مواضيع اليوم

شهادة الترابي على العصر (حلقة 8)

مصـعـب المشـرّف

2016-06-15 15:18:44

0

 شهادة الترابي على العصر

حلقة (8)

 

مصعب المشرّف

14 يونيو 2016م


في الحلقة الثامنة من شهادة الترابي على العصر التي سجلتها له قناة الجزيرة في أكتوبر 2010م . وشرعت في بث حلقاتها بعد وفاته في مارس 2016م .....

في هذه الحلقة الثامنة أدلى الترابي بإنطباعات ؛ وأجاب على أسئلة وجهها له محاوره  أحمد منصور ، كان أهمها ما يلي:

1)   زيارات الترابي لعديد من الدول والأقليات المسلمة.

2)   مقابلة الترابي لشيخ الجامع الأزهر.

3)   وصفه للمواطنة السودانية بالإجتماعيات.

4)   إنتفاضة أبريل 1985م.

ومن ثم فبالإمكان تفنيد ومناقشة وجهات نظره هذه على النحو أدناه:


1)   زيارات الترابي لعديد من الدول والأقليات المسلمة .

قال الترابي أنه قد شرع في القيام بزيارات وجولات عالمية ، شملت نصف الكرة الأرضية في سبيل لم الشمل الإسلامي في الشرق والغرب . من الصين فأفغانستان والباكستان إلى الى الجزائر .... وذهب شمالا حتى الشيشان في روسيا ثم الولايات المتحدة وكندا ......

ولكن الذي لم يسأله عنه محاوره ؛ ولم يتمكن الترابي من تفسيره ؛ هو من أين حصل حسن الترابي على الأموال ، التي مكنته من الوفاء بنفقات هذه الزيارات الباهظة في معية وفود يلزمها تذاكر سفر وإقامة ومأكل ومشرب وملبس ... وهو الذي زعم في حلقات سابقة أنه إنما كان يعتمد في تسيير برامج وأنشطة وتوسيع عضوية الحزب .. كان يعتمد على إشتراكات الأعضاء وتبرعات بعض التجار ......

ربما يكون مثل هذا التبرير قد وجد قبولاً لدى البعض من غير السودانيين في الخارج .. ولكنه قطعاً لن يجد أذناً صاغية لدينا نحن الذين ندرك إلى أي مدى (محدود) يمكن أن تسهم به إشتراكات الأعضاء وتبرعات تجار في تمويل تكاليف أسفار الترابي ؛ ومن هم في معيته التي غطت نصف الكرة الأرضية؟


بمعنى آخر . فإن حسن الترابي إنما يثير إستفهاما يتعارض مع نصوص الدستور ؛ والذي يمنع اللجوء إلى دول أو جهات أجنبية للحصول على تمويل لأحزاب وتنظيمات ..... ويؤكد لنا هنا أنه إنما كان يعتمد في تمويل خطط وأمانات أنشطة وبرامج الحزب على تمويل خارجي على رأسه تنظيم الأصولية العالمية ؛ ولا نستبعد ألـ CIA.


وعليه فإن أي إتهامات ساقها الترابي أو قد يسوقها بعض تلاميذه عن إعتماد هذه الطائفة أو ذاك الجزب وتلك الجماعة على تمويل حارجي من هذه الدولة والمنظمة .. لن تكون هذه الإتهامات ذات جدوى من واقع قول الشاعر : لا تنهى عن خلق وتأتي بمثله عار عليك إذا فعلت عظيم ...... وهو المعيار الذي ينبغي على الأحزاب والجماعات الدينية خاصة أن تلتزم به وتدرك أنها محاسبة على موازينه.


نعم أفلح الترابي من هذه الزيارات التي قام بها على جني كافة فوائد الأسفار الخمسة .. وأضاف إليها أنه أصبح يتمتع بشهرة عالمية تخطت حدود بلاده . فلبت بذلك طموحاته إلذاتية إلى الشهرة التي جرى الإشارة إلى نزعته لتحقيقها خلال الحلقات السابقة من هذه السلسلة. 


وكذلك أتاح هذا التمويل السخي (بمقاييس دولة أفريقية) في تمكين الترابي من القيام بجولات عديدة داخل السودان لتنشيط العضوية والتجنيد لحزبه وعرض أفكاره . ساهمت دون شك في جذب الإنتباه الشعبي إليه على نحو ثبت فيما بعد أنه كان آنيـا ، ويندرج فقط تحت بند ردود الأفعال والإنبهار الوقتي بقيادي حزبي يتحدث للناس في ندوات عامة بمنطق الإسلام ويعدهم بالخلافة الراشدة بعد أن يؤدي الصلاة وسطهم بأداء الساسـة المسرحي.  


مشكلة جميع الأحزاب السياسية التي تدعي أنها إسلامية وترفع شعارات بهذا المعنى. وترتدي "أزياء" وترسم وجهها بقسمات ومظاهر إسلامية من لحى وشوارب وزبيب صلاة .. إلخ .. مشكلتها أنها سرعان ما تصطدم بعائق  شفاعة الأقوال بالأفعال .. وذلك أن الناس إنما تحاسبهم بأقوالهم وأفعالهم في آن واحد ..... فيجدونهم على الدوام يقولون ما لا يفعلون.


ولاشك أن الشعب السوداني قاطبة قد إندهش وهو يرقبهم يرفلون في النعيم وحلل الرفاهية ، ويتدافعون بالمناكب وراء ملذات الدنيا الفارغة ... وهو الذي كان يظن قبل عقود أنهم إذا وصلوا إلى كراسي الحكم فسيفشون العدل والزهد ...... ويرتضون المسكن والمطعم الحلال ... ويأكـلون عـيش ويلبسون خـيش.


2) زيارة الترابي للجامع الأزهر:

أخطر ما قاله الترابي ؛ أنه وبعد زيارته للقاهرة والحوار الذي دار بينه وبين شيخ الجامع الأزهر وقتها .... قال الترابي أنه لو لم يكن مسلماً ؛ وكان على أية ديانة أخرى غير الإسلام والمسيحية ؛ لكان قــد  تمنـى  الإلتقاء ببابا الفاتيكان عوضا عن لقاء شيخ الأزهر.


وحاول الترابي تغذية الإنطباع بأن الهالة التي يتمتع بها الأزهر أكبر من مساهماته وحجمه الحقيقي..... وأن هذا الصرح يبدو أجمل من الخارج عنه من الداخل.


والأطرف من كل هذا وذاك أن الترابي قد نسي إسم شيخ الجامع الأزهر الذي إلتقى به رغم إنطباعه السلبي هذا.


عموماً فإن الأزهر لا يجد قبولا وإرتياحا لدى الأصولية العالمية وكافة الأحزاب والجماعات الإسلامية على حد سواء .. فهؤلاء يرغبون في السيطرة على الجامع الأزهر لتحويله إلى منصة سياسية ، وتحريف الشرع وتوليف الفتاوي بدون سند شرعي أو دليل على الطريقة اليهودية التي تخدم النزعات البشرية السلبية ، ولا تلتفت إلى مكارم الأخلاق ....... في حين أن علماء الدين في الأزهر لهم وجهات نظر وقناعات راسخة تتمسك بتكريس وحصر دور الأزهر كمؤسسة دينية علمية تعنى بالدراسات الإسلامية والفتاوي الشرعية المعتمدة على الدليل الموثق من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.


ونلاحظ هنا أن الترابي في طرحه لبرنامج وأهداف زيارته لمصر .. نلاحظ هذا الدأب الذي كان ولا يزال تتبعه أحزاب وجماعات الإسلام السياسي ؛ وهي التي تتوجه دائما إلى كراسي السلطة في الدول التي تنشط فيها أو تسعى إلى إقامة نوع من قنوات الحوار معها .... وربما كان الترابي قد أدرك أشياء وارتسمت في ذهنه وفؤاده إنطباعات وقناعات إيجابية أخرى غير تلك التي خرج بها من زيارته لمصر . والتي لم يهتم فيها سوى بمقابلة الرئيس حسني مبارك و شيخ الجامع الأزهر.


على سبيل المثال ؛ لم يتطرق الترابي إلى أية محاولات أو إهتمام من جانبه للجلوس إلى أحزاب المعارضة ، وممثلي النقابات ، وبعض رؤساء وأعضاء اللجان البرلمانية المصرية ، وبعض منظمات المجتمع المدني .. إلخ ... وهذا عين الخطأ وقمة سوء التقدير.


وأستغرب كيف غاب عن خلد الترابي أن الجامع الأزهر مؤسسة ديينية غير سياسية ... وأنها عادة ما تفرق بين التدين كمسلك و الدين كعلم.


وأستغرب كيف غاب عن ذهن الترابي أن النواة الصلبة للأزهر الشريف إنما تتشكل من هيئات ولجان نافذة لايمكن حتى لشيخ الأزهر تجاوزها أو تخطيها.


بمعنى آخر فإن منصب شيخ الجامع الأزهر إنما يتركز نشاطه اليومي على التنسيق والإدارة العامة والإشراف على تطبيق الخطط والبرامج التي ترفع إليه من اللجان والإدارات ......  و "تمثيل الأزهر" في المناسبات المختلفة سواء الوطنية أو الدينية أو المدنية... وإستقبال الوفود التي تأتي من شتى بقاع العالم لتسجيل زيارات تشريفية ؛ هي أقرب إلى البروتوكولية منها إلى الحوارات ... الحوارات التي لا يقبل بها الأزهر إلا  وفق جدول أعمال متفق عليه سلفا ، وتحتضنه مؤتمرات معدة خصيصا لهذا الغرض.


وربما كان ينبغي على الترابي ( قبل تكوين وتحديد الغرض من زيارته للأزهر الشريف للإلتقاء بشيخه ) أن يلجأ أولاً إلى أضابير وكتب التاريخ التي تحكي عن علاقة الجامع الأزهر ، وردود أفعاله كمؤسسة دينية مع السياسة والحكم .. وعلاقته بالحكام والسلاطين والغزاة بمن فيهم نابليون بونابرت.....


ولا أدري إلى متى تبقى الأحزاب والقوى السياسية السودانية على ذات النسق الذي سعى به الترابي إلى مصر ؟ ..... ولماذا لا تتجاوز هذه الأحزاب والتنظيمات والقيادات السياسية الحوار مع المصري الحكومي الرسمي وحده لتمتد إلى أحزاب المعارضة والتنظيمات السياسية والإجتماعية المصرية الأخرى؟


والطريف في هذا الجانب أن الطرق الصوفية في البلدين تمارس هذا الحوار العريض دون أن يلتفت إليه أحد في السودان أو مصر .....

والملاحظ أن السفارة المصرية في السودان تمارس هذا الحوار وتنشط على أشدها في الخرطوم والأقاليم . وتلتقي بالعديد من زعماء وممثلي الأحزاب السودانية  والطوائف والقبائل بطول البلاد وعرضها في وضح النهار ، وعلى عينك يا تاجر ......


ولكن في المقابل لا نسمع ولا نرى للسفارة السودانية في القاهرة نشاطاً في هذا الجانب   ...

وحبذا لو إنتهجت السفارة السودانية نهجاً مهنيا بإقامة وإنشاء ومد قنوات تواصل مع تجمعات من الشعب المصري في تلك المدن والأحياء التي تشهد تمازجا بين الشعبين في عابدين ، وعين شمس .... وفي الدلتا والصعيد ، وأسوان ... هذا بالطبع إذا كان الهدف خلق قنوات تواصل شعبي ، ورأي عام مصري متعاطف لمحاصرة التوجهات الحكومية المصرية التي تهزأ هي وإعلامها ومنتجاتها الثقافية والفنية بكل ما هو سوداني وتقلل من قيمته لغرض في نفس يعقوب . وتحرص على الفصل بين الشعبين ؛ لكونها ترغب دائما في إستلاب القرار السوداني الرسمي .   وإبتلاع أراضي شعبه في حلايب وشلاتين ؛ ووضع يدها على المياه العذبة وأسماكها في إمتداد بحيرة السد العالي داخل أراضي شريكها السوداني.

  

3)   وصفه للمواطنة السودانية بالإجتماعيات:

وصف الترابي الشعب السوداني بأنه يفتقد للرابط الوطني ....  وأن إحساسه القبلي يطغى عليه .. وأضاف أن الإحساس الوطني فيه إنما مرده إلى العلاقات الإجتماعية وحدها.....

هذه الرأي يجانبه الصواب . ويفتقد المراجعة التاريخية لمراحل سياسية عديدة مر بها السودان قبل وبعد دخول الإسلام إلى أرضه .... وحيث لا يعقل مثلا أن يغفل الترابي نشأة حضارات وممالك سودانية إتخذت لها عواصم سياسية معروفة في العالم القديم على رأسها حضارتي نبتة ومروي ... ثم وممالك أخرى شكلت البعد والإطار االقومي للسودان الحديث على رأسها سلطنة الفونج ثم الدولة المهدية.


ثم أن الإنسان السوداني . وإن كان يحتفي بقبيلته . فإن هذا الإحتفاء يظل مبرراً طالما لم يكن عنصرياً .... وقد أشار إليه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بما هو مثبت وواضح :

فقد قال عز وجل وجل في محكم تنزيله : (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). (13) الحجرات.

لاحظ هنا قوله عز وجل (يا أيها الناس) ولم يخصص بمسلمين أو مؤمنين.

وجاء في صحيح البخاري قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

[ من إدعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام]

وغني عن الأمر هنا التوضيح بأن الأب يمتد إلى أعلى فأعلى .... وبمعنى آخر فإن القبيلة إنما تنشأ من صلب أب ومعظمها تتسمى بآبائها لا يغيرهم.


وجاء في سيرة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ أنه كان يوصي العرب بان يحفظوا أنسابهم عند تفويجه لهم خلال الفتوحات الإسلامية ...


ثم أن على الترابي وعلى كل من يقدح في إحتفاء السوداني بقبيلته وتمسكه بأصله .. على هؤلاء جميعا أن يدركوا أن إسم القبيلة يظل دائما بمثابة الوتد الذي يشد  إليه المواطن السوداني في رحيله وترحاله ومقامه سواء أداخل السودان أو خارجه .... وهو الإحساس والتوجه الفردي والجمعي الأغلب الأعم لدينا.


وأن الإنسان السوداني يصون إسم قبيلته من أن يلوثها بخلق وتصرفات سيئة  مع غيره خاصة في جانب الأمانة والعـفة .. وأن الناس عندنا حينما يمتدحون شخصا أو يعرضون عليه ثقتهم فإنهم عادة ما يقولون عنه (دا ولد قبائل) أو (دي بت قبائل) .... ولا يشير ذلك إلى عنصرية .... ولكن المعنى المراد بهذا التعبير والمصطلح أنهم يتعاملون مع إنسان يستدعي سمعة قبيلته فلا يشينها أو يجلب لها العـار....... وأن الإنتماء القبلي يظل في نهاية المطاف إلتـزام ومسئولية وليس عنصريةً.


والعيب ليس في ممارسة الإحتفاء بالقبيلة .. ولكن جاءت الكارثة والإنطباع السلبي أن بعضنا ربط القبيلة بإثنيات محددة وأحجم عن الإحتفاء بأخرى ..


واليوم  فمن حق كل سوداني أن يحتفي بقبيلته أياً كان موقعها الجغرافي أو أصولها ... وله الحق أن يعمل على صيانة سمعتها بجهده هو وأمانته وتصرفاته هو  قبل أن يرجو من الآخرين ذلك .... وأن نعمل جميعا على التوجه بالقبيلة نحو خدمة أهداف ومرامي السودان قاطبة .....

والمطلوب دائما ترسيخ مفاهيم واضحة لدى الأجيال بما يجعل منهم أناس يستحون على أقل تقدير ويعرفون معنى العيب ... وأنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

وللأسف فلا نرى في فكر الترابي شيئا عن الأخلاق  ....


وحبذا لو كان أول درس يتعلمه الطالب في المنهج الدراسي أن الله عز وجل وجل حين مدح حبيبه المصطفى قال فيه:

[ وإنك لعلى خلق عظيم ]

وأن السيدة عائشة بت الصديق رضي الله عنهما حين مدحت زوجها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قالت :

-         [ كان خلقه القرآن ]

وأنه صلى الله عليه وسلم حين ذهب يعلم ويربي أتباعه في حضرته ؛ ويعلمنا ويربينا نحن اللاحقون إلى يوم الدين. قال:

[ إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ]

........

فأين فــكـر الترابي من كـل هــذا؟ .. وهو الذي كان همه هو وجنوده أن يحكموا السودان لا غير.

..............

ويتبقى بعد ذلك الإشارة إلى إغفال الترابي جانب هام من جوانب إرتباط المواطن السوداني الحميم بأرضه التي هي جزء من أرض الوطن . وكافة المنتجات الأدبية والثقافية والفنية توثق لهذا الإرتباط الوثيق....

ولكن يبدو أن الترابي قد شغل نفسه ووقته بقراءة منتجات السوربون وفلاسفة الغرب العلمانيين ، ودعوات الألماني مارتن لوثر في التجديد اللاهوتي للكاثوليكية .... وظل عاكفا على البحث والتنقيب في كيفية الوصول إلى كراسي الحكم والنفوذ والسلطة السياسية ؛ أكثر من الإنشغال بمنتجات مجتمعه الإنسانية ؛ والتعاطي مع موروثات شعبه وتقاليده ؛ وحضاراته السالفة وأدبياته....   


على سبيل المثال فإن تمازج العرق الأموي مع الفونج والعبدلاب يؤكد أن تهمة العنصرية القبلية لدينا تظل محض خرافة.

ومآلات التمازج العربي مع قبائل النوبة في شمال السودان بوجه خاص تصبان في نفس الجانب من نفي العنصرية القبلية.

ونشأت مملكة وحضارة دارفور من تمازج عباسي هاشمي مع قبيلة الفور السودانية . فكان ذلك دليل على أن القبيلة السودانية تتسـع مضامينها وأحضانها لكل مسالم ينشد التعايش الحضاري الإيجابي .. يثريها ويصبح جزءاً لا يتجزأ منها.


وحتى يومنا هذا لا نرصد حروباً قبلية سودانية كان الهدف والغاية منها إستعباد أو الهيمنة أو إستلاب قبيلة لمقدرات قبيلة أخرى ..... وإنما كانت المنازعات تنشأ (ولا تزال) لأسباب إقتصادية تتعلق بتوغل أفراداً من رعاة هذه القبيلة داخل حدود وأراضي االقبيلة الأخرى دون إتفاق سابق بين الطرفين ....... لا بل وأن الواقع يشير إلى أن مثل هذه النزاعات تنعدم في حالات الرخاء وتوافر الماء والـكلأ  .... ولا تنشأ إلا في الأحوال التي تشح فيها الأمطار وتقل المياه وينعدم المرعى.


وكافة الحروب من المهدية والعالمية الأولى والثانية وحرب الجنوب ؛ يوثق التاريخ أن الجندي السوداني قد خاضها ومنحها دمائه دفاعا عن مصالح الوطن العليا أو عن المبدأ متجاوزاً العنصرية والقبلية.


ثم أن الثورة المهدية (كمثال وطني) قد تجاوزت القبيلة في نضال أتباعها ضد المحتل الغاصب ..... لا بل وقد إستلهم الإمام المهدي نفس الإستراتيجية الإسلامية في حروب الردة والفتوحات ؛ حين جعل لكل قبيلة راية وأمير قبل أن يوزعهم تحت الرايات العامة الأخرى للخلفاء بمسميات الزرقاء والخضراء والحمراء والصفراء...... ومن ثم فلم يؤدي ذلك إلى إثارة النعرات القبلية بقدر ما عزز من إنجاز قتالي مثمر.


وقد نشأت مدن سودانية بعينها (سنار ، الفاشر ، مدني ، أمدرمان) على هيئة تجمعات قبلية ... فجاءت على خلاف غيرها بمردود ثقافي إجتماعي فريد من نوعه ليعـزز الـرأي بأن القبيلة لدينا لا تعاني من قيود العنصرية ....


ويظل مشروع الجزيرة الزراعي المنارة الحضارية الأجدر بالفخر لجهة إمكان تحقيق واقع التعايش السلمي المثمر بين كافة القبائل السودانية.


وعند المقارنــة .... دون التطرق لأسماء دول عربية بعينها (تحاشياً للحساسية المطبوعة) فإن القبيلة السودانية تظل هي الأوفر حضارة وقدرة على التمازج والإنكباب السلمي على غيرها من قبائل أخرى بلا أدنى شـك.


4)   إنتفاضة أبريل 1985م

سرد تفاصيل وأحداث إتفاضة أبريل 1985 التي أطاحت بنميري وإتحاده الإشتراكي البائس إلى الأبد .... التوقف عند هذا السرد لا طائل منه ويظل إجترار غير منتج.


ولكن الذي لانجده وسط ركام الكثير المكتوب عن هذه الإنتفاضة . هو الجانب المتعلق بثمراتها التي أفضت إليها بما يتجاوز جعفر نميري ونظامه الشمولي .....

ولعلنا نتساءل في هذا الجانب عن منتجات هذه الإنتفاضة الإجتماعية والثقافية ... ولماذا لم تحظى حتى يومنا هذا بذلك الألق والبريق الذي زان ثورة 21 أكتوبر 1964م؟


نعرف عن ثورة أكتوبر 21 أنها أحدثت تغييرات مفصلية في قناعات المجتمع وعاداته وتقاليده ..... وأنها أثمرت عن أدبيات ومنتجات ثقافية متميزة عرفت فيما بعد بالأكتوبريات ... وشمل ذلك أناشيد وأشعار وموسيقى جماهيرية مافتيء الشعب يرددها ويحتفي بها إلى يومنا هذا.


جاءت إنتفاضـة 6 أبريل 1985م ؛ مقارنة بثورة 21 أكتوبر 1964م ، وكأنها ولدت يتيمة .....

ومن بين سطور إنتفاضة أبريل منذ دخول عمال السكك الحديدية في أتبرا إضرابا مفتوحا في  مارس 1985م إحتجاجا على غلاء المعيشة .... ومروراً بتظاهرات طلاب جامعة أمدرمان الإسلامية ..... وإنتهاء بدخول البلاد في حالة إضراب عام لم يخرجها منه إلا بيان القوات المسلحة على لسان وزير الدفاع سوار الدهب بالإستيلاء على مقاليد الحكم يوم 6 أبريل .. ومسارعته إلى إعلان فترة إنتقالية تستمر لمدة سنة واحدة .....  ثم بعد أن وجد الشعب الثائر أنه إنما أعاد إنتاج نفس الأحزاب والوجوه التي ورثت ثورة أكتوبر 21 ......


من بين سطور هذا الملخص يمكن إستخراج الكثير ، وإستنباط الأكثر من الجوانب التي أدت إلى تخلي الشعب عن إنتفاضته هذه التي سرقتها وإبتسرتها الأحزاب التقليدية للمرة الثانية . وعلى نحو يثير في نفس الشعب الزهد.


وربما لأن البعض (اليـــوم) ؛ يرغب في إعادة نفس السيناريو بنفس المؤسسات والوجوه القديمة .... ربما لأجل ذلك يجد الشعب اليوم المبرر في اللامبالاة للخروج مرة ثالثة على نحو يجعل خروجه محض ثـالثــة أثــافي ... فـتـرث ثورته نفس الأحزاب والوجوه التقليدية القديمة .. ثم يعقبها إنقلاب عسكـري بقيادة ضابط يظن نفسه عبقـرينـو ..... وتظل ساقية جـحـا تدور في الفراغ.


ولكن ذلك لا يكفي أن يجعل أهل القصر ينامون في العســل ..... فلربما تحدث الثورة لأسباب معاشـــة بدأت سحبها تتجمع لتنذر بثــورة جــياع ...


كانت ثورة أكتوبر تطالب بالحرية والديمقراطية .... وجاءت إنتفاضة أبريل تشكو من غلاء المعيشة  ..... فهل تأتي اليوم أو الغد ثورة ثالثة يشكو الشعب فيها من الجوع قبل أي ربيــع آخــر ؟




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات