظهر أن مواقفه السابقة عندما كان رئيسًا للجبهة الوطنية المتحدة بشأن عدم إقرار مبدأ الإمارة مقدمًا وضرورة إخضاعها لقيود دستورية هى مصدر هذا الجفاء بين الرجلين الملك إدريس وسالم المنتصر. ومنذ تركه للنشاط السياسي والحزبي في سنة 1952م بعد إعلان الاستقلال لم يشارك بنشاط يذكر في تسيير الأمور في البلاد.

مدرسة طرابلس الثانوية
كانت المدرسة الثانوية بطرابلس في مبنى المدرسة الإسلامية العليا بمنطقة الظهرة، التي أسسها الإيطاليون سنة 1936م، وانتهى نشاطها بعد زوال الحكم الإيطالي. وقد استخدم المبنى أيام الحرب كثكنة عسكرية للقوات البريطانية، وقد خصص قسم منه للمدرسة الثانوية، وبقي معظم المبنى محتلًا من طرف الجنود البريطانيين. وكان الطلبة الليبيين الصغار في القسم الداخلي يشاركون الجنود البريطانيين نفس المبنى. كما كان طلاب القسم الداخلي يساهمون في عملية رفع الأنقاض من بعض أجزاء مبنى المدرسة المهدم نتيجة لتعرضه للقنابل أثناء الحرب.
كانت الدراسة في المدرسة الثانوية حقل تجارب للمناهج الدراسية، فقد استورد البريطانيون المناهج الدراسية من فلسطين ومصر والسودان، التي كانت تحت السيطرة البريطانية، وكذلك كان المدرسون متعددي الجنسيات. وقد كان هذا التعدد في المناهج وفي المدرسين مصدر ضعف وقوة في آن واحد، فكان مستوى التعليم ممتازًا يفوق غيره في البلاد التي استوردت منها هذه المناهج. كانت رغبتنا كطلاب ليبيين في تعلم المزيد كبيرة، وكنا نشعر بحاجة بلادنا إلى متعلمين، فلم يزد عدد المتعلمين الجامعيين في ليبيا في تلك الفترة عن بضعة أفراد، وكانت رغبتنا في مواصلة تعليمنا الجامعي قوية.
وأذكر أنه في السنوات الأخيرة 1949-1951م، كانت الإدارة البريطانية مشغولة بتعيين وتدريب الموظفين الليبيين لتلييب الوظائف الإدارية والفنية الرئيسية، استعدادًا لاستقلال البلاد المقرر له نهاية 1951م. واتجهت أنظار رئيس الإدارة العسكرية البريطانية آنذاك المستر تريفرز بلاكلي إلى طلاب مدرسة طرابلس الثانوية بصفتها أعلى معهد تعليمي في البلاد. وقد زارنا شخصيًا، وعرض علينا وحاول أن يقنعنا بدخول دورة تدريبية وقبول وظائف إدارية عالية، ولكن معظمنا رفض عرضه وأصر كل منا على مواصلة دراسته الجامعية.
وقد نظمت المدرسة لنا رحلة إلى تونس في سنة 1947م، رافقنا فيها بعض أساتذة المدرسة الليبيين. وقد زرنا معظم المدن التونسية، ونزلنا في المعهد الميلوبي، وزرنا المدرسة الصادقية التي كانت قلعة التعليم العربي في تونس، وحضرنا محاضرات لمدير المعهد والأستاذ المسعودي والأستاذ علي البهلوان. وكان استقبال التونسيين لنا عظيمًا، تناول حتى تبادل الخطب الوطنية تحت رقابة البوليس الفرنسي، الذي كان يراقبنا عن كثب. وزرنا باي تونس الأمين باي محمد بن الحبيب (آخر البايات) في قصره، والوزير الأول السيد مصطفى الكعاك، وبعض الوزراء. ورغم وجود حكومة تونسية، إلا أن تونس كان يديرها الحاكم العام الفرنسي بالحديد والنار.
وبعد رجوعنا إلى طرابلس، دفعتني قريحة الكتابة فأعددت وصفًا طويلًا لزيارتنا إلى تونس ومعالمها ومعاهدها وحكومتها بالتفاصيل الدقيقة، التى كنت أسجلها منذ تحركنا من طرابلس حتى عودتنا من تونس. وكان هذا بالنسبة لي أول تقرير صحفي كامل أقوم به، وقد أعطيته إلى الأستاذ محمد مسعود فشيكة أستاذنا في التاريخ آنذاك للإطلاع عليه، وقد أعجب به جدًا وشكرني على هذا العمل الأدبي واحتفظ بالتقرير. ولما كانت علاقتي معه وطيدة منذ سنوات الدراسة الابتدائية في مصراته، فقد كان دائما يذكرني بتقريري عن زيارتنا إلى تونس. وقد قال لي مرة بأن تقريري عن الزيارة كان أحد مراجعه أثناء إعداده لكتابه (كأنك معي في طرابلس وتونس)، الذي نشره بعد الزيارة مباشرة.
في هذه الفترة ذهبنا أيضًا في أول رحلة مدرسية إلى الجبل الغربي لرؤية غريان ونالوت ويفرن وباقي بقاع الجبل الجميل الأشم. وكنا في حافلة كبيرة، وهي سيارة نقل كبيرة وضعت فيها مقاعد خشبية طويلة وغطيت بقماش سميك، وهي من نوع الحافلات الذي كان متوفرًا في ذلك الوقت للمواصلات العامة. وكان معنا بعض الأساتذة، وكان من بينهم الأستاذ كاظم نديم بن موسى، الذي كان يتحفنا بموسيقاه وألحانه العذبة الجميلة طوال أيام الرحلة.
وفي إحدي الليالي جلس أحد الزملاء الطلاب على آلة العود التى كانت تلازم الأستاذ كاظم طوال اليوم، وذلك عن طريق الخطأ، فكسر العود ولم يعد صالحًا للاستعمال. وقد وقع هذا الحادث على الأستاذ كاظم وقع الصاعقة، وانهمر في البكاء كأنه فقد عزيزًا عليه، ولم تفلح معه محاولات المواساة والأسف التي أحاطوه بها الأساتذة والطلاب لتخفيف وطأة الحادثة عليه، وبقى حزينًا حتى نهاية الرحلة. وآله العود هذه التي كسرت كانت رفيق طفولته وشبابه، بالإضافة إلى عدم توفر مثل هذه الآلة بسهولة في أسواق طرابلس في ذلك الوقت.
في سنة 1949م، عندما كنت في السنة رابعة ثانوي، نقل والدي من وظيفة مدير التعليم بمصراته إلى طرابلس كمدير للتعليم بها. وهكذا انتقلت العائلة إلى طرابلس، وغادرت أنا حياة القسم الداخلي في المدرسة للعيش مع العائلة من جديد. وكان أخي علي قد نقل بدوره كمدرس من مدرسة مصراته الابتدائية إلى مدرسة طرابلس الابتدائية بشارع ميزران. عشنا في أول الأمر في شقة صغيرة خلف ميدان الشهداء، ثم انتقلنا إلى شقة في أخر شارع ميزران، حتى اشترى والدي بيتًا كبيرًا في شارع حلب خلف شارع الاستقلال والمحاذي لشارع حسونة باشا. هذا وقد ولد في يناير سنة 1950م أخونا الأصغر عبدالعظيم. وكان أخي أحمد السني قد ولد سنة 1947م في مصراته، وكنت غائبًا في المدرسة في طرابلس آنذاك، ولما رجعت في عطلة الصيف وجدت القادم الجديد في حجر أمه. وهكذا أصبحنا ستة أبناء (خمسة أولاد وبنت) على قيد الحياة  في تلك الفترة، وقد مات أخ لنا وأختان وهم أطفال قبل وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.
انتقلت المدرسة الثانوية بدورها إلى مبنى جديد بشارع ميزران، وكان هذا المبني بدوره ثكنة عسكرية بريطانية، وكانت مجاورة للبيت الذي كنا نسكنه. وقد أصبحت أشارك أخي علي حجرة نوم واحدة، وكان يدرس اللغة الإنجليزية ويتعلم خارج المدرسة إلى جانب عمله كمدرس، ويحاول بجد رفع مستواه العلمي، كما كان يفعل غيره من الذين لم تتح لهم فرص مواصلة التعليم العالي. كان على جانب كبير من الذكاء ومزايا عديدة أخرى، وله أسلوب مميز في الانتقاد وطلاقة اللسان، ويملك موهبة للنكات اللاذعة، كلها صفات كانت تبشر بمستقبل ناجح. وفعلًا تحقق هذا، فقد قضى كل حياته بعد التدريس في الخارج كدبلوماسي ليبي في لندن وروما، وتدرج حتى وصل إلى درجة قائم بأعمال أول سفارة ليبية في الجزائر، ثم سفيرًا في يوغسلافيا في العهد الملكي، ثم سفيرًا في فنزويلا والبرازيل وكوبا، وسفيرًا معتمدًا غير مقيم في كل من سيرنام والأرجنتين وتشيلي، وأخيرًا في البعثة الليبية في نيويورك في الأمم المتحدة بعد الفاتح من سبتمبر 1969، وقد استمر في نيويورك حتى 1994. وقد انتخب رئيسًا للجنة الخامسة للجمعية العامة للأمم المتحدة مرتين، وترأس عدة لجان تابعة للأمم المتحدة.

حركـة وطنـية نـشطة
كانت سنوات دراستي في طرابلس تتميز بفترة نشاط للحركة الوطنية في ليبيا، إذ بدأت الحركات الوطنية تنادي بالاستقلال ووحدة ليبيا. وكان مستقبل المستعمرات الإيطالية السابقة لا زال تبحثه الدول الكبرى المنتصرة في الحرب، وقد عجزت عن اتخاذ قرار بشأنها. فقد كانت روسيا تحاول الحصول على الوصاية على طرابلس، ولم تكن أمريكا وبريطانيا راغبتين في توسع روسيا جنوبًا في البحر المتوسط، ولهذا أحيل موضوع المستعمرات الإيطالية للأمم المتحدة. كان النشاط الوطني في الأول يتركز في النوادي التي أسست في عهد الإدارة البريطانية، وكان نشاطها اجتماعيًا موجهًا نحو الأدب والرياضة.
وبدأ تأليف الأحزاب السياسية كالحزب الوطني وترأسه السيد أحمد الفقيه حسن، ثم الحاج مصطفى ميزران، والكتلة الوطنية الحرة وتزعمها الأخوان على وأحمد الفقيه حسن، وحزب العمال وترأسه السيد بشير بن حمزة، وحزب الاتحاد الطرابلسي المصري وترأسه السيد علي بن رجب، وحزب الأحرار وترأسه السيد الصادق بن زراع. ثم تألفت الجبهة الوطنية المتحدة من معظم الأحزاب وترأسها السيد سالم المنتصر.

 

 

 

وقد تأسس بعد ذلك حزب المؤتمر الوطني العام، الذي حل محل الجبهة الوطنية المتحدة برئاسة السيد بشير السعداوي، وضم زعماء الحزب الوطني ومعظم الشخصيات الهامة من مدينة طرابلس والدواخل وكبار التجار وموظفي الإدارة البريطانية من الليبيين وعمداء البلديات، وتمتع بشعبية كبيرة لدى الجماهير أيضًا. وأخيرًا تألف حزب الاستقلال الذي ترأسه السيد سالم المنتصر بعد استقالته من الجبهة الوطنية المتحدة بسبب خلافه مع السيد بشير السعداوي.                            
كان السيد بشير السعداوي قد جاء على رأس هيئة تحرير ليبيا التي أسستها الجامعة العربية وأمينها العام عبدالرحمن عزام باشا بمصر في مارس 1947م. وقد اختير السعداوي لرئاستها وضمت عددًا من الزعماء، وكان من ضمنهم السادة محمود المنتصر  والطاهر المريض ومنصور بن قدارة وجواد بن زكري وأحمد السويحلي، وكان هدف هيئة التحرير إعداد الشعب الليبي لعملية الاستفتاء التى وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على إجرائه وإرسال بعثة تشرف على ذلك لمعرفة ماذا يريد الليبيون لمستقبلهم.
كانت هيئة التحرير تنادي بالاستقلال ووحدة ليبيا بين طرابلس وبرقة وفزان التي كانت تخضع لإدارات عسكرية منفصلة. وقد استُقبل السعداوي شعبيًا في طرابلس، كما رحبت به الإدارة البريطانية لرغبتها في توحيد ليبيا تحت إمارة السيد إدريس السنوسي، الذي ترتبط بعلاقات صداقة معه عندما كان لاجئًا سياسيًا في مصر، ولهذا أعدت للسعداوي استقبالات في المدن الطرابلسية نظمت شعبيًا وشجعت رسميًا من طرف رجال الإدارة البريطانية.

 

 

 

1946- السيد عبدالرحمن عزام أمين عام جامعة الدول العربية (1945-1952م) بمكتبه بالقاهرة

كانت بريطانيا قد اتفقت مع إيطاليا تحت ضغوط أمريكية، ولقطع الطريق أمام روسيا التي كانت تطالب بالوصاية على طربلس، على تقديم مشروع بيفن ـ سفورزا في مايو 1949م (وهذه التسمية نسبة إلى اسمي وزير خارجية بريطانيا المستر إرنست بيفن ووزير خارجية إيطاليا الكونت كارلو سفورزا في ذلك الوقت) إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة لتقسيم ليبيا إلى ثلاث مناطق، بحيث تبقى برقة تحت الوصاية البريطانية، وفاءًا بالوعد الذي أعطته بريطانيا للسيد محمد إدريس السنوسي أثناء الحرب بعدم رجوع برقة تحت الحكم الإيطالي، وتوضع طرابلس تحت الوصاية الإيطالية، وتوضع فزان تحت الوصاية الفرنسية.
وكانت السياسة البريطانية غير المعلنة هي السعي للسيطرة على كل ليبيا، والحيلولة دون عودة إيطاليا إلى طرابلس، الشئ الذي لم تستطع المطالبة به دوليًا خوفًا من رفض الدول الكبرى الأخرى. وكان الحل الوحيد لتحقيق هذا الهدف هو تشجيع الليبيين على المناداة باستقلال كل ليبيا تحت إمارة السيد إدريس السنوسي، مما سيسهل عليها ربط ليبيا ببريطانيا باتفاقية تحالف تمكنها من السيطرة على كل ليبيا بعد الاستقلال. ولهذا عندما فشلت المباحثات بين زعماء طرابلس وبرقة على الوحدة وإمارة السيد إدريس السنوسي، رحبت الإدارة البريطانية بقدوم هيئة تحرير ليبيا التى كانت تنادي بالاستقلال والوحدة، وشجعت السيد بشير السعداوي لتوحيد كلمة الطرابلسيين على هذه السياسة التي هي في صالح ليبيا وتخدم أهداف بريطانيا الخفية.      

 

 

الكونت كارلو سفورزا                    المستر إرنست بيفن

وكما أشرنا سابقًا، قامت الجبهة الوطنية المتحدة في يناير 1947 بإرسال وفد يمثل طرابلس للاجتماع بممثلي برقة، المتمثلين في جبهتهم الوطنية، لدراسة مستقبل ليبيا وتنسيق الجهود بينهم لتحقيق الاستقلال والوحدة. وكانت برقة تتمتع برعاية خاصة من بريطانيا. فقد أصدر وزير خارجية بريطانيا المستر أنتوني إيدن تصريحًا في البرلمان البريطاني في يناير 1942م، تلتزم به بريطانيا بعدم السماح لرجوع إيطاليا إلى برقة، تقديرًا لمشاركة جيش التحرير السنوسي لبريطانيا في حربها ضد قوات المحور، وهذا دفع بريطانيا إلى الموافقة على استقلال برقة تحت إلحاح الأمير إدريس دون الانتظار لقرار الأمم المتحدة.
لم يستطع وفد الجبهة الوطنية المتحدة  الذي سافر إلى بنغازي للاتفاق مع ممثلي برقة، فقد أصر ممثلوا طرابلس على المطالبة بالاستقلال ووحدة ليبيا تحت إمارة الأمير محمد إدريس السنوسي، المشروطة بنظام ديمقراطي برلماني، السلطة فيه للشعب، ورفض أي قرار بتقسيم ليبيا. ولكن ممثلي برقة أصروا على مبدأ إمارة السيد إدريس السنوسي بلا قيد أو شرط، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أي إذا تعذرت الموافقة على استقلال كل ليبيا والوحدة، يتم استقلال برقة ثم العمل على استقلال طرابلس وفزان وتحقيق الوحدة تحت التاج السنوسي دون قيد أو شرط بعد ذلك، ولم تنجح هذه المباحثات بين الوفدين الطرابلسي والبرقاوي.
بعد تقديم مشروع بيفن ـ سفورزا إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة قامت المظاهرات الصاخبة في المدن الليبية ضده، وكانت الإدارة البريطانية كما بينت تشجعها، رغم أن
بيفن وزير خارجيتها هو أحد مقدمي المشروع، للأسباب التي أوضحتها أعلاه. كانت
هذه المظاهرات تستوعب معظم وقتنا، وكنا طلاب المدرسة الثانوية في طليعة الطلاب الذين كانوا عصب المظاهرات والاحتجاجات ضد هذا المشروع. ولم نكن نجد معارضة من هيئة التدريس المصرية أو من رجال الشرطة بقيادة الضباط البريطانيين، بل بالعكس، كنا نجد التشجيع، وخاصة من مدير المدرسة السيد مصطفى فهمي المصري الجنسية. وكان ضباط الشرطة البريطانيين يشجعون وينظمون سير المظاهرات، ولا أذكر أن قامت الشرطة بأي عمل ضد المتظاهرين. إلى جانب معارضة الشعب الليبي لمشروع
بيفن ـ سفورزا، كانت الشعوب والدول العربية والجامعة العربية تقف كلها إلى جانب الشعب الليبي.
وكما ذكرت، قامت الجامعة العربية، بدعم من مصر بإرسال هيئة تحرير ليبيا
برئاسة بشير السعداوي، الذي استطاع كسب تأييد الشعب الليبي، الذي كان يرى
في الجامعة العربية والقاهرة مصدر دعم وقوة له، خاصة أنه كان على رأس الجامعة
العربية آنذاك، شخص مشهور بجهاده مع الليبيين ضد إيطاليا بعد الحرب العالمية
الأولى، ألا وهو السيد عبدالرحمن عزام باشا. أسس السعداوي المؤتمر الوطني العام بعد
خلافه مع بعض زعماء طرابلس على مبدأ الإمارة التي كان يراها ضرورة ولا تحتاج
إلى استفتاء شعبي، رغم أن هذا المبدأ لم يكن في برنامج هيئة التحرير التي ألفها عزام
باشا وترأسها السعداوي. وقد استطاع المؤتمر الوطني برئاسة السعداوي الحصول
على تأييد أغلبية الشعب وخاصة في المدن. وكان المؤتمر الوطني يضم أغلبية الشباب الطرابلسي المتحمس وموظفي الحكومة والتجار والطبقة المثقفة، ويتمتع بتشجيع الإدارة البريطانية، وخاصة بعد فشل مشروع بيفن ـ سفورزا وموافقة الجمعية العامة على استقلال ليبيا، بعد انتهاء لجنة التحقيق من زيارة ليبيا وتقديم تقريرها الذي أكد إصرار الشعب الليبي على استقلاله ووحدته.

 

 

 


طرابلس أبريل 1973م - قبل وفاته بفترة وجيزة السيد عبدالرحمن عزام  (الأول من اليمين ) يتسلم مفتاح مدينة طرابلس ويقف على شماله الشيخ الطاهر الزاوي مفتي ليبيا

كان تأييد السعداوي لمبدأ إمارة السيد إدريس السنوسي قبل إقرارها رسميًا من الشعب الليبي، ودون قيد أو شرط، قد جر عليه معارضة بعض الأحزاب الطرابلسية (حزب الاستقلال وحزب الكتلة) والجامعة العربية وأمينها العام السيد عبدالرحمن عزام باشا الذي سبق وأن عين وأيد السعداوي كرئيس لهيئة تحرير ليبيا. كان عزام باشا على معرفة بتاريخ الكفاح الليبي، وبعلاقات الأمير إدريس السنوسي السابقة، وتحالفه مع بريطانيا منذ الحرب الليبية الإيطالية. وقد عاش عزام باشا طوال حياته مناوئًا لسياسة البريطانيين عندما كان في ليبيا، ثم في مصر، ويعارض نفوذهم في المنطقة العربية، ولهذا كان يرى أن وضع كل السلطات في أيدي الأمير إدريس السنوسي لحكم ليبيا، معناه في رأيه، تمكين البريطانيين من جر ليبيا المستقلة إلى التحالف معهم وإبعاد ليبيا عن مصر والدول العربية.
وكانت مصر وبعض الدول العربية ترى نفس السياسة، ولهذا عندما قبل السعداوي بإمارة السيد إدريس دون قيد أو شرط، أعلن عزام باشا معارضته له، بل أصبح يساند حزب الاستقلال المناوئ للسعداوي. كما إن إيطاليا أصبحت تساند وتدعم حزب الاستقلال بعد أن شعرت بأن بريطانيا خذلتها. فرغم اشتراك بريطانيا مع إيطاليا في تقديم مشروع بيفن ـ سفورزا، إلا أن بريطانيا كانت تسعى من وراء الستار إلى تشجيع وحدة ليبيا واستقلالها، وربط ليبيا المستقلة بتحالف مع بريطانيا، والانفراد بها، مستغلة علاقتها الوثيقة مع السيد إدريس السنوسي. وقد تجلى ذلك، كما أوضحت، في تشجيع المظاهرات داخل ليبيا للمطالبة بالاستقلال والوحدة تحت التاج السنوسي، مما أفشل مشروع بيفن ـ سفورزا، الذي حال دون تولي إيطاليا الوصاية على طرابلس. لم ينجح حزب الاستقلال ولا إيطاليا ولا الجامعة العربية في إضعاف زعامة السعداوي، بعد أن حاز على ثقة أغلبية الشعب في طرابلس بدون منازع، ودعم الإدارة البريطانية له.
وبعد شعور السعداوي بمعارضة الجامعة العربية وعزام باشا والعرب وتأييدهم لخصومه حزب الاستقلال، عقد مؤتمر تاجوراء الشعبي الكبير، الذي أعلن فيه تأييده لإمارة إدريس السنوسي، وتنديده بعزام باشا وسياسته المناوئة للسعداوي وللمؤتمر الوطني العام. كان دافع السعداوي من هذه السياسة الجديدة هو تحقيق وحدة حقيقية لليبيا يتولى فيها هو مسئولية رئاسة الحكومة بعد الاستقلال.  ولكن ظنه خاب عندما شعر أن بريطانيا قد خذلته وأصبحت تحارب سيطرته على المؤتمر وتقف عثرة في توليه السلطة، خاصة وأن شعبيته الكبيرة في طرابلس أثارت مخاوف الإدارة البريطانية ومخاوف الأمير إدريس ملك المستقبل. 
وهكذا بدأ السعداوي في محاربة النظام الاتحادي الذي وافقت عليه الجمعية الوطنية التأسيسية، رغم أنه هو الذي كلف من قبل المستر أدريان بيلت مندوب الأمم المتحدة – بدأ مهمته في ليبيا في يناير 1950 - بتعيين مندوبي طرابلس في لجنة الواحد والعشرين، التي قررت تأليف الجمعية الوطنية التأسيسية بالتعيين، والتي وافقت بدورها على النظام الفيدرالي، الذي يعطي الملك السيطرة الكاملة على مجرى الأمور في البلاد  نتيجة توزيع السلطات بين الحكومة الاتحادية والولايات التى ترتبط بالملك رأسًا، كما أنه يعني في الواقع تقسيم ليبيا إلى ثلاث دول.
وقد عملت الإدارة البريطانية، بعد معارضة السعداوي للنظام الفيدرالي، على تفتيت وإضعاف المؤتمر الوطني وتشجيع بعض أعضائه على الانشقاق عن السعداوي، خاصة أن أهم أعضاء المؤتمر الوطني، رغم شعبيته، هم من كبار الساسة والتجار وكبار موظفي الإدارة البريطانية من الليبيين، الذين كانوا يرون في تأييد الإدارة البريطانية للمؤتمر ما يخدم مصالحهم، وتخليها عن المؤتمر سيهدد هذه المصالح. ولكن معظم جماهير الشعب في طرابلس والشباب والمثقفون بقوا مخلصين للمؤتمر الوطني وللسعداوي حتى النهاية.
ورغم أن السعداوي اختير من طرف المندوب السامي للأمم المتحدة لتعيين العضو الليبي في مجلس الأمم المتحدة الاستشاري التابع للمستر أدريان بيلت المندوب السامي للأمم المتحدة في ليبيا، وكذلك تعيين أعضاء طرابلس السبعة في لجنة الواحد والعشرين، وهو اعتراف ضمني بزعامته على إقليم طرابلس، إلا أنه بعد معارضته للنظام الاتحادي، وبموافقة من السيد إدريس السنوسي، أعطيت مسئولية تعيين أعضاء طرابلس العشرين في الجمعية الوطنية التأسيسية (لجنة الستين) لمفتي ليبيا الشيخ محمد أبوالأسعاد العالم نائب رئيس المؤتمر الوطني وزعيم الفريق المنشق عن السعداوي في المؤتمر الوطني. وهكذا أبعد السعداوي عن المشاركة الرسمية في النشاط السياسي لتأسيس الدولة الليبية، وبقي في المعارضة حتى انتخابات مجلس النواب الأولي ونفيه خارج البلاد في أواخر فبراير 1952م.


إعـلان الاستقلال
كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد رفضت مشروع بيفن ـ سفورزا بصوت واحد، هو صوت دولة هايتي الذي صوّت مندوبها (إيميل سان لو) ضده، رغم تعليمات حكومته بالموافقة. وقررت الجمعية العامة بعد ذلك استقلال ليبيا قبل أول يناير 1952، وإرسال المستر أدريان بيلت مندوبًا ساميًا للأمم المتحدة، لمساعدة الشعب الليبي على تنفيذ هذا القرار، وعين له مجلس استشاري يتألف من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا ومصر وباكستان ومندوب عن كل من طرابلس وبرقة وفزان والأقليات.
وكان الخلاف في المجلس الاستشاري كبيرًا بين بريطانيا وفرنسا تدعمهما الولايات المتحدة، ويساند هذه المجموعة ممثل الأمم المتحدة المستر أدريان بيلت والدول المعارضة لها التى تتكون من مندوبي مصر وباكستان، حول إنشاء الجمعية الوطنية التأسيسية بالتعيين واختيار النظام الاتحادي. كان ممثل إيطاليا وكذلك ممثل الأقليات محايدين بين المجموعتين، حرصًا على مصالح الإيطاليين المقيمين في ليبيا. وكان ممثل طرابلس السيد مصطفى ميزران، أحد نواب رئيس المؤتمر الوطني، يؤيد مجموعة مصر وباكستان، بينما كان ممثل برقة السيد علي الجربي وممثل فزان السيد أحمد صوفو، والذى استبدل بسبب اعتلال صحته بالسيد محمد عثمان الصيد فيما بعد، يؤيدان إنشاء الجمعية الوطنية التأسيسية بالتعيين والنظام الفيدرالي حسب أوامر الأمير إدريس السنوسي والسيد أحمد سيف النصر.
كانت المعارضة في طرابلس قوية ضد تدخل الإدارة البريطانية وضد النظام الفيدرالي، وتتجاوب مع سياسة السعداوي وحزب المؤتمر والجامعة العربية والدول العربية. وتم إنشاء الجمعية الوطنية التأسيسية بالتعيين والمساواة بين الأقاليم الثلاث. وكما ذكرت، عين أعضاء طرابلس سماحة مفتي ليبيا نائب رئيس حزب الموتمر  الوطني الذي استعان بحزب الاستقلال. وكان زعماء حزب الاستقلال من المعارضين للسياسة البريطانية، لكنهم وجدوا أنفسهم في عزلة، بعد سيطرة السعداوي على الرأي العام في طرابلس، واتهموا شعبيًا بالتعاون مع إيطاليا وهي العدو القديم لليبيين، وكان على زعماء حزب الاستقلال إما تأييد السعداوي، الذي أصبح معارضًا لسياسة الملك والإدارة البريطانية والمندوب السامي للأمم المتحدة، مما يعرضهم إلى الاصطدام مع الإدارة البريطانية والحكومة الليبية القادمة، وفقدان نفوذهم ومكانتهم السياسية بين أنصارهم، أو الانضمام إلى المنشقين عن السعداوي من أعضاء المؤتمر الوطني برئاسة سماحة الشيخ مفتي ليبيا محمد أبو الأسعاد العالم والمشاركة في عملية الإعداد للاستقلال حماية لمصالحهم، خاصة أنهم من العائلات القديمة ذات النفوذ القبلي، وفي حاجة للاحتفاظ بنفوذهم. وهكذا شمل الشيخ المفتي بعض أعضاء حزب الاستقلال في قائمة أعضاء طرابلس في الجمعية الوطنية التأسيسية، رغم أن الأغلبية من الأعضاء المختارين العشرين كانوا من أعضاء المؤتمر الوطني المنشقين عن السعداوي.

 

 

 


16 مارس 1950م نيويورك: المستر أدريان بيلت (في وسط الصورة) مع المستر ديفيد فون (على الشمال) مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لشئون المؤتمرات والخدمات العامة والمستر توماس باور (على اليمين) سكرتير بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا.
أما بخصوص موقف المستر بيلت المندوب السامي للأمم المتحدة، فقد حاول التوفيق بين أعضاء مجلسه، إلا أنه خضع في النهاية لسياسة بريطانيا المدعمة من أمريكا والملك إدريس. ورأيه حسب ما سمعت منه في فترات تالية، أنه كان حريصًا على تحقيق استقلال ليبيا في موعده المحدد، ولم يكن في الإمكان إرغام برقة والملك إدريس على قبول الوحدة الكاملة، أو إخضاع إمارة إدريس لاستفتاء شعبي. والحل الفيدرالي تحت التاج السنوسي كان في رأيه الحل الممكن، لأن البديل هو إعادة القضية الليبية إلى الأمم المتحدة، وعندئذ قد يقترح وضع ليبيا تحت الوصاية من جديد، وهذا ليس في صالح الشعب الليبي. وافقت الجمعية الوطنية التأسيسية على الدستور الليبي الاتحادي وأعلنت مبايعة الأمير إدريس السنوسي ملكًا على البلاد، كما اختير السيد محمود المنتصر رئيسًا لأول حكومة اتحادية، وعين ولاة لطرابلس وبرقة وفزان.

المعـاهدة البريطانـية
وحال استقلال ليبيا بدأ العمل لتوقيع معاهدة تحالف مع بريطانيا لضمان موارد مالية، خاصة أن ليبيا كانت أفقر بلاد في أفريقيا بحسب تقارير الأمم المتحدة آنذاك، وليس لها دخل لتغطية حتى مصروفاتها الإدارية. كما أن الدول العربية لم تتقدم بأية مساعدة في هذا الشأن، وحسب ما ذكر آنذاك، أن الحكومة المصرية اشترطت ضم منطقة الجغبوب إليها مقابل تقديم مساعدة مالية سنوية قدرها مليون جنية مصرى. كان الرأي العام الشعبي السائد في منطقة طرابلس يؤيد السعداوي، وكان الجميع يرى أن وضع الدستور من طرف جمعية تأسيسية غير منتخبة غير قانوني وغير ملزم وخطأ لا يغتفر، واختيار النظام الفيدرالي سيؤدي إلي تقسيم البلاد، وأن توقيع المعاهدة مع بريطانيا سيجعل استقلال ليبيا شكليًا، وأن المساعدات المالية يجب أن تطلب من الدول العربية أو الأمم المتحدة وليس من أية دولة أو دول معينة ومشروطة بتقديم تسهيلات دفاعية، ولهذا فإن النظام السياسي الليبي الفيدرالي أقيم بدون موافقة الشعب. واتجه الشعب الليبي بعد ذلك إلى الزعيم جمال عبدالناصر في مصر، الذى أصبح محور اهتمام وأمل الجماهير الليبية.
كان الدستور الليبي من أحدث الدساتير في العالم، أعده خيرة خبراء القانون الدولي والدستوري في ذلك الوقت، وفصلت فيه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وضمنت فيه كل الحريات وحقوق الإنسان، ولكنه أعطى للملك سلطة حل البرلمان، مما يمكنه من فرض إرادته بشتى الحجج. كما أن الدستور كان يحتاج إلى جهاز تنفيذي متقدم تفتقده ليبيا في ذلك الوقت. كان الملك رغم نزاهته وزهده من الجيل القديم، ورغم خبرته السياسية الطويلة، إلا أنه لم يكن قادرًا على تفهم الإدارة الحديثة، وهذا ما قاله لي بعد ذلك المستر أدريان بيلت مندوب الأمم المتحدة.
بدأ الملك بعد تقلد العرش رسميًا، يحكم البلاد بأسلوب الحكام العرب من جيله، ولم يكن الدستور في رأيه ملزمًا له في اتخاذ القرارات. وشهادة للتاريخ، فإنه رغم كل تلك السلبيات فإن النظام الملكي كان يحمل بذور الديمقراطية والتطور وممارسة الحريات، وحاول المسئولون الأوائل من رؤساء حكومات ووزراء وموظفين تسيير الأمور في حدود إمكانياتهم المحدودة على كل الأصعدة السياسية والإدارية.
سأتعرض بشئ من التفصيل، أثناء سردي للأحداث في هذه المذكرات، عن الحكومات التي سنحت لي الظروف العمل فيها، والحكومات التي عملت فيها قريبًا من رؤسائها، في الفترة التي تبدأ بأول 1964م وإلى الفاتح من سبتمبر 1969م. ولا أريد التعرض بالتفصيل للفترة بين 1951 و1956م التي كنت فيها غائبًا عن البلد في القاهرة لمواصلة دراستي الجامعية، وكذلك الفترة ما بين 1956 و1963م التي كنت فيها موظفًا في وزارة الخارجية وفي السفارات الليبية، بعيدًا عن أصحاب القرار وشئون الحكم في البلاد، مع التعرض إلى أحداث هذه الفترات بشئ من الاختصار، بهدف التسلسل التاريخي لأحداث العهد الملكي منذ نشأته وحتى نهايته.

الدراسة الجامعـية في القاهـرة
بعد التخرج من السنة التوجيهية بمدرسة طرابلس في يونيو 1951م، أرسلنا إلى القاهرة من قبل حكومة ولاية طرابلس المؤقتة، في بعثة دراسية بمخصصات ضئيلة لا تتجاوز 60 جنيها مصريًا في السنة للطالب، وهو مبلغ لا يفي بحاجاتنا، بينما كان زملاؤنا الطلاب المبعوثين من ولاية برقة، يحصلون على عشرين جنيهًا شهريًا. وقد كانت هذه المعاملة المختلفة لطلاب من نفس البلاد موضع نقد وتذمر لدى طلاب طرابلس. ولكن الحكومة الاتحادية بعد تأليفها سوت بين الطلاب الليبيين في المعاملة. والاختلاف الثاني بين طلاب طرابلس وطلاب برقة، هو عدم اعتراف مصر بشهادة التوجيهية للطلاب القادمين من طرابلس، لأن المنهج المقرر فيها ليس مصريًا، كما هو الحال في برقة، وهذا يمثل التفرقة التي فرضتها الإدارة البريطانية بين طرابلس وبرقة في المناهج الدراسية والعملة والنظم الإدارية.
وهكذا كان علينا طلاب طرابلس إعادة السنة التوجيهية في مصر، وخسر جيلنا سنة أخرى بعد خسارة ثلاث سنوات الحرب في الابتدائية. وكان عدد أفراد الفوج الأول من طلاب البعثة ثمانية طلاب هم خيري الصغير، شعبان عريبي، أحمد بن لامين، عبدالله بن لامين، علي الميلودي، عز الدين المبروك، محمد سيالة، وبشير السني المنتصر. وبعد ذلك لحقت بهم دفعة ثانية تتألف من عشرة، وأذكر منهم إبراهيم الفقيه حسن، إبراهيم محمد الميت، المبروك العجيل، سالم كوكان، شمس الدين أبوشويرب، راشد السراج، محمد بن محمود، سالم عطية وعبدالحفيظ سليمان.
وقد رافق البعثة الأستاذ محمود البشتي مدير مدرسة طرابلس الثانوية آنذاك، وقرر إقامتنا في منطقة المعادي في شقتين، ووزعنا على ثلاث مدارس ثانوية، هى الخديوية والخديوي إسماعيل والإبراهيمية في القاهرة، ودخلت أنا المدرسة الخديوية في حي السيدة زينب في السنة التوجيهية قسم رياضي. وكانت السنة الدراسية (1951-1952م) مليئة بالأحداث الوطنية في مصر. وكانت حكومة مصطفى النحاس باشا قد ألفت في ظروف صعبة، وكان هناك خلاف بين الملك فاروق وضباط الجيش، تجلى في انتخابات نادي الضباط. وفي هذه السنة أعلن النحاس إلغاء معاهدة سنة 1936م في البرلمان المصري بالجملة المشهورة "باسم مصر وقعت المعاهدة وباسم مصر أطالبكم اليوم بإلغائها".
وسرعان ما اصطدم البريطانيون مع الحكومة المصرية والمقاومة الشعبية في منطقة القناة، بعد أن جلا البريطانيون من ثكناتهم في القاهرة والإسكندرية، وأصبحت المعارك اليومية بين القوات البريطانية والمقاومة المصرية في منطقة القناة الشغل الشاغل للشعب المصري، وعلى رأسهم الطلاب. وكانت المظاهرات تجتاح شوارع القاهرة والإسكندرية باستمرار منادية بجلاء البريطانيين. وسرعان ما تطورت الهتافات ضد الملك، وكان حريق القاهرة، وإقالة حكومة النحاس باشا، وتعيين حكومات ضعيفة غير شعبية، وصفت من طرف الطلاب بالحكومات العميلة.
كان حريق القاهرة إنذارًا بالثورة الشعبية ضد الاستعمار والملك والإقطاع، ورد فعل لهزيمة مصر في حرب 1948 ضد إسرائيل، واحتجاجًا على قضية الأسلحة الفاسدة، التي اتهم فيها كبار المسئولين وعلى رأسهم الملك نفسه. وزاد الأزمة تدخل الملك في انتخابات نادي الضباط، وطلاق الملك من زوجته الأولى فريدة، وانتشار أخبار استهتاره وحياة المجون التي كان يعيشها. وفي هذه الفترة ولد ابنه أحمد فؤاد وسط هذه الأحداث، وقد استغل الشعب الاحتفالات التي أقيمت بهذه المناسبة لإظهار سخطه على الملك. ولازلت أذكر هذه الأيام العصيبة التي عشناها، وشاركنا فيها الشعب المصري كفاحه ومرحلة غليانه، وما كان يجري في تلك الفترة، وقد أثر هذا في حياتنا.
وكانت متابعتنا لما كان يجري في بلادنا ليبيا امتدادًا لما يجري في مصر، وتسلط الاستعمار وتدخلاته في ما يجري في بلادنا وفلسطين والعالم العربي والإسلامي. كانت الدراسة شبه متوقفة خلال السنة الدراسية 1951-1952، وكان علينا الاعتماد على مراجعة دروسنا في البيت لدخول امتحان الشهادة الثانوية في يونيو 1952م. وكانت إعادتنا للتوجيهية في مصر قد ساعدتنا على استيعاب المنهج المقرر بسهولة.
بعد امتحان يونيو رجعنا إلى طرابلس للإجازة الصيفية، وسمعنا هناك قيام ثورة 23 يوليو المصرية بقيادة الضباط الأحرار، وقد أعلن محمد نجيب رئيسًا لها. وسرعان ما عدنا إلى مصر بعد الثورة في سبتمبر للالتحاق بالجامعات المصرية بعد نجاحنا في امتحان التوجيهية. كنت أنوي دخول كلية الهندسة لأن مجموعي من القسم الرياضي كان عاليًا يزيد عن 80% ويؤهلني لدخول الكليات العملية، إلا أن تدخلات غير معروفة أدت إلى تحويل طلبات جميع الطلاب العرب غير المصريين المقدمة لجامعة القاهرة إلى كليات جامعتي الإسكندرية وجامعة إبراهيم (سميت جامعة عين شمس فيما بعد). والغالب أن السبب كان تقدم عدد كبير من الطلاب العرب الحاصلين على مجموعات عالية إلى كليات جامعة القاهرة يفوق عدد الطلاب المصريين من الحاصلين على تقدير عال. ولا زلت حتى اليوم لا أعرف السبب في تغيير رأيي في آخر لحظة. فحال ما سمعت رغبة جامعة القاهرة تحويل كل طلباتنا الى كليتي الهندسة بجامعتي الإسكندرية وعين شمس قررت سحب أوراقي والتقدم بها الى كلية التجارة جامعة القاهرة.
كان هدفي أن أتخصص في الاقتصاد والعلوم السياسية، خاصة وأن مجال العمل سيتيح لي الدخول في السلك الدبلوماسي الليبي بسهولة. كما أن زميلين لي قررا الدخول لنفس الكلية للغرض نفسه، إلا أن وضعهما كان يختلف عن وضعي، فأحدهما ابن وزير، والثاني ابن نائب برلماني أصبح وزيرًا بعد ذلك، وقد ساعد هذا على عدم منعنا من طرف الحكومة الليبية دخول قسم العلوم السياسية. فقد كانت الحكومات العربية، بما فيهم ليبيا، ضد دخول الطلاب إلى كليات العلوم السياسية. وقد وجدت صعوبة في سحب أوراقي من إدارة الجامعة بعد أن قدمتها السفارة الليبية رسميًا لتحويلها الى كلية الهندسة، خاصة بعد أن انتهى موعد تقديم الأوراق، ولكن أمام إصراري سلملها لي سكرتير عام الجامعة على أن أتحمل مسئولية عدم قبولها. أسرعت بأوراقي إلى كلية التجارة فعارض مسجل الكلية قبولها لانقضاء الموعد المحدد للقبول، ونصحني بإرجاع أوراقي الى إدارة الجامعة لتحويلها لكلية الهندسة بجامعة إبراهيم كما تقرر.
ولكنني لم أفشل وصممت على مقابلة عميد الكلية، وبقيت أمام مكتبه ساعات طويلة حتى تمكنت من الكلام إلى وكيل الكلية الدكتور عز الدين فريد وهو خارج من مكتب العميد، وشرحت له وضعي، ورغم أنه بدوره أبدى شكه في قبولي لتأخر الوقت، إلا أنه عطف على رجائي وتوسلاتي ووعدني بالمحاولة مع العميد، وأخذ أوراقي ودخل بها على العميد، وانتظرته على أحر من الجمر. وما هي إلا دقائق حتى رجع بأوراقي مؤشرًا عليها من العميد بالقبول، وطلب مني الإسراع بتسليمها إلى المسجل، الذي استغرب هذا الإجراء الاستثنائي، وطبعًا قبل المسجل أوراقي وعدت مطمئنًا إلى البيت.
استغرب زملائي الليبيين تركى لكلية الهندسة، وكان عذري أن الطبيب نصحني بعدم دخول كلية الهندسة لضعف نظري. وفعلًا لم يقرر الدكتور نجاحي في الامتحان الطبي إلا بعد أن استعملت نظارة للقراءة لأول مرة. وهكذا بدأت دراستي الجامعية في كلية التجارة جامعة القاهرة، وأقمت مع زميلين لي هما أحمد بن لامين، وقد أصبح صهري بعد ذلك وتزوج أختي فاطمة، وكان قد دخل كلية الحقوق، والثاني كان عبدالله بن لامين ودخل معي كلية التجارة، وقد عشنا معًا خلال دراستنا في الجامعة.
كانت سنوات الدراسة بالجامعة حافلة بالأحداث السياسية في مصر. فقد كان دخولنا للجامعة في الأسابيع الأولى للثورة المصرية، وعاصرنا إلغاء النظام الملكي، وقضية رشاد مهنا، والخلاف بين مجلس قيادة الثورة بزعامة جمال عبدالناصر والرئيس محمد نجيب، ورد فعل تنحيه الأخير لدى الرأي العام المصري، ونشاط الإخوان المسلمين في الجامعة وسيطرتهم على اتحادات الطلاب، ونشاط الأحزاب السياسية الأخرى داخل الجامعة. كما كانت الحركات السياسية العربية القومية والبعثية والشيوعية نشطة إلى حد كبير بين الطلاب، إلا أنني كنت من الذين لم تبهرهم الأنشطة الحزبية التي لا يستفيد منها سوى زعماء الأحزاب السياسية، الذين يسخرون الطلاب لمصالحهم الحزبية الخاصة.

كان ضغط زملائنا من الإخوان المسلمين كبيرًا علينا وعلى الطلاب العرب، وكنت أشعر بضيق لمحاولتهم إقناعي بالانضمام إليهم وفصلي عن الطلاب المصريين الحزبيين، وخاصة في الرحلات الجامعية التي كانوا يخصصونها للوعظ والإرشاد بدلًا من الإطلاع والراحة. وقد استطعت تجنب الانضمام إليهم، مع عدم المساس بعلاقات الصداقة معهم، حتى بعد اشتعال الخلاف بين الإخوان المسلمين والثورة المصرية، ومحاولة اغتيال جمال عبدالناصر، وحل جمعية الإخوان المسلمين، وعزل محمد نجيب للمرة الثانية. وقد اختفت وجوه الإخوان المسلمين من مدارج الجامعة بعد هذه الأحداث وقتل من قتل وسجن الباقي، وقدموا للمحاكمة مع غيرهم من زعماء وأعضاء جمعية الإخوان المسلمين. وحمدت الله أني لم أنضم إليهم، وزادني ذلك إيمانًا بعدم الانضواء تحت أي تنظيم حزبي مستقبلًا - رغم أن كثيرًا من زملائي الليبيين انضموا إلى هذا التنظيم أو ذاك - وقد ساعدني هذا على التفرغ لدراستي ونجاحي الأول في مجموعتي دائمًا طوال سنوات الدراسة في الجامعة.

علاقاتنا بالطلبة الليبيين في مصر
كان الطلبة الليبيين موزعين على عدة جامعات في مناطق مختلفة، هي جامعة القاهرة (جامعة فؤاد سابقًا) وجامعة عين شمس (جامعة إبراهيم سابقًا) وجامعة الإسكندرية (جامعة فاروق سابقًا) وكليات جامعة الأزهر الشريف، ولم يكن يجمع الطلاب الليبيين اجتماعيًا تنظيم أو ناد أو رابطة أدبية أو رياضية أو سياسية، سوى النادي الثقافي الطرابلسي، الذي حسب ما أذكر أسس من طرف طلاب الأزهر، وهو في منطقة الأزهر، ومعظم أعضائه من طلاب الأزهر وبعض الطلاب من طرابلس وبرقة في الجامعات المصرية. وكانت تلقى فيه المحاضرات وتعقد فيه الاجتماعات ويلتقي فيه الطلبة لتبادل الأحاديث ومناقشة الأحداث السياسية الهامة التي كانت تجري في ليبيا للإعداد للاستقلال، بالإضافة إلى مجلة "صوت ليبيا" التي كان يصدرها النادي وتحتوي على أخبار ومقالات هامة تعبر عن مشارب الطلاب واتجاهاتهم السياسية المختلفة، والمتعارضة أحيانًا في تلك الحقبة، وكانت هذه كلها تجربة ديمقراطية لحرية الصحافة وحق التعبير وإبداء الرأي.
كنا غير راضين عن وضع النادي، لأن جل أعضائه من طلاب الأزهر، فلم ينضم إليه ( في فترة أوائل الخمسينات على الأقل) سوى عدد قليل من طلاب الجامعات المصرية ومن الطلبة البرقاويين بصفة خاصة، مما ساعد على عدم تعارف الطلبة الليبيين وتوحيد كلمتهم في تلك الفترة الهامة، الأمر الذي انعكس على علاقاتهم بعد التخرج ورجوعهم إلى ليبيا. ومما زاد الطين بلة، كانت السلطات الليبية والإدارات العسكرية قبل الاستقلال تعامل طلاب طرابلس وبرقة معاملة مختلفة، كما كانت معاملة طلاب الأزهر غير عادلة من ناحية المساعدات المالية والعينية، ومعظم طلاب الأزهر كانوا يعتمدون على مواردهم الخاصة، واستمر هذا الحال بالنسبة لطلاب الأزهر حتى بعد الاستقلال إلى حد ما. وقد ساعدت هذه المعاملة المختلفة على خلق جفاء وفرقة بين الطلاب الجامعيين الطرابلسيين والبرقاويين، وبينهم وبين طلاب الأزهر، وباعدت بينهم، مما أضعف دورهم القومي والوطني في المشاركة السياسية في الفترة التي تلت عودتهم، في الوقت الذي كانت البلاد تنتظرهم على أحر من الجمر لافتقارها إلى الخريجين والكفاءات في الفترات الأولى للاستقلال.
وكنت مع زملائي من مصراته، أحمد وعبدالله بن لامين، أعضاء في النادي نذهب إليه أحيانًا بسبب بعده عن سكنانا، للاجتماع بزملائنا الطلاب من جامعة الأزهر، وخاصة أن عددًا كبيرًا منهم من مصراته. وقد كنا نلتقي في تلك الفترة مع الطلاب مصطفى عبدالسلام التريكي إخوته محمد وعلي، وإبراهيم ارفيدة، وعمر التومي الشيباني وغيرهم من الطلاب، ونتزاور في العطلات الأسبوعية، ونأكل معًا البازين، الذي يعتبر في ليبيا من الأكلات المحببة. وكانت هذه المناسبات فرصة جميلة وطدت علاقاتنا ببعض، واستمرت حتى بعد رجوعنا إلى البلد بعد إتمام دراساتنا.             الشيخ مصطفى التريكي

كانت دراستي للعلوم السياسية للعمل الدبلوماسي، وليست سلمًا للعمل السياسي أو خدمة لفكرة معينة أو لمذهب سياسي معين. وكنت رغم عدم نشاطي الرياضي والاجتماعي في الجامعة، أنال دائمًا ثقة كل زملائي ومن عرفني عن قرب، وثقة كل من اشتغلت معهم بعد ذلك في حياتي العملية. كنت متسامحًا ومجاملًا إلى درجة الإفراط، وكان رؤسائي في العمل في حياتي العملية يثقون بي وبطريقتي في معاملة الناس. ولا أذكر أن أحدًا اشتكى من معاملتي له، أو أني أسأت إلى أحد، أو قصرت مع طالب حق، وهذا كان دائمًا مبعث رضى لي وراحة لضميري.
كنت أومن بأن الإنسان يجب أن يكون مستمعًا أكثر من أن يكون متكلمًا، وأحزن كثيرًا عندما أفشل في إقناع الآخرين بوجهة نظري، التي أبديتها لهم بإخلاص وحسن نية، وأحيانًا عن تجربة ودراية بالموضوع الذي يثار. ورغم أني وجدت تجاوبًا وتفهمًا من البعض، وجدت أن معظم الناس تحب المديح، وسماع كلمات الإعجاب بهم، أكثر من سماع النقد والنصيحة. 
هذه انطباعات سريعة في غير موضعها في المذكرات عن تجربتي في عملي قريبًا من أصحاب القرار في الحكومة. الشئ الآخر الذي أود الإشارة إليه في هذه العجالة، هو أن المناصب والمهام والوظائف التي توليتها أو أسندت إلي، لم تكن موضع طموحي أو هدفي في الحياة، ولم أسع إليها علنًا أو ضمنًا، بل كلها كانت تسند لي قبل أخذ رأيي مقدمًا، وكثيرًا ما قبلتها غير راض عنها. وأعتقد الآن أن الإنسان مسير في حياته وفقًا للظروف التي تحيط به والفرص التي تتاح له، وليس بما يقرره المرء أو يخطط له مسبقًا.
كانت دراستي في القاهرة تجربة مفيدة، وقصة طويلة، للفترة من سبتمبر 1951 إلى يونيو 1956م. إن الحديث عن هذه الفترة لا يمكن اختصاره في صفحات معدودة، فهي فترة قيام ثورة 23 يوليو، ومرحلة إرساء الأساس للحكم الناصري وبناء صرح الجمهورية العربية المتحدة، وكانت تحولًا تاريخيًا في تاريخ مصر والعرب والشرق الأوسط والعالم. كان صراع ثورة يوليو مع الاستعمار والقوى الداخلية عنيفًا، وكانت دعوة عبدالناصر إلى القومية العربية والوحدة العربية شرارة امتد لهيبها إلى كل أرجاء العالم العربي من الخليج إلى المحيط، ودفعة قوية لحركات التحرير والاستقلال في أفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية، ساعدت على اشتعال الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفيتي. إن من عاش هذه الفترة في مصر، وفي جامعة القاهرة بالذات، عاش تاريخ انبعاث القومية العربية والأمة العربية، وبداية العمل من أجل قيام الوحدة العربية الشاملة، والصراع والمواجهة مع الاستعمار القديم لفرنسا وبريطانيا وأسبانيا، ومع الهيمنة وسياسة الاستحواذ الأمريكية.
كانت جامعة القاهرة إحدى قلاع الثورة، فقد كانت تضم كبار رجال العلم في مصر في جهاز التدريس، وميدان النشاط الوطني للشباب والطلاب والصراع الحزبي والمذهبي. وكانت كلية التجارة في تلك الفترة تضم نخبة من أساتذة الاقتصاد وإدارة الأعمال والعلوم السياسية والقانون، وكان من ضمن أساتذة الكلية الدكتور عبدالعزيز حجازي الذي أصبح بعد ذلك رئيسًا للوزراء في عهد عبدالناصر، والدكتور بطرس غالي الذي تولى الوزارة وعين بعد ذلك سكرتيرًا عامًا للأمم المتحدة، والدكتور عبدالجليل العمري والدكتور عبدالمنعم البنا والدكتور فتح الله الخطيب والدكتور إبراهيم صقر والدكتور وهيب مسيحة أب الاقتصاد في مصر والدكتور عبدالله مرزبان والدكتور حسين الشافعي أب علم الإحصاء في مصر وغيرهم كثيرين، ومعظمهم تولوا الوزارة ومناصب هامة في سنوات تالية، حيث كان الرئيس عبدالناصر يركز على الاقتصاد ويستعين برجال الاقتصاد في جهازه الحكومي.
كان قسم العلوم السياسية يضم عددًا قليلًا من الطلاب العرب والمصريين، وكان الطلاب المصريين لا يقبلون على قسم العلوم السياسية ويفضلون قسم المحاسبة وقسم إدارة الأعمال، لأن فرص العمل بعد التخرح منهما أوسع وأضمن، وكان أغلب الطلاب المصريين معنا من عائلات سياسية أو ثرية أو دبلوماسية، ولهم طموح في دخول السلك الدبلوماسي المصري أو العمل السياسي، وكانت هذه الفرص محدودة وتتطلب استعدادًا علميًا ولغويًا غير عاديين. وكنا ثلاثة طلاب من ليبيا في هذا القسم، وكان بيننا طلاب من سوريا والسودان والعراق والأردن وفلسطين.
وأذكر أن معظم الطلاب الذين كانوا معنا بما فيهم المصريين دخلوا السلك الدبلوماسي. وقد سنحت لي الفرصه للقاء بعضهم بعد ذلك في الحياة العملية كسفراء لبلادهم في الخارج ومنهم السفير عبدالعزيز الكباريتي من الأردن، والسفير سعد الدين الفرارجي من مصر، والذي أصبح سفيرًا لمصر لدى الأمم المتحدة في جنيف عندما كنت أعمل مع الأمم المتحدة، ثم أصبح مساعدًا لسكرتير عام الأمم المتحدة ورئيسًا للقسم العربي في برنامج التنمية في نيويورك، وبعد ذلك عين سفيرًا للجامعة العربية لدى الأمم المتحدة في جنيف.

 

 

 

 


    بشير المنتصر بين أساتذة وطلاب العلوم السياسية لجامعة القاهرة ويظهر بينهم الدكتور بطرس بطرس غالي الأستاذ بكلية التجارة شعبة العلوم السياسية آنذاك (الصف الثاني، الثاني من الشمال)

وكان معنا في قسم العلوم السياسية بعض ضباط الجيش، وأذكر منهم الرائد حسن مهران، والرائد علي إبراهيم أخ السيد حسن إبراهيم عضو مجلس قيادة الثورة المعروف. وكان حسن إبراهيم في تلك الفترة وزيرًا لشئون الرئاسة ومكتبه بقصر عابدين، وكان مختصًا بشئون ليبيا. وقد أخذنا نحن الطلبة الليبيين إليه زميلنا أخوه علي إلى مقابلته في قصر عابدين، ورحب بنا، وأعرب عن استعداده لحل أية مشاكل قد نواجهها، فشكرناه وأكدنا له أننا نعيش في بلدنا الثاني مصر مكرمين وليس لدينا أية مشاكل. هذا وأذكر أننا دعينا في سنة 1953م الى مأدبة إفطار في رمضان في نادي الضباط في الزمالك من طرف أعضاء مجلس قيادة الثورة برئاسة جمال عبدالناصر، الذي لم يصبح رئيسًا للجمهورية بعد، مع مجموعة من الطلاب العرب في الجامعات المصرية.

 

 

 

 

بشير المنتصر بين طلاب العلوم السياسية بجامعة القاهرة ويظهر بينهم المقدم علي إبراهيم أخ السيد حسن إبراهيم عضو مجلس قيادة الثورة المصري

كان ضباط الثورة لا زالوا غير معروفين لدى كل الناس، وقد جلس كل واحد منهم على مائدة ضمت مجموعة من الطلاب العرب، كما تبادلوا مقاعدهم على الموائد حتى يمكنوا جميع الطلاب العرب الحاضرين من مجالستهم جميعًا. وكان الحديث عن الكفاح ضد الاستعمار والقومية العربية والوحدة العربية، وقد أعربوا جميعًا عن سرورهم لوجودنا بينهم في مصر، وأننا سنكون رسل القومية العربية والوحدة العربية عندما نعود الى أوطاننا. وكان سرورنا عظيمًا لرؤية ضباط الثورة المصرية، وخاصة جمال عبدالناصر، في أوائل عهد حكومة الثورة، ولم يحضر معهم الرئيس محمد نجيب.
كانت دراستي الجامعية في مصر من أهم فترات حياتي، وقد بذلت جهدًا كبيرًا للاستفادة من وجودي في الجامعة. كان عدد المصريين بيننا نسبيًا أقل من نسبتهم العادية في أقسام الكلية والكليات الأخرى، وكانوا رغم قلة عددهم يتمتعون بمقدرات خاصة في اللغات الأجنبية، لأن بعضهم كان إما من أمهات أجنبيات، أو من أبناء الدبلوماسيين الذين قضوا شطرًا من حياتهم في الخارج وتعلموا في مدارس أجنبية قبل ثورة يوليو، كما كان بعض ضباط الجيش ضمن الطلاب، كما بينت، وقد دخلوا الكلية بعد الثورة لإعداد أنفسهم للعمل السياسي.
كانت المحاضرات ممتعة، وكان الخوض في علوم وشئون السياسة شيئًا جديدًا على الطالب العربي، بعد أن كانت حرامًا عليه. وكان الفكر الثوري ظاهرة جديدة أيضًا، كما كانت دراسة المذاهب الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية تطورًا للفكر العربي في علوم كان غير مسموح بها في العهد الملكي المصري. وكانت الكتب العربية في هذا المجال نادرة إن لم تكن مفقودة، ولهذا كان علينا الاعتماد على المصادر الأجنبية، وخاصة الإنجليزية. والسياسة على العموم هى  ممارسة أكثر منها علم يدرس في الجامعة.

 

 

 

 


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !